الحالة التونسية نموذجا*
(قراءة في الإستراتيجيات النضالية للحركة الديمقراطية)
الأمين البوعزيزي**
تشهد الساحة السياسية في تونس إستفاقة لافتة منذ عقد من الزمان يميزها إجماع مختلف الأطياف السياسية على محور نضالي قوامه مطلب ″التحول الديمقراطي″ الذي تقاربت حوله أطياف سياسية مختلفة المراجع الفكرية. وتدعمت على قاعدته ساحة النضال الديمقراطي بأطراف سياسية - كانت الى عهد قريب تدين من يختارون هذا النهج النضالي وتصفهم بالإصلاحية وتضييع الوقت - أدخلت حيوية لافتة على المشهد السياسي ورفعت من سقف المطالب السياسية وكشفت حدود مساحة الفعل الديمقراطي التي انقسم المجتمع السياسي في تقييمها، ما بين خطاب انتصاري يباهي بالمنجزات الديمقراطية ترفع لافتته السلطة والأحزاب التي تصف نفسها بالأحزاب الإصلاحية المعتدلة. لكنها عاجزة عن تقديم جواب مقنع يفسر حالة الاحتقان في صفوف نشطاء الحركة الديمقراطية والحقوقية والنقابية، إذ لم تعد تهمة الخيانة والإستقواء بالخارج قادرة على إقناع أحد! وخطاب إحتجاجي عالي النبرة يميز نشطاء الحركة الديمقراطية يدعمه فعل ميداني في حكم المحاصر والممنوع، خطاب بالكاد يصلح عدة تعبوية سيئة الإخراج، لا على فهم ولا على توصيف لغز نظام سياسي يتضمن دستوره كل مقومات النظام الديمقراطي لكنه معطل عن أداء وظائفه، ولا تملك المعارضة أمامه إلا التظلم، مما جعل مطالبها تصنف في خانة المطالب الحقوقية ليس إلا!!
وقد مثلت الإنتخابات البرلمانية والرئاسية التي ستجرى هذه الأيام فرصة للوقوف أكثر على خطط المعارضة وملامح إستراتيجياتها النضالية التي إنقسمت ما بين داع إلى المقاطعة ″لغياب الحد الأدنى من شروط إجراء انتخابات نزيهة″، مكتفية بالتسابق في الرفع من منسوب الجملة الثورية في بياناتها. وتميز حزب العمال الشيوعي التونسي بالدعوة الى ″المقاطعة النشيطة″ أي المقاطعة المرفوقة بأنشطة سياسية وإعلامية لمزيد كشف ما سماه ″بالدكتاتورية النوفمبرية والديكور الديمقراطي″.
في حين إختارت أطراف أخرى خوض معركة ″المشاركة النضالية دفعا لمسار ديمقراطي يتطلب الكثير من الصبر والتضحيات″ (حركة التجديد والتكتل من أجل العمل والحريات وحزب العمل الوطني والحزب الديمقراطي التقدمي الذي قاطع الرئاسية بعد تعذر قبول ترشح مرشحه، مكتفيا بالمشاركة في التشريعية ثم قاطعها إحتجاجا على ″إسقاط أغلب قائماته″).
وهو ما يجعلنا في حاجة إلى عدة نظرية صلبة قادرة على تفسير لغز التناقض ما بين مشهد سياسي يقوم على دستور يتضمن كل مقومات حياة ديمقراطية، ومناضلو معارضة ديمقراطية يشكون التضييق عليهم وينشد ون إصلاحات يجدونها مكتوبة لديهم في صحف الدستور!!! فاعتمدنا علم النظم السياسية أداة منهجية لفهم وتفكيك هذا اللغز، بالرجوع الى ما كتبه أبرز فقهاء القانون الدستوري في القرن العشرين، الأستاذين جورج بوردو وعصمت سيف الدولة(1).
إذ يقدم جورج بوردو تصنيفا جديدا للنظم السياسية يفرق فيه بين ما سماها الديمقراطية الحاكمةdémocratie gouvernante، وهي نظام تتوفر فيه كل الأشكال الدستورية وتكون القرارات التي يصدرها الحكام فيه تكون معبرة عن إرادة الشعب. والديمقراطية المحكومة gouvernée démocratie، وهي أيضا ″نظام ″ديمقراطي″ كامل الشكل والمواصفات المتعارف عليها، تتوفر فيه كل الأطر الدستورية التي تسمح بإسناد قرارات الحاكمين إلى الشعب المحكوم: الحرية الفردية والاقتراع السري العام، والإنتخابات الدورية، والمجالس النيابية.. إلى آخره، ومع ذلك لا تكون قرارات الحاكمين المسندة دستوريا إلى الشعب معبرة عن الإرادة الشعبية الحقيقية″.
مما يجعلها أداة إستبداد بالشعب، بالرغم من كل ما يتوفر فيها من أشكال دستورية للممارسة المسماة ديمقراطية. إنها الديمقراطية المحكومة، أو هي النموذج "المتحضر" من الإستبداد كما يسمّيها الدكتور عصمت سيف الدولة، الذي قدم تصنيفا لنظم الحكم الاستبدادية كاشفا فيه مسيرة كفاح الشعوب ضد الإستبداد وتطوير الإستبداد لأساليبه حتى يصبح أقدر على خداع الشعوب.
إذ يذكر البشرية مرت بطور من الاستبداد المتخلف كان مصدر" القرار" - الذي ينصب على المجتمع ويمس حياة كل فرد فيه ─ إلها أو مجموعة من الآلهة تنطق بقراراتها على ألسنة الملوك أو الكهنة أو السحرة. فالحاكم وحده الذي يفكر ويدبر ويأمر وينفذ ولا يقول الآخرون إلا "آمين". وهو إستبداد بوجهين، فهو من جهة يلغي وحدة المجتمع وتعدد الأفراد فيه، ويأتي هابطا على البشر من فوق العقل الإنساني مفترسا العقول والأجسام - وإليه تنتمي نظرية الحق الإلهي ونظرية العناية الإلهية - ومتخلفة مضامين القرارات التي يصدرها من جهة ثانية، فهو إستبداد متخلف شكلا ومضمونا.
ونتيجة لعديد التضحيات والتطورات الاقتصادية والفكرية طرأ تغير شكلي على الإستبداد بتدوين قواعده وقراراته العرفية، إذ بدأت محاصرة الإستبداد بتلك الوثائق التي ستتطور وتصبح ما نسميه الآن الدساتير أو القوانين الأساسية ويصبح لنفاذها إسم هو "سيادة القانون" حيث يستطيع من يريد معرفة حدود الإستبداد ومضمونه فيجتنبه أو يتحداه، ويصبح غيابها إعلانا صادقا عن حضور الإستبداد.
من هنا أمكن القول كون تدوين القواعد والقوانين كان بشيرا مبكرا بنهاية مرحلة الاستبداد المتخلف الذي عمرّ قرونا ودخول الإنسانية مرحلة الاستبداد ″المتحضر″، الذي يتميز بظهور وقبول مبدأ "سيادة القانون". ولكن الإستبداد لم ينته، فلئن كان في مرحلته المتخلفة قائما على أساس ألاّ ضرورة لوجود قانون أصلا، فإنه في مرحلة ما بعد سيادة القانون - حيث أصبحت علاقات الناس داخل المجتمعات مصوغة في نظام قانوني - قد غيّر جلده، إذ ظلت هذه الدساتير أو القوانين الأساسية مستبدة المضامين، وتواصلت في ظلها معاناة الشعوب لتخلف مضامين القوانين من جهة وعقلية الوصاية، نظرا لأن الحاكم أو الصفوة أو الطبقة الحاكمة كانت تعتبر وجهة نظرها في إدارة الشأن العام هي الكلمة الفصل وتنكر التعدد والاختلاف. ولكنها مثلت مرحلة متقدمة في وضع حدود للإستبداد إذ فرضت عليه قيوداً.
لكن التطورات الاقتصادية والثورات الصناعية والثقافية والانتفاضات الاجتماعية فرضت تطور النظم السياسية الى طور آخر، منهية عهد امتلاك الحقيقة، لتدخل الإنسانية مرحلة "سيادة القانون والمؤسسات"، حيث أصبح الحكم يستند الى عقد سياسي يستند الى فلسفة ليبرالية أرست قواعد لعبة ديمقراطية قادرة على احتواء القوى الاجتماعية الملتزمة بمتابعة مصالحها عبرها، ونشأ في رحمها الفكر الاشتراكي الذي يكشف حدود الديمقراطية السياسية في ظل اللبرالية الاقتصادية التي تجعل القرار والسلطة بيد المالكين القادرين لوحدهم على تأسيس الأحزاب وإصدار الصحف والتأثير على إرادة الناخبين. وما يزال الاشتراكيون يخوضون المعارك ضد الاستغلال ويراجعون أساليبهم خصوصا بعد فشل بناء الاشتراكية في ظل التجربة التي قايضت الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاجتماعية.
فكيف نصنف النظام السياسي في تونس على ضوء هذه المقاربة؟
تفيدنا وقائع التاريخ أن البلاد التونسية عرفت الحياة الدستورية منذ حوالي قرن ونصف من الزمان، وقد كان ذلك إيذانا بتقييد سلطة بايات ينتمي حكمهم الى نموذج العناية الإلهية التي تتوسل بالغلبة والتوريث أسلوبا في الحكم وفي إعتلاء سدته. وقد ساهمت في هذا الإصلاح عوامل عديدة منها بوادر نهضة فكرية بدأت تتحدث عن مثالب الإستبداد مضافا إليها ضغوطا خارجية كانت معنية بتأمين إمتيازات جالياتها. ودخلت البلاد إثرها تحت السيطرة الإستعمارية مما جعل مهمة التحرير أولوية لدى النخب الفكرية والسياسية ، واعتبرت بعض النخب الحضرية أن المطالبة ببرلمان تونسي أحد أسلحتها في معركة التحرر الوطني!
وبإستقلال البلاد أنهي حكم البايات لصالح النظام الجمهوري، وصدر الدستور في غرة جوان 1959 فانتقلت بموجبهما البلاد إلى طور سياسي جديد قطع نهائيا مع مرحلة الإستبداد المتخلف، لكن لم ينته الإستبداد، إذ إلتفّ الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على ما أقره الدستور من مبادئ، فصفى خصومه من رفاق الحركة الوطنية، وحظر نشاط الحزب الشيوعي وأقرّ الرئاسة مدى الحياة وألحق المنظمات الجماهيرية، كالاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الفلاحين والاتحاد الوطني للمرأة بالحزب مبعدا العناصر المتمسكة باستقلالية هذه المنظمات’ وانقلب على تجربة التعاضد ومدّ يده الى اتحاد الطلبة!!
وقد كان لهذا الانغلاق ما يقابله في صفوف المعارضة التونسية التي جذرت خطابها، فالقوميون العرب اتخذوا العنف المسلح أسلوبا في التغيير- ساعدهم في ذلك نشأتهم القتالية في صفوف حرب تحرير فلسطين سنة 1948 وفي صفوف الحركة الوطنية، وتأثرهم بنماذج التغيير آنذاك - فكانت لهم معه محطات مواجهة.
والماركسيون جذروا نظريا خيار النهج الثوري لإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي وساهموا في تصليب العمل النقابي - ساعدهم في ذلك نشأة أجيالهم الأولى في النقابات - فكان الإضراب العام سنة 1978. ودخل الإسلاميون على الخط كأحد مكونات المشهد السياسي. وقد كان من نتائج هذا الحراك السياسي والهزات الإجتماعية أن أعلن الرئيس بورقيبة استعداده لإجراء انفتاح سياسي والعودة إلى التعددية التي انقلب عليها، فرفع الحظر عن الحزب الشيوعي وظهرت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي أسسها ليبراليون خرجوا عن الحزب الحاكم رفضا للانغلاق.
لكن ذلك التنفيس لم يكن قادرا على احتواء الغضب الإجتماعي المتفجر فكانت انتفاضة الخبز1984 المدعومة بتحركات طلابية وتصلب عود بعض المنظمات الحقوقية. يقابلها إهتراء في مؤسسة الحكم نتيجة مرض الرئيس وعجزه عن إدارة شؤون الحكم واشتعال حرب الخلافة .
في مثل هكذا ظروف كان لابد من حصول تغيير سياسي يستجيب لتطلعات الحركة الاجتماعية والسياسية ويتوج نضالاتها. أو ينقذ مؤسسة الحكم ويحفظ للدولة هيبتها إذ وصلت أطراف في السلطة الى قناعة أن مصلحتها أصبحت تقتضي تغيير أدوات حكمها - نتيجة لتغير ظروف البلاد والظروف دولية - وأنها لم تعد تستطيع الحكم بالوسائل القديمة. ولابد من تغييرها. فكان حدث 7نوفمبر1987 بقياده الرئيس الحالي زين العابدين بن علي الذي أعقبته جملة من الإصلاحات جعلت الدستور التونسي كما يقول الأستاذ عياض بن عاشور ″يضم كل ما يتطلبه النظام الديمقراطي من آليات رقابية مثل مجلس النواب والمجلس الدستوري والمحكمة الإدارية ويعترف بالحريات الأساسية وباستقلالية القضاء وبالتعددية السياسية″، مؤكدا أن ″المشكل هذه الأيام ليس مسألة تشريعات يستميت بعض نشطاء الحركة الديمقراطية في تحميلها مسؤولية العطب في حياتنا السياسية وتعثر العملية الديمقراطية مثل مسألة الصلاحيات الواسعة التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية إذ ذكر أن الدستور الفرنسي يمنح نفوذا أوسع للرئيس، ومع لا مجال للمقارنة بين حياتنا السياسية ومثيلتها الفرنسية معتبرا أن المشكل يكمن في غياب قوى مدنية تفرض تطبيق نصوصه حتى لا تظل مجرد قرارات لا وزن لها ″ (2).
فما تم من إصلاحات على يد مؤسسة الحكم ليس بدعة، إذ تثبت وقائع عديد التجارب السياسية أن مؤسسة الحكم هي التي تتكفل بقيادة عمليات الإصلاح السياسي استجابة لضغوط المعارضة السياسية والضغوط الاجتماعية. وهو الأمر الذي يحصل في كل الدول تقريبا ويتخلله شد وجذب بين السلطة التي تحاول التحكم في عملية الإصلاح والمعارضة التي توازن الكفة لتكون شريكا فاعلا في دفع عجلة الإصلاح نحو خط اللاعودة.
مما يجعلنا نتساءل هل كانت المعارضة التونسية آنذاك على درجة من الوعي النظري والسياسي والجهوزية الكفاحية ما يجعلها تتحكم في عملية الإصلاح وعدم ترك المبادرة في يد السلطة لوحدها تسيرها الوجهة التي تخدم مصلحة قوى التنفذ المالي والسياسي وإفراغ عملية الإصلاح من مضامينها الشعبية؟
أم ارتبكت وتركت المبادرة في يد السلطة معولة على الوعود التي يبشر بها البيان والانخراط في ميثاق سياسي، لا تملك قدرة على إلزام السلطة على الوفاء به، في حين فضلت أطياف سياسية أخرى النأي بنفسها عن ذلك لكنها لا تملك أوراق كثيرة أمام واقع سياسي جديد لا يتسامح ولا يترك فرصا للعتل السياسي خارج القانون مضيقا مجال الفعل الذي كانت الحركات السرية قد فرضته أمرا واقعا. وتضافرت زلازل دولية وقومية أصابت هذه التيارات في مقتل إذ انتاب المثقفين وحركة الشبيبة حالة يأس خلفها السقوط المريع للاتحاد السوفييتي وكتلته الشرقية وضمور حلم التغيير وإنهاء الاستغلال وحالة الإحباط القومي التي أعقبت حرب الخليج الثانية، مضافا إليها هجمة رأس المال على كل المكتسبات الاجتماعية بعد استفراده بهندسة مصائر الشعوب.مما أثر كثيرا على حيوية التيارات السياسية وعطاء مناضليها.
وقد أحسنت السلطة إستغلال كل هذه التطورات وحالة الإرباك التي عاشتها المعارضة التونسية لتجديد آليات تحكمها بصيغ معاصرة و″ديمقراطية″ و″قانونية″. إذ يؤكد أساتذة القانون الدستوري أن مؤسسة الاستبداد تستفيد بدورها من التقدم الحضاري فتصطنع للقهر أساليب عصرية متحضرة أقدر على تضليل الشعوب. ولقد كانت "الديمقراطية" آخر ما اختاره المستبدون لستر عورة الإستبداد في هذا العصر، وهو لذلك أولى بالانتباه من الإستبداد المتخلف لأنه أقدر منه على خداع الشعوب. وليس ثمة خطر على حريات الشعوب أشد فتكا من الإستبداد بها بالقانون، وليس ثمة خطر على حريات الشعوب أشد فتكا من الإستبداد الديمقراطي!!
فكيف أصبحت جملة الإصلاحات الدستورية المتضمنة لكل مقومات الحياة الديمقراطية تحمي الإستبداد ؟ وكيف تحولت المؤسسات المفترض أنها تحاصر الاستبداد وتعبر عن إرادة الشعب إلى أداة لقهره؟ وكيف تحولت إلى أداة للحكام تحوّل أفكارهم الخاصة إلى قوانين، وتردع باسم تلك القوانين كل من يجرؤ على ممارسة حقه الديمقراطي في أن يسهم بالفكرة والرأي؟ وكيف أصبحت التعددية الحزبية عاطلة لا تشارك في إتخاذ القرار، وان شاركت فلكي تتطابق وجهة نظرها مع الحاكم وتسمى معارضة؟ وكيف تمكنت السلطة من الظهور في مظهر الحامي للقانون في وجه معارضة متهمة بمخالفتها؟
بالسوبرنيطيقا، la cybernétique : علم التحكم غير المباشر، ذلك العلم الذي نما ونضج أثناء الحرب العالمية الثانية ثم امتد بعدها ليطبق بنجاح في الحقول السياسية والإقتصادية والإجتماعية، (عرضه بشكل جيد الكاتب الروسي ليوناردو أندريفيش راستريجين)(3). وتطبقه بنجاح النظم الحاكمة منذ عقود في تعاملها مع مكونات المجتمع المدني من أحزاب سياسية ونقابات ومنظمات حقوقية وجمعيات ثقافية وغيرها.
إذ يطرح سؤال ماذا يريد ناشطو هذا النسيج المدني؟ وفي الإجابة على هذا السؤال تستعمل كل أساليب البحث العلمي ونتائج علوم الإنسان بمختلف فروعها، ويشمل البحث دراسة أشخاص الناشطين في أدق تفاصيلها من أول القراءات والأمزجة والاهتمامات وصولا إلى محيطهم الأسري مرورا بظروفهم الاقتصادية ليصلوا إلى تحديد ماذا يريد هؤلاء الناشطين. وعندما تنتهي الإجابة، يبدأ التخطيط البعيد المدى واصطناع وقائع داخل الأحزاب والجمعيات والنقابات على مستويات فردية أو جماعية ليصلوا في النهاية إلى أن تريد هذه المنظمات والأحزاب بكامل استقلاليتها وحريتها في الاختيار ذات الذي تريده السلطة. فيصبحون قادة وأفرادا وأحزابا ومنظمات وصحف... كلهم يتحركون وهم في كامل وعيهم ويتخذون مواقفهم بكامل إرادتهم ولكنهم لا ينفذون في الواقع إلا ما يراد لهم ولا يقفون إلا الموقف الذي أوصلتهم إليه قوى عاتية حريصة على ألاّ تمس شعور الاعتزاز بحرية اتخاذ القرار لديهم، ما دامت تلك الإرادة تحقق لها ما تريد!!
هل هي تبعية، تلك التهمة التي تثير أعصاب الكثير ممّن توجّه إليهم ؟
ليس بالضرورة، فباستثناء الأحزاب التي تم تفريخها في محاضن الإدارة، نحن نعرف الكثير ممن التحقوا ببعض الأحزاب بصدق وحماس فياض خبا مع الأيام، ولا يعرفون لماذا. أما نحن فنجيبهم: لقد تم تركيع عديد الأحزاب والمنظمات الجماهيرية والجمعيات بسبب عجز في الكفاءة عن إدراك أصول ومخاطر لعبة السياسة في عصر السوبرنيطيقا، إذ يكفي استدراج هؤلاء النشطاء إلى قبول بعض الإمتيازات (أجور عالية ومنح ومنافع مادية أخرى وتعيينات في مراكز مهنية وإدارية ومناصب سياسية وبرلمانية وخدمات اجتماعية وترفيهية، مساعدات عينية، حنفية إشهار وإشتراكات لأصحاب الصحف) ليجدوا أنفسهم قد إقتنعوا بأن مصلحتهم تكمن في المساندة والمعاضدة وتقديم المشورة للسلطة فيصبحون موضوعيا ملحقون بالنظام وإختياراته.
وبذلك تفقد النقابات دورها في الدفاع عن مصالح منظوريها وتحويلها من نقابات مطلبية إلى نقابات مشاركة خاضعة لمخططات رأس المال المعولم التي يتبناها وكلاؤه المحليون. وتفقد الأحزاب السياسية وظيفتها كتجمعات شعبية إختيارية منظمة تجمع وتنظم وتقود إتجاهات الرأي العام وتشكل أداة فعالة للرقابة الشعبية على أداء الحكومة وتقدم برامج تتعارض مع سياساتها تنقدها ولا تقدم لها النصائح إلاّ في حالة تعرض البلاد إلى حرب أو كارثة طبيعية أو غيرها، عندها يتشاور مع السلطة في قضايا أمن قومي عليا متفق عليها.
فهي الشكل الأرقى والأكثر حداثة لممارسة السياسة، بما هي فاعلية اجتماعية ومجتمعية وأحد مظاهر المواطنة الحديثة، وأداة تحقيق مبدأ المشاركة السياسية في الحياة العامة والنهوض بمهمة تسييس المجتمع وتمدين السياسة، وتعمل على الوصول إلى السلطة لتنفيذه، إذ لا معنى آخر لتأسيس وتنظيم الأحزاب السياسية.
شروط الانتقال الى الديمقراطية الحاكمة كما تطرحها النخبة السياسية في تونس
لم تطل حالة الإحباط التي أضعفت أداء الحركات السياسية أثناء التسعينات، إذ سرعان ما ألقت عملية التفويت في المؤسسات المملوكة للدولة والتشريعات المتخذة لإدخال ما سمي بمرونة التشغيل وتفكيك النظام الجمركي وتسريح أعداد هائلة من العمال تحت عنوان تأهيل المؤسسات، وتحرير الأسعار، كل هذه ساهم في توسيع دائرة المتضررين إذ التحقت الطبقة الوسطى بصفوف ضحايا اقتصاد السوق وتدعمت فئة المهمشين بجيوش من حملة الشهادات الذين وجدوا أنفسهم زائدون عن النصاب. مما خلق تململا تشي نذره بانتفاضات قادمة، سرعان ما عبرت عن نفسها بشكل قوي يقودها أبناء الطبقة الوسطى الذين همشهم اقتصاد السوق وجيوش البطالين من حملة الشهادات العليا.
ولقد كان لكل هذه التطورات مضافا إليها عودة الروح للشارع العربي رفضا لجرائم الصهيونية والامبريالية في العراق وفلسطين دورها في ضخ دماء وروح كفاحية جديدة في صفوف الحركات المعارضة، ألم يشكل رفض زيارة مجرم الحرب شارون الى تونس لحضور قمة المعلومات الأرضية التي شكلت منعرجا في تاريخ أداء المعارضة وعملها المشترك؟ فكثرت المبادرات والتصورات التي تروم رسم خارطة طريق لإنجاز عملية التحول الديمقراطي. وقد زادها المحطة الانتخابية التي ستجرى هذه الأيام حرارة وحراكا.
لكن المطلع على بيانات وأدبيات نشطاء الحركة الديمقراطية لا يعثر على تصورات حقيقية وخطط نضالية يتوجب تنفيذها لإنجاز عملية الإنتقال الى طور الديمقراطية الحاكمة، وإن وجدت فهي من قبيل الخلط العجيب
فمن داع إلى المسيرات والإضرابات والإعتصامات وصولا الى من يدعو إلى بناء ″حزب الطبقة العاملة الذي وحده من سيتولى إنجاز المهام المنوطة بعهدته مضافا إليه المهام الوطنية الديمقراطية في ظل خيانة وعجز البورجوازية عن إنجازها″، مرورا بما تطرحه بعض النخب من مراهنة على الضغط الخارجي،أو الدعوة الى بناء قطب ديمقراطي .
أما المقاربات الأكاديمية التي تركز على التحليل العميق فقد استلفت انتباهي نصين يطرحان الموضوع بعيدا عن الشعاراتية ذات الحمولة التعبوية:
لذلك سنستعرض هذه المبادرات والخطط والتفاعل معها تباعا:
فدعوة الاستفادة من الضغوط الخارجية التي يبرع فيها بعض نشطاء الحركة الحقوقية،
فلا ندري كيف نسوا تحليلاتهم المعمقة التي تعتبر أن الرأسمالية في طورها الامبريالي خانت كل قيم التنوير وما عاد يهمها إلا الحفاظ على مصالحها لذلك تقف ضد كل تحول ديمقراطي شعبي لإدراكها أنه سينتج عنه حكم وطني يضع حدا لوكلائها المحليين الذين يحرسون هيمنتها. أم تراهم لا تعنيهم إلا الرابطة الأممية، وساعتها لا يكون هناك فرق بين أممية البروليتاريا وأممية اقتصاد السوق !! لذلك نقول لهم إن سخريتكم وتشكيكم في أممية السلوك السياسي لمناضلي حزب العمل أو تهكمكم على القوميين ونعتهم بالقومجيين لأنهم جميعا يصرون أن الديمقراطية أجندا وطنية شعبية أولا وأخيرا لا علاقة لها بمفسد الحساء الأوربي أو الأمريكي هي من علامات الخرف السياسي الذي دخلتم طوره!! ونسألهم هل نسيتم أن أول إصلاح سياسي في بلادنا ساهمت في ظهوره الضغوط الخارجية كانت أولى ثمراته صفقة هنشير النفيضة ومعاهدة باردو؟ أما إذا كانت تغريكم التجربة الناجحة التي أحدثت تغييرا سياسيا جذريا على المستوى الوطني والدولي، التي نفذها البلاشفة مع الألمان ضد القيصر. نقول لهم إن ذلك سيكون خيانة عظمى لو لم يقم بها بطل فريد في التاريخ المعاصر اسمه لينين في اقتناص عجيب للحظة تاريخية لا تتكرر، ولا أظنكم من طينة لينين في شيء !!
على أية حال نحن لم ننس كارثية ربط قضايانا الوطنية باستراتيجيات أممية منذ قرار التقسيم سنة 1947 (7) .
إن التحول الديمقراطي هو أجندة وطنية شعبية أولا وأخيرا لا علاقة له بمفسد الحساء الأروبي أو الأمريكي، ألم تكن أول ثمرات إصلاح سياسي ساهمت في ظهوره ضغوط خارجية وأفرز أول دستور في ديار العرب، صفقة هنشير النفيضة ومعاهدة باردو!!
إن الاستفادة الحقيقية التي يوفرها قانون التأثر والتأثير هو حالة الإجماع الكوني على انتصار ″الباراديغم الديمقراطي″، إذ لم تعرف الإنسانية في تاريخها الطويل مرحلة بلغت فيها حالة من الرفض والحساسية تجاه الاستبداد كالتي تعيشها اليوم، إذ لم يعد أي حاكم أو فكر - ما عدا الجماعات التكفيرية المجرمة - يستطيع أن يجاهر بمعاداته للديمقراطية. بل العكس هو الصحيح إذ تسعى كل الحركات السياسية الى التصالح معها ويعمل المستبدون على إحاطة أنفسهم بأكبر قدر من المؤسسات ″الديمقراطية″!!
ومثلما استفادت الشعوب وقواها الوطنية طيلة القرن العشرين، من قانون حق تقرير المصير سلاحا قانونيا وأخلاقيا لمقارعة الاستعمار مدعومة من التعاطف الشعبي في العالم ها قد جاء الدور على المطلب الديمقراطي في القرن الواحد والعشرين.
الأطروحة التاريخانية التي وردت في نص المؤرخ طارق الكحلاوي(4) الذي يستشرف فيه مسار الدمقرطة في الظرفية العربية، وفق رؤية تاريخانية، حمل فيه بقسوة بالغة على نشطاء الحركة الديمقراطية على اعتبار أن ما يطرحونه لا يتجاوز ″التنظيرات السطحية والمغرقة في العموميات، التي أسقطتهم في ممارسات سوريالية، تحركهم نزعة إرادوية ولا هم لهم إلا إصدار البيانات وقراءتها على المنابر الفضائية″. مؤكدا أن مسألة التحول الديمقراطي ″تستلزم الكثير من التعمق والقليل من الالتزام السياسي، إذ لابد من طرح أسئلة لا تقبل أجوبة قيمية أو إرادوية تخوض فيما نرغب فيه أكثر مما تخوض فيما هو ممكن، ″. متسائلا ″هل يتوقف إمكان نجاح الدمقرطة على ظروف موضوعية (تحولات إقتصادية واجتماعية...) أم على تراكم ممارسة الإرادة السياسية الواعية للناشطين الديمقراطيين؟ داعيا الى تناول الموضوع على مدى زمني طويل وفي سياق مقارن″، مستشهدا في ذلك بدراسات في العلوم السياسية والتاريخ المعاصر تعمقت في موضوع التحول الديمقراطي، أبرزها تلك التي أنجزها عدد من أساتذة التاريخ المعاصر والعلوم السياسية في الولايات المتحدة وصدرت تحت عنوان ″البناء الإجتماعي للديمقراطية بين سنتي 1870و1990″ والدراسة التي أنجزها آجم أوغلو وروبينسون، تحت عنوان ″الجذور الإقتصادية للدكتاتورية والديمقراطية″. وعلى الدراسة اعتبرها أحد أكثر المؤلفات تأثيرا في الساحة الأكاديمية في علاقة بهذه المسألة، التي تحمل عنوان ″إستراتيجيات الدمقرطة″ للباحث الفنلندي تاتو فانهانن، الذي وضع بمقتضاها مؤشرا قياسيا على أساس التجارب التاريخية للإنتقال الديمقراطي مستنتجا من خلالها أن دور التحولات البنيوية (خاصة الاقتصادية والاجتماعية) تحوز على تأثير يفوق نسبة 70% في مسارات الدمقرطة في حين لا يمثل تأثير نشاط الديمقراطيين الميدانيين 30% (5).
ليخرج باستنتاج مفاده لا يوجد ما يضمن أنها ستتحقق في هذا الجيل ولا حتى الأجيال التي تليه وان توفرت النوايا.
وهو تحليل يحاول أن يجعل من بعض التجارب التاريخية المخصوصة أن تخرج من تاريخيتها كتجارب مخصوصة وتتحول الى شروط تاريخية. فالديمقراطية في الحالة التونسية اليوم ممكنة بالجهد الذي يبذله الديمقراطيون لإكمال نقص العوامل البنيوية ، لكن ما هو محتاج الى أجيال هو حماية الديمقراطية لنفسها أي أن تصبح قادرة على إعادة إنتاج نفسها كأسلوب لتطور المجتمعات, وهذا رهين تحقيق جملة من المطالب التاريخية المعلقة كحق تقرير المصير في بناء دولة حديثة لأمة عبثت المصالح الاستعمارية بهندستها الكيانية، ومطلب انجاز الاستقلال التاريخي الذي يحرر شعبنا من مشاريع الاغتراب المكاني والزماني، وبناء بنية تحتية من التوزيع العادل لثمرات العملية الإنتاجية يمكن الكادحين بالفكر والساعد من التمتع بثمرات الديمقراطية السياسية التي يختطفها اقتصاد السوق لصالح من يملكون مصادر البلاد ومصائر العباد.
أما الاطروحة الثقافية فقد وردت في نص لأستاذ القانون الدستوري الدكتور عياض بن عاشور(6)، الذي يؤكد أن المشكل ″يكمن في غياب عقلية مدنية، مشددا على ضرورة الكفاح من أجل نشر الأفكار الديمقراطية لأن غيابها سببه عدم توفر ثقافة مدنية مساندة لها ووجود مناخات ثقافية تتناقض معها، لذلك فإن المدخل الأساسي الذي يجب أن تنصب عليه الجهود هو نشر ثقافة الديمقراطية والتربية عليها وأن الجهد الحقيقي والمثمر يكمن في الكفاح من أجل إرساء نظام تربوي يكون مركزا على قيم الحرية.
وهو تحليل ينتمي الى المدارس التي تفسر السياسة والنظم السياسية بالثقافة التي شكلت الملجأ الذي يستقبل النظريات المهزومة حول غياب الديمقراطية ويطرح أسئلة مقلوبة تشغل نفسها بالبحث عن أسباب غياب الديمقراطية الذي يبرع فيه هذه السنين الأخيرة نوع من المثقفين تخصص في تقديم السخرة الفكرية للمحافظين الجدد يحدثون عن وجود ثقافات معادية للديمقراطية ولابد من إجبار شعوبها على إصلاح برامجهم التعليمية لنشر الثقافة المدنية المساندة لاستنبات ثمرة الديمقراطية، عوض الانكباب والبحث في استراتيجيات الدمقرطة كما يفعل الباحثون الجادون على حد عبارة المفكر عزمي بشارة.
أما أطروحة ضرورة بناء قطب ديمقراطي ⁄ كتلة تاريخية تتولى عملية التحول الديمقراطي التي بدأت تنتشر بشكل لافت في صفوف نشطاء المعارضة الديمقراطية، فهي طرح مستجد في ساحة سياسية طبعت إلى عهود قريبة بطغيان عقلية الفرقة الناجية التي يتصور أصحابها أنهم حملة المشروع المخلّص، لكن يبدو أن جملة الزلازل التي عرفها العالم جعلتهم يتنادون الى كلمة سواء والإقتناع أنه يمكنهم إنجاز بعض المهمات المشتركة على قاعدة العمل الجبهوي المرتكز على قناعة مشتركة قوامها الديمقراطية أسلوبا في حسم الصراع السياسي وأسلوبا في إدارة الشأن العام وليست مجرد آلية انتخابية لانجاز مشروع التحول الديمقراطي
إذ شهدت البلاد حراكا سياسيا لافتا منذ عشر سنوات تدعّم أكثر سنة 2005 بالتحركات المشتركة أثناء قمة المعلومات تصديا للزيارة المزمعة لمجرم الحرب شارون والتي توجت بميلاد حركة 18 أكتوبر التي جمعت لأول مرة فعاليات سياسية مختلفة المراجع الفكرية اجتمعت على ضرورة العمل من أجل انجاز جملة من المهمات ذات الطابع الحقوقي السياسي.
لكن النخبة السياسية مازالت تختلف حول الموقف من حركة النهضة إذ تنادى عديد اليساريين لتأسيس ″قطب ديمقراطي تقدمي″ ردا على هذا التحالف(وكأنه هناك قطب ديمقراطي رجعي!!)، كشف فيه أصحابه عن عقلية إقصائية على خلفية إيديولوجية وليست سياسية، إذ لا أحد يعترض على ضرورة التصدي لأي تعبيرة سياسية غير ديمقراطية تتوسل بالديمقراطية آلية انتخابية من أجل الانقضاض عليها لاحقا، لكنهم وحدهم من يعترضون على أي حركة سياسية تتخذ من الإسلام مرجعية لها في صوغ برنامجها المجتمعي رغم ما قدمته من نقد ذاتي ومراجعات فكرية وسياسية معلنة أن مشروعها مشروع تاريخي مفتوح وأعلنت إدانتها وتمايزها عن التيارات التكفيرية المجرمة، مؤكدة التزامها بالديمقراطية أسلوبا في الحسم السياسي وإدارة الشأن العام، ومقرة أن ما كان يسم سلوكها السياسي المجافي للديمقراطية لم يكن بضاعة خاصة بها وإنما كان ثقافة سياسية لكل التيارات التي تطرح التغيير الجذري. مؤكدة أنه من الصعب تصور إمكانية قيام مشاركة في السلطة السياسية مع استمرار السيطرة المالية بين فئة محدودة من الناس في شكل احتكارات كبرى. ورمت الكرة في مرمى هذا الصنف من العلمانيين الذين كانوا الى عهد قريب من ألد أعداء الديمقراطية واعتبارها ثرثرة وملهاة برجوازية لكنهم يقفزون في غير رشاقة من الرفض العقائدي والعملي لهذه القيمة السياسية الى جبهات النضال الديمقراطي والتصرف وكأنهم الوكلاء الحصريون لها دون مراجعات فكرية لنصوصهم التأسيسية. فكل ما فعلوه أنهم انتقلوا من التبشير بالاشتراكية العلمية الى الديمقراطية بنفس العقل الخلاصي كما يؤكد على ذلك منظر الحركة ورئيسها الشيخ راشد الغنوشي في كتبه ومقالاته وبيانات حركته.
إن من ينكرون التغير الذي تمر به حركة النهضة ويتمسكون بموقف ثابت منها. ولا يرون في تغير مواقفها ضرورة تاريخية للإصلاح اللازم للعملية الديموقراطية والخروج من حالة الإنسداد التاريخي هم في الحقيقة لا يرتاحون لهذا التغيير لأنه يفقدهم مشروعية خطابهم الذي لا ينتعش إلا بوجود خطاب تكفيري متوتر وهم مستعدون إلى إيجاده ولو بإشاعة عقلية المؤامرة والبيانات الكاذبة التي تستهدفهم !!
″حداثويون″ يخافون شعوبهم ويتواطؤون مع مقاربة أمنية لحماية تصوراتهم الحداثية، مشكلين كومندوس ″ثقافي″ يشتغل في الخطوط الخلفية، خطوط الثقافة والحضارة والتاريخ على حد عبارة المفكر عبد الإله بلقزيز.
أما من يعنيهم غد ديمقراطي فهم يشجعون المراجعات الفكرية والسياسية التي تجري في صفوف هذه الحركة السياسية ويأملون أن يرتقي الى خطاب تربوي داخلي في صفوف أنصارها، إذ مازال ينتظرها الكثير لردم التناقض بين الخطاب المستخدم والتثقيف الداخلي، لا أن يخفت أمام ضغط المد التكفيري الذي يتلبّس بالأجيال الشابة.
أما ثالثة الأثافي فهي النكتة السياسية التي أطلقها أحد الأحزاب الواقعة في شرك السوبرنيطيقا عندما دعا إلى ضرورة تشكيل قطب قومي، وكأن المعركة اليوم هي بين قوميين في مواجهة إقليميين أو أمميين، وهي لعمري قراءة تكشف أن أصحابها يهرفون بما لا يعرفون، متناسين أن المعركة الرئيسية تدور بين قوى الاستبداد التي تروم تأبيد الرأي الواحد فكرا وممارسة والقوى الديمقراطية التي تروم الانتقال الى حياة سياسية سليمة قوامها التعددية الفعلية، حيث يكتفي الإقليميون بما حققوه ويواصل الوحدويون النضال من أجل مشروعهم الوحدوي حيث دولة الوحدة الأرحب إمكانيات وسيادة.
إن القطب السياسي الذي بإمكانه قيادة عملية تحرير المشهد السياسي التعددي حتى يمارس دوره ويعيد الحيوية في المجتمع هو قطب ديمقراطي مشكل من قوى سياسية مؤمنة قولا وفعلا بالديمقراطية كقيمة سياسية في إدارة الصراع السياسي في المجتمع وقبول الاختلاف وحسمه بالاحتكام الى صناديق الاقتراع، قوى سياسية تغلب مسألة التحول نحو حياة ديمقراطية سليمة على مصالحها الفئوية الضيقة، قوى سياسية تستقوي بالشعب من خلال الانحياز الى مشروع سياسي يكفل حقه في الشغل والصحة والتعليم والسكن.
فما هي المهام الموكولة الى هذا القطب والكفيلة بإنجاز عملية الإنتقال الى طور الديمقراطية الحاكمة ؟
مهام القطب الديمقراطي لتحقيق الإنتقال إلى الديمقراطية الحاكمة
۔ الدفاع عن القانون وفرض علويته:
يؤكد أساتذة القانون الدستوري أن الشعوب تتمسك بدساتيرها وتفرض على حكامها إلتزام تلك الدساتير حتى لو كانت لا تعجبهم بعض أحكامها. لأن كل الدساتير الوضعية تتسم بالقصور، وكل الشعوب تعترف بهذا وترسم طرقا لعلاجه في الدساتير ذاتها. ولكن كل الشعوب المتحضرة لا تقبل تجاهل الدستور أو مخالفته. إذ ليس من مصلحتها أن تبنى مستقبلها على أمر واقع غير دستوري لأنه سينهار حتما. ويؤكدون أن مبرر نشأة الدساتير تاريخيا هو أن تكون بدائل عن الإحتكام إلى القوة الذي كان سائدا قبل نشأتها. ويؤكدون واثقين أن البديل المحتوم عن الإحتكام إلى الدستور هو الإحتكام إلى القوة. مما يجعل خرق القانون في ظل "سيادة القانون" لا يعتبر إستبدادا كما قد يتبادر إلى الذهن. فالحاكم الذي لا يلتزم القانون السائد في المجتمع الذي يحكمه ويعود إلى لعب دور رب الأسرة أو الحامل للحقيقة دون غيره، لا يواجه باعتباره مستبدا بل باعتباره خارجا على القانون، والخروج على القانون الدستوري يعدّ جريمة وليس استبدادا.
لكن الغريب أن المعارضة الديمقراطية تفوت على نفسها هذا المحور النضالي الذي يمثل أحد أهم الأسلحة التي تمنحها رصيدا أخلاقيا وسياسيا في مقارعة الاستبداد الديمقراطي الذي تحتاج مقاومته إلى أسلحة غير التي توجه ضد فضاضة الإستبداد المتخلف الذي يستفز الشعوب إلى المقاومة!!. والأشد غرابة هو براعة النظام في إظهار نفسه في موقع المدافع عن القانون وعلويته في وجه معارضة لا تحترم القانون والحال أنه أسّ مطالبها، في حين يقترف أنصاره يوميا آلاف المخالفات للقوانين!!
وليكن مثالنا الحملة الإنتخابية على سبيل الذكر لا الحصر: لقد انتظرنا بفارغ الصبر جملة الاعتراضات القانونية التي تم بموجبها رفض ال67 قائمة لمرشحي المعارضة، فظفرنا بعدد لا بأس به(8). وبحكم عدم تخصصنا في القانون وبحكم ثقتنا في نزاهتكم فنحن نسلّم بالأخطاء التي قد يكون وقع فيها مرشحو المعارضة.
لكننا نسأل معاليكم ماذا نسمي تسخير إمكانيات الدولة بالكامل للحزب الحاكم ومرشحه للرئاسية؟ هل أن قناة 7 قناة عمومية أم قناة حزبية حتى تتفرغ للحملة الإنتخابية لمرشح الحزب الحاكم؟ ماذا نسمّي تفرغ السيارات الإدارية هذه الأيام للحملة الإنتخابية ؟ ماذا نسمي الحملة الإنتخابية التي تنظمها الشعب المهنية على بنايات الإدارات العمومية؟ هل هذا يتطابق مع القانون الذي تباهي السلطة بحمايته والحفاظ على علويته؟ ماذا نسمي حرمان حزب قانوني من الحصول على فضاء عمومي لإفتتاح حملته الإنتخابية؟ ماذا نسمي التصادم بين نصوص القانون وتطبيقات الواقع؟
هل أن التنقيحات المتكررة للدستور طبقا لحسابات ضيقة لا تتعارض مع مقتضيات دولة القانون؟ أليس تميز المنظومة القانونية وبصفة أخص الدستور بالاستقرار هو أحد سمات الأنظمة السياسية الديمقراطية؟ ماذا نسمي مجزرة هتك الأعراض والحرمات في حق نشطاء الحركة الديمقراطية والحقوقية على أعمدة نشريات لا ندري هل تصدر في تونس أم تدخل مهربة؟ إذ لا نفهم كيف يسمح بترويجها وهي تضرب عرض الحائط بكل القوانين التي تمنع الثلب وتتنكر لكل القيم الأخلاقية التي تسيّج فعل الاختلاف في السياسة؟
فإذا كانت التهم التي توجهها هذه النشريات إلى نشطاء الحركة الديمقراطية والحقوقية صحيحا لماذا لا يحاكمون أمام القضاء ويمتعون بكل الحقوق لإثبات براءتهم أو تتم إدانتهم؟ نحن لا نطلب إنصافهم فهم أقدر على الدفاع عن أنفسهم، لكن نطلب الدفاع عن حرمة القانون وسيادته، فمن يضمن ألاّ يردّ مظلوم الفعل دفاعا عن نفسه؟ هل ندخل مرحلة الفوضى؟ ألا تدافع الشعوب المتحضرة عن دساتيرها وقوانينها حتى وان كانت تتضمن تشريعات لا تنصفها حق قدرها لإيمانها أن البديل المحتوم عن الإحتكام إلى الدستور هو الإحتكام إلى القوة؟ ألم تسلم الشعوب المتحضرة أمر إحتكار العنف الى الدولة لإستعماله طبقا للقانون؟ ما رأي أساتذتنا الأجلاء في المجلس الدستوري والمجلس المشكل لمراقبة الانتخابات؟ أليست بلادنا تفتخر أنها محكومة بمرجعية دستورية منذ قرن ونصف من الزمان؟ أليست الدولة الديمقراطية مثلما تلتزم بالقانون تلتزم كذلك بجملة من القواعد الخلقية والفلسفية غير المكتوبة في دستورها لكنها تشكل لبّ الدولة الديمقراطية؟ فقط نريد أن نفهم!
۔ الوقوف إلى جانب الشعب والدفاع عن استقلالية مؤسسات المجتمع المدني
إن دعوة الحزب الحاكم منتسبيه بضرورة الالتحاق بمنظمات المجتمع المدني وعدم ترك القوى الديموقراطية لوحدها، والتواجد فيها بكثافة للتمكن من الوصول إلى سدة إدارتها بطريقة ديمقراطية للرد على إتهامهم بالإنقلابية، وفاتهم أن الإنقلاب لا يكون فقط بالقوة وإنما يتم بالقانون أيضا، فقد تسفر نتائج مؤتمر أحد الجمعيات أو النقابات عن فوز هؤلاء المنتسبين، لكن ذلك لا ينفي عنهم فعل الإنقلاب، الإنقلاب على وظيفة هذه المنظمات والجمعيات التي أنشئت لتكون مؤسسات شعبية يدافع بها المجتمع عن نفسه في مواجهة تسلط الدولة وهيمنتها، وكل محاولة للسيطرة عليها هو تزييف لطبيعتها وتزييف لحقيقة الدولة الحديثة التي لا تكتمل شروطها إلا بوجود نسيج مجتمعي مستقل عنها وعن مؤسساتها. وينصب جهد الفاعلين فيه من نشطاء الحركة الديموقراطية على كيفية الحيلولة دون أن يختل ميزان القوة بين الدولة ومؤسساتها وبين الشعب ومؤسساته.
فالديمقراطية لا تمارس داخل مؤسسات الدولة، فحتى المجلس التشريعي المنتخب يتحول بمجرد إنتخابه إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة وأداة من أدوات الحكم بمعناه الواسع. ومن هنا لا يعتبر مجرد وجود مجلس تشريعي منتخب ظاهرة ديمقراطية ولا دليلا على توفر الديمقراطية، ولكن من مدى ما يتمتع به الشعب من حريات تمكنه من إبقاء تلك المؤسسة في خدمته أداة لتحقيق إرادته في مواجهة المؤسسة الأخرى المسماة السلطة التنفيذية. وليس تاريخ النظام النيابي إلا تاريخ كفاح الشعوب لفرض إرادتها على تلك المؤسسة التي انتخبوا أعضاءها. والتي يمثل الإنتخاب الدوري خطوة ديمقراطية أخرى تتيح للشعب أن يعيد تشكيل المؤسسة التشريعية ويبقى النواب في حاجة مستمرة لإرضائه.
ولا يمل فقهاء القانون من التأكيد على أن الرأي العام بما هو حرية تعبير وحرية إجتماع وحرية صحافة وغيرها هو أحد الأركان الأساسية للديمقراطية في أي حكم، وهي كلها أنشطة تدور خارج مؤسسات الدولة وفى مواجهتها. فحرية التعبير يقصد بها حرية التعبير خارج المجلس النيابي ومؤسسات الدولة، وحرية الإجتماع يقصد بها حرية إجتماع المواطنين من غير أعضاء مجلس الوزراء أو اللجان الحكومية، وحرية الصحافة يقصد بها حرية نشر الأفكار والآراء غير الرسمية، أي غير خطب وبيانات مؤسسات الدولة. والرأي العام الذي يعبر عن ذاته بهذه الأدوات وغيرها هو رأى الشعب وليس رأى شاغلي المناصب في أية مؤسسة حكومية . ففي خارج هذه المؤسسات تقوم أو لا تقوم الديمقراطية. وعلى مدى إنتشار وتنوع وحرية التعبير عن الرأي العام يتوقف إستحقاق أي حكم شرف الإنتساب إلى الديمقراطية.
مما يجعل المعارك التي يخوضها الطلبة لحماية منظمتهم والعمال لحماية اتحادهم والصحفيين لحماية نقابتهم والقضاة والمحامين لحماية جمعياتهم والحقوقيين لحماية رابطتهم، والحيلولة دون وقوعها في شرك الإلحاق والاستتباع، هي معارك مشروعة دفاعا عن الفضاء العام كحق كفلته قيم الدولة الحديثة للشعب ليدافع به عن نفسه في مواجهة الدولة ومؤسساتها. وكل حديث عن الشراكة هو تزييف لدور هذه الجمعيات وتزييف لمفهوم الدولة الحديثة التي لا تكتمل إلا باستقلالية مكونات هذا الفضاء العام، وكل تصد لهذه المحاولات هو دفاع عن الديمقراطية وعن المجتمع وعن الدولة في وجه خطاب يراد له أن يعيش خارج عصره!!
نشــــــارك أم نقـــــــاطع؟
بعيدا عن هاجس الحسابات الانتخابات الآنية، نطرح السؤال التالي:
هل أن فعل المقاطعة خارج شروطه التاريخية يعزل النظام فعلا أم يؤبد حالة التخلف الديمقراطي لدى جمهور المعارضة الديمقراطية والحزب الحاكم والجماهير الشعبية عامة؟
إذا كانت الغاية حرمان النظام من شرط التعددية الذي يمنح فوزه مصداقية يبحث عنها عقب خوض انتخابات تعددية، فهذا الأمر حاصل بفضل الأحزاب الملحقة به حتى لو حصل إجماع بضرورة المقاطعة لدى كل نشطاء الحركة الديمقراطية وهو يكفيها لإقناع شركائها المحتاجين لما يسكن وخز بقايا ″ضمير وتنوير″ لديهم!!
أما بالنسبة للجماهير فمقاطعة الانتخابات كموقف سياسي، لا يؤدي إلى إقناعها بالمقاطعة لأنها أصلا غير مهتمة كثيرا بمسألة الانتخابات ليأس من قدرتها كآلية للتغيير ومن تخلف تاريخي كثيف جدا يجعلها لا تعرف ثمرات الفعل الانتخابي كآلية لسحب الثقة من الحكام أو تجديد الثقة فيهم. مما يدفع المؤمنين بالنضال الديمقراطي أسلوبا في التغيير إلى مقاربة المسألة من زاوية مقاومة التخلف الديمقراطي ودفع الجماهير إلى دائرة الفعل والخروج من دائرة الإنتظارية. وخوض المعركة وتقديم برامج إنتخابية وخطاب إنتخابي جدي ومتمايز عن الحزب الحاكم لحلحلة العقلية التقليدية لدى منتسبي الحزب الحاكم الذين يتعاملون مع مسألة الحكم باعتبارها غنيمة يتوجب مسكها بالنواجذ ودفعهم الى التعاطي معه على أنه تكليف يخضع للمساءلة والمراقبة!!
ولتدريب نشطاء الحركة الديمقراطية وأنصارهم على خوض معركة الديمقراطية بأدواتها، لأنه من المضحك أن نجد مناضلين ديمقراطيين لا أحد منهم يدافع عن حقه في بطاقة ناخب منخرطا في الدعوة إلى مقاطعة الإنتخابات والحال أنه محروم منها أصلا!! ففعل المقاطعة لا يصح إلا لمن هو حاصل لديه حق الإنتخاب في مجتمع لديه تقاليد إنتخابية راسخة فيستعمله سلاحا لعزل السلطة وكم يكون فعالا ساعتها!!
لذلك قلنا إنها دعوة مثالية فاقدة لشروطها التاريخية، أما التحجج بغياب أبسط شروط المنافسة النزيهة فهذا تتويج لمعركة وليس منطلقا. إذ تفيدنا دروس التاريخ أن النظم السياسية الديمقراطية لم تقم من خلال ثورات وإنما من خلال عمليات إصلاح طويلة قادتها حركات سياسية تدعمها إنتفاضات إجتماعية عنيفة تتبعتها إصلاحات ديمقراطية، لكن قلما حصل أن بنيت الديمقراطية دفعة واحدة من خلال عمل ثوري. فحتى حالة الثورة الفرنسية لم تنشئ نظاما ديمقراطيا متكاملا، فقد مرت بمرحلة اليعاقبة الراديكالية وأعقبتها ردات نابليونية وملكية واحتاج الأمر إلى انحسار مرحلة نابليون وإحتلالاته للعودة إلى أفكار معدلة من الثورة (9).
ولعل هذا ما أدركه انخرط فيه مناضلو حركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي والتكتل من أجل العمل والحريات كأحزاب قانونية تقاوم وتدفع ثمن الحفاظ على استقلالية قرارها. لكن وحده الذي يستلفت الانتباه هو حزب العمل الوطني كأحد الأحزاب غير المعترف بها الذي انخرط في خوض معركة التخلف الديمقراطي الذي يعتبر الاستبداد السياسي أحد مظاهره، متنازلا عن بعض مصالحه السياسية الضيقة لصالح بناء قطب ديمقراطي مازال يلزمه الكثير من النضج السياسي ليقود عملية الانتقال الى طور الديمقراطية الحاكمة، والذي سيتم بكفاحية هذا القطب المنشود، مستفيدا من انتصار الباراديغم الديمقراطي وتحوله الى مزاج كوني ضاغط، والمدعوم بالتحركات الاجتماعية المتعاظمة وحركة الشبيبة الطلابية العائدة، ساعتها فقط ترغم السلطة على إجراء الإصلاحات.
طبيعة الإصلاح الديمقراطي القادم:
إن نشأة قطب ديمقراطي قادر على قيادة عملية الإصلاح القادمة والمتمثلة في فرض تطبيق جملة الإصلاحات المنجزة في الدستور الحالي الذي يضم كل ما يتطلبه النظام الديمقراطي، لكن هذه الإصلاحات بقيت حبرا على ورق تنتظر جهوزية قوى مدنية تفرض تفعيلها بدءا بعملية فك الارتباط بين الحزب ومؤسسات الدولة واسترداد فعالية مؤسسات المجتمع لتقوم بأدوارها الموكولة لها وفق قيم الدولة الحديثة. وفرض علوية القانون وصولا الى تطوير بعض فصوله التي لم تعد تستجيب لتطلعات مكونات الحركة الديمقراطية والاجتماعية والحقوقية.
أما مؤشرات قرب هذه اللحظة وشروطها الموضوعية فهي جاهزة منذ تخلي الدولة عن جميع أدوارها الاجتماعية لصالح قطاع خاص طفيلي فاقد لكل أدواره التاريخية ولا همّ له إلا الربح السريع والاستثمار في القطاعات الهشة كالمضاربة والعقارات وصناعة الترفيه، مستفيدا من هشاشة مؤسّسات الرقابة النيابية والإعلامية والشعبية، قطاع خاص عماده فئات حديثة العهد بالتملُّك والاستثمار، لا يهمه البحث عن التابع السياسي للبررة الاقتصاد، وحتى التعبيرة السياسية التي تحاول ان تكون لسان حال هذا القطاع الخاص ليست من صلبه، بل يقودها جماعات تعلموا وعاشوا ويتلقون معاشاتهم من المال العام!! قطاع خاص لا همّ له إلا الانقضاض على بقايا سلطان الدولة الاقتصادي، ووراثة أملاكها تحت عنوان الإصلاح الاقتصادي وإطلاق المبادرة الحرّة، واقتصاد السوق والمنافسة، مستقويا بزمن وحشيّة رأسمالية زحفت على الكون كلّه منذ العقد الأخير من القرن الماضي، وما برحت تزحف. ممّا أفقد الدولة قدرتها على امتصاص أزمات إجتماعية بدأت تفيض عن حدود إمكانات استيعابها وبداية توسع دائرة المتضررين من خيارات اقتصاد السوق. إذ تآكلت الطبقة الوسطى وتعززت صفوف المهمشين بجمهور من المتعلمين يفيض حماسا للدفاع عن حقه في العيش الكريم على حد عبارة المفكر عبد الإله بلقزيز.
وما إستشراس السلطة حاليا في تأبيد وضع السيطرة الذي أحكمته على مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ومنظمات جماهيرية، إلا لإدراكها أن مرحلة المشهد الديمقراطي المحكوم على وشك النهاية بفضل دخول قوى سياسية جديدة عصية على الوقوع في فخ السوبرنيطيقا الى ساحة النضال الديمقراطي، ومباشرتها لعملية تحرير مؤسسات المجتمع من الإلحاق الذي أفقدها وظائفها التي تحددها قيم الدولة الحديثة التي سمحت بنشأة فضاء عاما يحمي به المجتمع نفسه من سطوة الدولة ومؤسساتها على حد تعبير يورغن هابرماس.
وما ينقص الآن إلا اكتمال ملامح القطب الديمقراطي الذي سيمثل القوة السياسية التي تكمل النقص في الشروط البنيوية التي لا يمكن بأي حال تحويلها إلى شروط حتموية!!
وتشكل هذا القطب مازال يتعثر لتفاوت نضج أطياف الحركة الديمقراطية وتمثلها لطبيعة هذا القطب ووظائفه، فإذا كان تغليب المصالح الفئوية الضيقة أحد مظاهره والإقصاء الإيديولوجي أحد أمراضه، فإن العقلية اللاديمقراطية التي تلبست بالحرس القديم داخل أطياف الحركة الديمقراطية هو الداء الذي ينخرها ويمنعها من التطور والفعل بشكل أكثر فعالية.
كذلك يمكن القول إن النضال الديمقراطي الذي ظل طويلا حكرا على أطراف سياسية هشة شوهت العمل السياسي وحولته من علم الإنشغال بالشأن العام إلى وسيلة لقضاء مصالحها الشخصية. تدعم كثيرا منذ عقدين بجنوح أطراف سياسية كثيرة إلى ساحته، لكنها فعلها مازال مضطربا وتغلب عليه عقلية العمل ″الثوري″ الذي لم يتجاوز مرحلة الجملة الثورية، ولم تملك بعد تقنيات الدفاع والنضال من أجل مشروع جذري بأساليب نضال ديمقراطية، ويعود ذلك إلى أوبتها إلى النضال الديمقراطي دون القيام بمراجعات(قلت مراجعات ولم أقل تراجعات) فكرية عميقة تمكنها من إمتلاك تنظير ديمقراطي تتعرف بمقتضاه عن تاريخ نشأة الديمقراطية ومساراتها وشروطها وآلياتها. مما جعل هؤلاء النشطاء يتعاملون معها كعقيدة خلاصية مثلما كانوا أيام نضالهم الثوري الذي لم يتجاوز فقه الثورة، هل هي وطنية ديمقراطية أم اشتراكية، قطرية أم قومية؟ فدخلوا في حالة انسداد تاريخي لم يعرفوا سبيلا الى ترجمته في برنامج سياسي يتخذ مما يجب أن يكون بوصلة ومن الممكن في زمانه ومكانه مهمات ميدانية تركيمية مادامت الشعوب لا تطرح إلا القضايا التي تقدر على حلها، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها!!
الثوريون والنضال الديمقراطي
إن الراديكاليين الذين يطعنون في فعالية هذا الأسلوب النضالي بإعتباره نهجا إصلاحيا لا يرقى إلى طرح مهام النضال الاجتماعي والسياسي، وأن أقصى ما يطمح إليه أصحابه هو المشاركة في الحكم على قاعدة إصلاحية برجوازية ليبرالية. وأن التغيير الحقيقي غير ممكن في غياب الأداة السياسية الثورية للطبقة العاملة التي بإمكانها قيادتها وتمثل مصالحها ومصالح حلفائها من فئات الشعب المفقرة والمستغلة. لا ينظرون حولهم، إلى الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية التي يعتبر العنف الثوري جزءا من تراثها النضالي، كيف جنحت في ظروف معينة إلى إستراتيجية النضال الديمقراطي دفاعا عن الراية الإشتراكية وعن نموذج دولة الرعاية المسؤولة عن توظيف مواردها المادية والبشرية لتحقيق التنمية اللازمة ليكون الإنسان إنسانا.
أما على الجبهة الفكرية، فالمجتهدون فتحوا باب النقاش مجددا حول أساليب الإنتقال نحو الإشتراكية وشروطها الذاتية والموضوعية، نظرا لأن بناء الإشتراكية ما عاد مادة نظرية فقط بل حصيلة تجربة فشلت. ويفتحون من جديد ملف الدولة الشمولية وإعتباره من تبعات شيوعية الحرب وإستخدام العنف العسكري في فترة الثورة المضادة والتدخل الأجنبي، مما تسبب في تسرب تقاليد المرحلة القيصرية البيروقراطية مما أدى إلى تأويل ديكتاتورية البروليتاريا تأويلا أفقدها مضمونها التاريخي المحدد. وتجري محاولات إجتهادية لإعادة الاعتبار للعلاقة بين الديمقراطية والاشتراكية، فمثلما العدالة الإجتماعية غير ممكنة دون ديمقراطية، فإن الديمقراطية السياسية لا تتحقق فعلاً إلا مع ضمان العدالة الإجتماعية (10).
أما بالنسبة لبعض أنصار الثورة العربية ممن يحتكرون صفة الراديكالية، ويتهمون رفاق دربهم ممّن جنحوا إلى إستراتيجية النضال الديمقراطي بالإنحراف نحو الخط الإقليمي منطلقا والنهج الإصلاحي أسلوبا، مؤكدين أن الوحدة طريق للديمقراطية وليس العكس، وأن الأولوية في النضال لمشاكل التخلف الإستعمار والتجزئة والإستغلال وما معركة الديمقراطية سوى مشكلة تنمية لا تحل إلا ضمن حلّ ثالوث التخلف! أو أنصار النهج البسماركي ممّن مازالوا يتغنون بتجارب الضم القسري رغم كارثيته وفقدانه لصلاحياته التاريخية منذ قرن من الزمان!!
نقول لهم يا رفاق الدرب إن من جنحوا للنضال الديمقراطي لم يفقدوا لياقتهم الثورية ولم يصابوا باليبوسة كما تعتقدون!! فالثوريون لا يستمدون صفتهم الثورية من إتيان العنف الثوري أو التغني به، وإنما من عدم تهيبهم له إذا فرض عليهم، ألم يكن النبي محمد (ص) في قمة ثوريته وهو يأمر صحابته بالهجرة من مكة سرا؟ ألم يكن المهاتما غاندي في قمة ثوريته وهو يمنع أنصاره من إستعمال العنف؟ ونحيطهم علما أنه أمام تعسّر إنجاز المشروع القومي وفقدانه للكثير من هيبته جرّاء الأساليب التسلطية التي إعتمدها بعض القوميين العرب طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، أجرى كبار المفكرين القوميين مراجعات فكرية عميقة (11)، دعوا فيها أنصار هذا المشروع إلى ضرورة الالتزام بما يجب أن يكون بوصلة وهدفا، وانجاز الممكن في زمانه ومكانه. وأن يتحمّلوا مسؤولياتهم في الإسهام في معركة التحول الديمقراطي في أقطارهم، والدفاع عن نموذج دولة الرعاية لتقف الجماهير العربية بنفسها على حقيقة عجز الدولة الإقليمية عن إشباع حاجاتها أيّا كانت العلاقات الاجتماعية التي تحكمها. ساعتها فقط تتخلص الوحدة العربية من النهج الشعبوي - الذي يتجنب أصحابه الخوض في القضايا التي تمس معاناة المواطن ويقتصر النضال القومي عندهم على ترديد الشعارات المتمسكة بوحدة الأمة - وتتحول إلى مطلب جماهيري يستند إلى حامل اجتماعي يدافع عنه ويناضل من أجل تحقيقه باعتباره يمثل مصالحه المادية والثقافية والسيادية. وإذا كان فضل القوميين العرب خلال القرن العشرين أنهم رفعوا من منسوب الحساسية تجاه الحكم الأجنبي، فليكن فضل القوميين اليوم الترفيع في منسوب الحساسية تجاه تسلط الحكم المحلي، لأن المواطنة هي صمّام أمان الوطنية والسيادة القومية في هذا القرن الجديد!!
إن الكفاح الديمقراطي هو أحد أساليب الثوريين في إنجاز وتحقيق مطالبهم، ولا علاقة له بالنهج الإصلاحي الذي ركب صهوته الكثير من رفاق الأمس ممّن لا يتجاوز سقف طموحاتهم المشاركة في الحكم وتنقيح فصل هنا وقانون هناك وإستعدادهم إلى عقد الصفقات مع الأنظمة الحاكمة مقابل الإلتزام بالبقاء معارضة أبدية تمنع نفسها حتى من التفكير بالوصول إلى الحكم والإكتفاء بهامش نقدي على هامش الحياة السياسية، وإنتظار إصلاحات يتنعّم بها الحكام، فيسارعون إلى مباركتها ممّا يفقدهم بالتدريج صفتهم الحزبية والسياسية !!
″وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين″.
*إهداء إلى الطالب حفناوي بن عثمان ورفاقه سجناء انتفاضة الحوض المنجمي عهد وفاء والتزام.
** باحث في الأنثربولوجيا الثقافية والسياسية
|