فيوليت داغر: الاعتقالات في مصر مؤشر سيئ

[21:14مكة المكرمة ] [06/07/2009]

فيوليت داغر عارضت بشدة تسلط النظام المصري والمحاكمات العسكرية للإخوان

 

- مصر تلعب دورًا وظيفيًّا في خدمة المشروع الصهيوني الأمريكي

- اعتقالات الإخوان تجعلني أتساءل إن كنا واهمين في أمر التغيير

 

حوار أجراه- أحمد التلاوي:

هي واحدةٌ من رموزٍ قليلةٍ لا تزال تؤمن بأنه من الممكن فعل شيءٍ ما، في مواجهة الظلم والبغي في هذا العالم، وفي نشاطها لا تتوقف قليلاً أو كثيرًا أمام هوية المظلوم أو الظالم، فقط الهوية الإنسانية هي التي تحكم حركتها، ولذلك اصبحت واحدة من أهم رموز العمل في مجال حقوق الإنسان في العالم العربي والعالم الخارجي، وصار اسمها دائمًا مقترنًا بكل ما هو مرتبط بوضعية حقوق الإنسان في البلدان العربية التي تعاني مع حكوماتها.

اسمها فيوليت داغر، لبنانية الأصل، تركت بلدها إلى فرنسا خلال سنوات الحرب الأهلية المدمرة في السبعينيات والثمانينات الماضية، ومن هناك، من باريس بدأت مشوارها في العمل الحقوقي والإعلامي، حتى أصبحت علامة في مجال حقوق الإنسان، وأحد أهم النشطاء السياسيين المعروفين.

وبطبيعة الحال، ومع اهتمامها بقضايا حقوق الإنسان في العالم العربي، ومساعيها لكشف مظالم الحكومات الديكتاتورية المستبدة الموجودة في عالمنا العربي، كانت مصر في بؤرة اهتمامها، وكانت قضايا مثل معتقلي الإصلاح والشرفاء من قيادات ورموز العمل الوطني في مصر، وعلى رأسهم الإخوان المسلمون، ضمن قائمة أولوياتها، بخلاف الكثير من نشطاء حقوق الإنسان في مصر الذين خافوا من سلطان الدولة، فلم ينطقوا بكلمةٍ واحدة تدين ما يحدث مع رموز وقيادات الإخوان.

 وفي هذا الإطار كانت فيوليت داغر ضيفة دائمة على جلسات المحاكمة العسكرية الأخيرة الظالمة بحق قيادات ورموز الإخوان المسلمين طوال العام 2007م، وحتى منتصف العام 2008م.

ولأنَّ هذه القضايا كانت على قائمة أولوياتها، كان لابد من أنْ تكون على قائمة سوداء طويلة من أعداء النظام الحاكم في مصر، وهي قائمة شرف بالنسبة للموجودين عليها، ولهذه الأسباب كلها، ومع ما ثار مؤخرًا من أحاديث إعلامية رسمية وغير رسمية في مصر، بشأن الأسباب التي تقف خلف حماسة فيوليت داغر، ومستقبل نشاطاتها المتعددة في المجالات الإعلامية والحقوقية والقانونية، بعد الحملات العديدة التي وجهت سهامها إليها، كان لابد لـ(إخوان أون لاين) من إجراء حوارٍ معها، للتعريف أولاً بهذا الوجه، ولمعرفة الإجابات الخاصة بمختلف هذه الأسئلة وغيرها.

 

* أولاً.. من فيوليت داغر، وما هي الَّلجنة العربيَّة لحقوق الإنسان؟

** أنا لبنانية الأصل.. تركتُ بلدي في بداية الحرب الأهلية قادمة لفرنسا؛ هربًا من نيرانها المستعرة وطلبًا للعلم، على أن أعود إليه بعد توقفها، لكن الحرب استمرت أعوامًا عديدةً كنت خلالها قد أنهيت دكتوراه في علم النفس وتخصصٍ عالٍ آخر للعمل به في لبنان، وكان زواجي، وميلاد ابنتي، وعوامل أخرى وراء تأجيل عودتي، فبدأت أعمل وأنشط في الوقت نفسه على محور الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي كجزء من دَيْن أرده لهذه المنطقة، إلى أن تم تأسيس اللجنة العربية لحقوق الإنسان قبل عشر سنوات ونيف من مناضلين متطوعين وحريصين جدًا على استقلاليتها.

وكان هذا الحرص على استقلاليتها هو السبب الذي يجعلنا نغذيها في الغالب من تبرعاتنا وعملنا المهني الذي هو بدوره كان له أن يتأثر من الوقت المرصود للنشاط الحقوقي، بما يتطلبه من عمل ميداني وتحرك إلى البلدان العربية، علاوة على تخصيص حيز من الوقت للكتابة والنشر بإصدار التقارير والدراسات والكتب.

وللجنة صفة استشارية في المجلس الاقتصادي الاجتماعي بالأمم المتحدة، كما تنشط أيضًا ضمن شبكة منظمات عربية ودولية على ملفات عدة، وكنا من المبادرين لتأسيس جمعيات وتحالفات أفضت لنتائج ملموسة لا بأس بها في عدة حالات.

* كيف كان موقف الحكومات العربية إزاء أنشطتكم تلك؟

** أنشطتنا تضايق الأنظمة العربية التي اعتادت على استهداف الجمعيات الحقوقية، وحيث لا تستطيع أن تمحونا من الوجود، حاول بعضها تطويقنا عبر أساليب عدة، منها مؤخرًا رفع توصية بتجميد عضويتنا في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وتكون لمدة عام بعد أن كانت 3 سنوات، وسيتقرر الأمر في الأيام القادمة، وسنرى إن كانت الحكومات وممثلوها في الأمم المتحدة تستطيع الضغط على هذا المجلس لاتخاذ قرار من هذا النوع، رغم عدم وجود ما يضفي مشروعية لهذا القرار، وسوف تكون مصداقية هيئات الأمم المتحدة مرة أخرى على المحك في هذه القضية.

ومن يريد متابعة التطورات، يمكنه الاطلاع على موقع اللجنة العربية على الإنترنت على العنوانين الآتيين:

 www.achr.eu

 www.achr.nu 

* ما أبرز المشكلات التي تلاقيكم في إطار أنشطتكم.. وهل لها طابعٌ سياسيٌُّ أم أمنيٌّ أم كلاهما معًا؟

** تسجيل اللجنة العربية في فرنسا جنَّبها بعض الإشكالات، ومنحها حرية نسبية، ولو أن تحركاتها تجري في المنطقة العربية في غالب الأحيان؛ لكن بالتأكيد المشكلات ليست بقليلة عمومًا لمن تطوع للعمل الحقوقي في وطننا العربي الذي ما يزال الفرد فيه لا يعامل كمواطن.

والتطوع يعني التضحية بالوقت والجهد إلى جانب الاكتفاء المادي أحيانًا والوضع الشخصي المقبول والمهنة، ذلك من أجل خدمة قيم وأهداف نبيلة بمد يد العون للآخرين عبر جمعية غير ربحية ترمي للارتقاء بحقوق الإنسان على الأقل للحد الأدنى المقبول في عالم اليوم، وهذا ليس صورة رومانسية لمثاليين حالمين، ومنقطعين عن الواقع، وإنما هو في صلب واقع عام يفرض نفسه، واقع من التردي بمكان لدرجة أن ما يفترض أن يكون القاعدة بات شاذًّا، في عالم يعلي من الأنانية الفردية والعقلية النفعية على ما عداها، ويضرب مثلاً عليا تنقل البشر من الطبيعة الغريزية لمستوى أسمى من الحضارة والرقي، علمًا أن التقدم العلمي ليس بالضرورة دومًا مصاحبًا لوعي حضاري.

أما حول التحديدات بين الأمني والسياسي، أتساءل حول طبيعة التداخل القائم بينهما في العالم العربي؛ حيث القراءة في الدوائر العليا لحرية التعبير والتنظم والتجمع على سبيل المثال هي قراءة أمنية، ولو التزمت السلطة السياسية باحترام دستورها وأحيانًا قوانينها؛ لما منعت أحزابًا، واعتقلت مناصريها، وشردت وهجرت آخرين، وجعلت الكثيرين يعيشون بين السجون والمنافي القسرية، حياة تبدو معلقة بين بانتظار الفرج الذي يتلاشى الأمل فيه مع نكسات وكبوات متتالية.

 

منطلقات

* شاهدنا منك في السنوات الأخيرة مجموعة من المواقف الإيجابيَّة فيما يخص القضية الفلسطينية وحقوق الإنسان في مصر.. كما رأينا في المحاكمة العسكرية الجائرة التي جرت بحق 40 من قيادات ورموز الإخوان في العام 2007م، وحتى منتصف العام الماضي 2008م، وكما في العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة.. أولاً ما منطلقات مواقفك في هذه القضايا؟

** منذ وعيت العالم بدأت أستشعر التمييز ضد الأقليات والفئات المستضعفة، واستهداف حقوق شعب شرد من أرضه لاجئًا لدول جوارٍ لم تحسن استضافته، إلى أن كان لبلدي لبنان أن يعيش من جديد فترة حرب أهلية في وقت كانت أطروحات التحرر من الاستعمار وطموحات السيادة الوطنية ونشدان الديمقراطية تجمع قوى كثيرة حولها، لكن سرعان ما ضربت هذه الآمال وشعرنا بأن الأخطبوط الذي زُرع في خاصرة وطننا العربي مد أذرعه بعيدًا، وأنه لا بد من الانخراط في النشاط الأهلي والعمل الخيري للمساهمة في بلسمة جراح نازفة، ولو من خارج الوطن الذي تشرد الكثير من أهله في أصقاع العالم خلال 15 سنة من الحرب.

بعد الهدوء على جبهات القتال كان الانتقال للعمل الحقوقي، وهذه المرة على صعيد العالم العربي ككل، وذلك بحكم انتمائي لهذا الفضاء الذي كتب له أن ينزف ثرواته البشرية إضافة للاقتصادية والزراعية والبيئية والمائية إلخ، بتضافر عوامل داخلية وخارجية أجهضت معركتَيْ التنمية والديمقراطية.

يضاف عامل تخصصي الدراسي الذي كان له بدوره أن يلقي الضوء على تكوين الإنسان ويعيره الانتباه، أملاً في مساعدته على الخلاص من سجنه الداخلي، كون العلاقة جدلية بين الصورة التي نكونها عن أنفسنا، وتلك التي يحملها الآخر عنا ونرى في مرآته ذاتنا، أنا إذًا ابنة واقع وظروف لم أتعامل معها بحيادية أو البحث عن الخلاص الفردي، وإنما كجزء من كلٍّ معنيٍّ بالجماعة، ويشعر بالمسئولية عما يرتكب من جرائم بحق الغير مهما كانوا، ولأية فئة انتموا وأي فكر اعتنقوا.

* في حقيقة الأمر، فإنَّ مدعاة سؤالنا هذا؛ هو أنَّ بعض وسائل الإعلام يرَوِّج أنَّك متعاطفة مع الإخوان المسلمين، وأنَّك تتلقِّين منهم تمويلاً ودعمًا.. كيف ترين هذه الاتهامات، وكيف تردِّين عليها؟

** وهل أنتظر أن يقال بي مديح وإطراء من طرف من يشعر أنه متضرر من فضح انتهاكاته لحقوق البشر؟!، أو من جانب أبواق إعلامية مأجورة كنت ألاحظ إلى أي مدى كانت تحور في أقوالي وتنقلها ليس دومًا كما صرحت، إما للتقرب من السلطان أو لمنفعة شخصية بائسة أو لغباء فكري وضعف في النفوس؟!

لكن لمن أراد أن يضفي مصداقية لكلام واتهامات تُلقَى جزافًا أطلب أن يقطع الشك باليقين عبر تقديم البراهين والتدليل على صحة ما يذهب إليه من تهم بتلقي تمويل ودعم، وقد سبق أن رددت على ذلك في برنامج تليفزيوني كان الذي تفوه بهذا النوع من الكلام مسئول سياسي كبير.

نحن بدأنا منذ اليوم الأول لنشاطنا في اللجنة العربية العمل مع مدقق مالي، وفوق ذلك محلِّف، ومن خارج جمعيتنا طبعًا، فالشفافية كاملة ومن يريد يمكنه طلب كشف بحساباتنا وموازنتنا.

من ناحية أخرى، أقر بأني متعاطفة مع كل المظلومين بمن فيهم أولئك الذين يحسبون على جماعة الإخوان المسلمين، وأنا أدافع عن حقوقهم المهضومة بغض النظر عن اتفاقي أو اختلافي معهم حول أفكارهم، ولا أعتبر تضامني معهم والدفاع عن حقوقهم تهمة أجرم عليها، بل شرفًا وفخرًا لي، خاصة وأني أعرف بعضاً منهم ومن عائلاتهم؛ حيث إن الصورة التي تحاك لهم والدعاية المغرضة ضدهم بهدف المزايدة بها على الغرب وقبض ثمنها مزيدًا من السلطة والثروة؛ هي أبعد ما تكون عن الحقيقة.

والمثال الأخير على تغول الحاكم ومن يدور في فلكه وبلاطه هو ما حصل مع الشخصيات الأربعة الذين ألقي القبض عليهم قبل عدة أيام، وهم: الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد وأمين عام اتحاد الأطباء العرب، والدكتور جمال عبد السلام مدير لجنة الإغاثة والطوارئ باتحاد الأطباء العرب، الذي أطلق سراحه في فبراير الماضي بعد اعتقالٍ لأكثر من 50 يومًا، والدكتور فتحي لاشين المستشار السابق بوزارة العدل، والأستاذ عبد الرحمن الجمل من الشخصيات العاملة في التربية والتعليم.

 

اعتقالات الإخوان

* بمناسبة ذلك، كيف تلقيتِ أخبار الاعتقالات الأخيرة في صفوف قيادات الإخوان؟

** كم آلمني سماع هذا الخبر، خاصة وأني أعرف الدكتورين أبو الفتوح وعبد السلام؛ حيث التقينا في ندواتٍ سابقةٍ وقُيِّض لي أن أتعرف إلى الإنسان في شخص الطبيب الذي يكرس جهدًا جبارًا لمساعدة المظلومين، ومنهم معتقلو السجن الكبير في قطاع غزة، ومن المفارقات أني كنت يومها في الدار البيضاء؛ حيث في اليوم الفائت جرت ندوات عدة عن السجون والعدالة العقابية وضرورة الانتقال لعدالة إصلاحية، ذلك من أجل إيقاف هدر الثروات البشرية التي تدفن في المعتقلات، ولا تستفيد منها أوطانها بناء على نزوة حاكم يخاف من المعرفة ومن كل من يستشعر خطرهم عليه لمجرد أنهم ملتزمون بقضايا أمتهم.

تأثري بالخبر جعلني أتساءل للحظات إن كنا واهمين بالتغيير، وإلى أي حد هو حلم يقظة أن نأمل بإصلاح أوضاعنا العربية بما فيها العدالة والسجون والتعذيب، وأن ننشط في سبيلها إيمانًا بضرورة جعلها منجزًا وواقعًا، لكن كم من القضايا الكبرى والمنعطفات الهامة في تاريخ البشرية بدأت حلمًا لتتحول لواقع.

 

علاوة على التعاطف مع حركة سياسية محرومة من حقها في ممارسة النضال السياسي بشكل طبيعي، أشير أخيرًا لوجود اتجاهات فاشية ومتطرفة في فرنسا مثلاً، مع ذلك كلها مرخصة ولها مكاتب وتجمع تبرعات وتقوم بنشاطات علنية، فالحرية لمن يختلف معي أيضًا، والحرية لأعداء الحرية وليس فقط لمن يوافقني الرأي، أما الاعتقال والحظر والترهيب فهو يظهر ضعف أطروحات من يناهض التعددية وممارسة الديمقراطية الحقيقية وليس الشكلية

من هنا ألفت إلى أن خيار السلطة هذا هو ما يدفع بالشبيبة لمواقف متطرفة، كونها لا تجد تعبيراً عن انشغالاتها في الحركات المعتدلة بسبب المنع والقمع الذي يلاحقها

لنتذكر مثلاً أن حركة مجاهدي خلق تأسست في ظل الشاه الذي أصدر حكماً بالقتل على من ينشط منهم، فقررت تبني العمل المسلح مادام المنشور والسلاح يعاقبان بنفس الطريقة، وبالنتيجة ليس هناك من فعل لا يقابله رد فعل لإعادة التوازن المفقود، والسلطة مسئولة عن كل فعل تطرف يحصل في المجتمع؛ وعليها أن تسائل نفسها عن مدى مسئوليتها في إنتاج هذا التطرف أو ما أسموه بالإرهاب وأباحوا لنفسهم محاربته لحفظ النظام، لكنه نظامهم هم وليس أمن البشر والحرص على هنائهم ورفاههم الاجتماعي.

 

قصور حقوقي

* بصفتك مسئولة عن إحدى أبرز منظمات حقوق الإنسان العالميَّة.. كيف ترين مواقف وسياسات منظمات حقوق الإنسان في مصر؟.. هل تقوم بكل ما هو مطلوب منها، أم ماذا؟.. بمعنىً آخر هل ترين أنَّ هذه المنظمات ذات طابعٍ حياديٍّ ونزيه، أم لديها مشكلات مهنيَّة؟

** لا يمكن وضع الكل في سلة واحدة وتعميم الجزء على الكل، فهذا ليس من الموضوعية بمكان.. هناك مناضلون يضحون براحتهم الشخصية وبحياتهم العائلية ويدفعون من جيوبهم لما يفترض أنه شأن عام ويعني الجميع ويستفيد من نتائجه كل البشر المعنيون به على الأقل.. هؤلاء يستحقون كل التحية والإجلال والدعاء بالتوفيق في طريق صعب ومسار شاق.

بالمقابل، لا يمكن أن أنفي- وأنا كتبت عن ذلك- أننا كحركة حقوقية مخترَقون، وأن منا من يتعيش من حقوق الإنسان، لا يمكن إخفاء ذلك كونه ليس من حصانة على أحد، خصوصًا وأننا نعمل لإعلاء شأن حقوق الإنسان وليس للمتاجرة بها واستعمالها كمعبر للتسلق السياسي والاجتماعي، فالفساد هو الفساد الذي يجب أن يحاسب أينما وجد وخاصة هنا، وهي ليست خاصية مصرية بكل الأحوال

لكن من الملاحظ أن بعض هذه الأمراض التي تطالنا كحركة حقوقية في المجتمع العربي لا تختلف كثيرًا عما نراه في خارجه، فالإنسان هو الإنسان والآليات التي تتحكم به متشابهة في كل زمان ومكان، وإن اختلفت حدةً، أو اكتست بطابع معين وبعض الخصوصية.. الفرد يتأثر بثقافة المجتمع الذي يعيش فيه ويمكن أن تتلون نظرته للظواهر بتلون هذه الثقافة بشكل من الأشكال.

 

( هل ترين أنَّ هذه المشكلات ذات طابعٍ مهنيٍّ أم لها أبعاد سياسيَّةٍ أو أمنيَّةٍ؟

** بكل أسف، الأجهزة الأمنية التي تقف بالمرصاد تستفيد من أخطاء البعض الذين يتحولون لأداة طيعة بيدها بسبب المخالفات التي يرتكبونها والتي تسكت عنها لحين، ثم تستعملها عندما تحين الساعة، ولهذه السلوكيات تأثير سلبي على مجمل الحركة الحقوقية، كما لها نتائج سيئة أيضًا على الحركة السياسية في البلد، لا يغيب عن ذهننا أن العلاقة جدلية بين إفرازات المجتمع، أكانت تنتمي للطبقة الدنيا أو لقمة الهرم الاجتماعي.

 

* كيف تفسرين سبب ضعف أدوار هذه المنظمات إزاء قضايا حقوق الإنسان التي تخص الإخوان المسلمين، مثل الاعتقالات ومحاكمة المدنيين أمام القاضي غير الطبيعي لهم، بالإضافة إلى ما يتم من انتهاكات بحق مؤسسات الإخوان الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة؟، وهل يمكن ربطها بمشكلات هذه المنظمات؟

(**) من ناحية قد يكون هناك مشكلة مع جماعة الإخوان المسلمين وتصفية حسابات قديمة، كما أن هناك اتهامات بالتطبيع مع السلطة عندما تقضي مصالحها بذلك، كذلك أخذ بعض الحقوقيين على الجماعة أنهم يتهمون الآخرين بالتلكؤ ويعيبون عليهم تخاذلهم دون أن ينظروا للقشة في عيونهم، هناك أيضاً من لم يقبل بهذه الاتهامات ورد عليها بعدم صحتها، مؤكدًا إبداء التضامن والاستعداد للتعاون في كل مرة كان الأمر يتطلب ذلك، لكن الرد كان- حسب قولهم- يأتي بالاستبعاد عندما يتطلب الأمر الحضور الفعلي خاصة عند تشكيل هيئة دفاع عن المتهمين وغيره.

لكن من ناحية أخرى، يمكن القول أنه قد تمت عملية تدجين لعدد من الشخصيات والمنظمات من أجل عدم تجاوز الخطوط الحمراء مقابل غض النظر عن تمويل وفساد وغيره، ثم لا ننسَ أن هذه الجمعيات هي ابنة وضع ولا تخرج عن سياق عام من التراجع والتراخي بفعل عملية السحق التي تتعرض لها كونها جزءًا من مجتمع محاصر ومهان ومستهدف في لقمة عيشه وفي وجوده.

 

الحالة المصرية

* كيف ترين الحالة السِّياسيَّة في مصر؟، وما هي رؤيتك من خلال تجربتك مع بعض الهيئات الرَّسميَّة والحقوقيَّة المصريَّة بشأن الاتهامات بالفساد الموجهة للحكم في البلاد؟

** نحن في منحدر كبير يشمل أنظمتنا العربية بالجملة، وإن أظهر بعضها اهتمامًا بتلميع الصورة والبعض الآخر باع السيادة والاستقلال والحريات والحقوق بالمزاد العلني، معتبراً أن من بعده الطوفان، وليس الفساد الذي بات بنيويًّا سوى وجه من وجوه هذه الأمراض التي تفتك بعالمنا العربي بدءًا من رأس السمكة، بفعل الارتهان لقوى الضغط والاختراق والهيمنة، فمن أجل ديمومة كرسي الحكم يتم التضحية بمصالح الشعوب وثروات الأوطان خاصة الغنية والكبيرة، وإلغاء كل من يعترض أو يشكل خطرًا على هذه الاستمرارية وهذا الاستقرار المستنقعي.

 

* هل طبعت الحالة السِّياسيَّة العامة في مصر على الملف الحقوقيِّ من خلال تجربتك في بلادنا؟

** باعتقادي ليس هناك من فصل بين المشروعين المدني والسياسي.. إن أي تصور أمني ينعكس على المجتمع برمته وقد سبق وأشرت لذلك، وأكرر أن التيار الحقوقي هو ابن المجتمع الذي يعيش فيه وإن كان ينتمي لشريحة بشرية تتميز عن غيرها ببعض الخصائص التي تجعل منها رائدة في مجال من المجالات والذي يعني الشأن العام، إلى جانب الارتكاز لمفاهيم عالمية وقيم إنسانية يفترض أنها تعلي من قيمة البشر الذين يتنطحون لهذا الدور، لذلك فهذه الفئة مطالبة بالتميز، وبأن تكون القدوة بشكل ما في سلوكها، خاصة وأننا بأشد الحاجة لمثال أعلى في زمن الضحالة والتردي.

من هنا يجب عدم التساهل مع الأخطاء التي يرتكبها البعض؛ لأنها تنسحب على مجمل الحركة الحقوقية، ويدفع ثمنها الجميع في كل مكان ومن خارج حدود البلد.

 
*
بمعنىً آخر، هل لهذه الحالة الأمنيَّة والسِّياسيَّة دورها في رسم طبيعة تقارير وأنشطة منظمات ومُؤسَّسات حقوق الإنسان في مصر وأنشطة المجتمع المدني بشكلٍ عامٍ في مصر؟

** هي ليست مجرد علاقة بين سبب ونتيجة، إنها أعقد من ذلك، أي هناك مواضيع يجب ويمكن تناولها كالحقوق الاجتماعية والثقافية، والنظام المصري يلعب دوراً في تشجيعها لاسيما عندما يستفيد منها ويتكئ على معطياتها، لكن عندما يتعلق الأمر بالحقوق السياسية فهو يحارب ما يمت لها بصلة كون المسألة حساسة جدًّا بالنسبة له ولمصداقيته خصوصًا كعضو في مجلس حقوق الإنسان وغيره من هيئات دولية.

لكن هذا الاستهداف لا يمكن أن نعطيه أكثر من حجمه ويفترض ألا يؤثر على مجمل التوجه العام للحركة الحقوقية. ثم لا ننسى أن هناك مجتمعًا مدنيًّا ناشطًا في مصر رغم كل محاولات الاستهداف والتركيع والتطويع، وأن للمحكوم جزءًا من مسئولية في تردي الوضع.

التاريخ القديم والحديث حاضر في ذهن من لا تخونه الذاكرة عن ثورات وهبات وحركات عصيان مدني قلبت الأمور رأساً على عقب. وليس بعيدًا عنا ما يحصل اليوم في الشارع الإيراني مثلاً لم يكن أحد يتوقعه لحد ما. أحياناً يكفي شخص واحد مؤمن بجدوى التغيير، ومثابر على تحقيقه لكي تتحول الأقلية لأكثرية ويتغير مسار التاريخ.

 

* عودة للإخوان المسلمين.. كيف تُقيِّمين الدور السياسي والاجتماعي للإخوان في مصر، وما مدى مصداقيَّة التقارير الرَّسميَّة واتهاماتها للجماعة في إطار تقييمك الخاص بالإخوان ونظرتك لدورهم؟

** لكل شريحة اجتماعية وحركة سياسية دور ومكان وأهمية في الزمان والمكان الذي تأتي فيه؛ لأنها تنبع من حاجة، وتعبر عن ضرورة في سيرورة وطن، ولا أستطيع أن أخوض عميقًا في الجواب على سؤالك كوني لا أدعي الاطلاع كفاية على مسار الجماعة، لكن ما يمكنني قوله إنها دفعت غاليًا وعانت جدًّا وبالتوازي مع وزنها السياسي وحجمها الكمي والنوعي، وهناك من أبنائها من كان لهم أن يلمعوا نجومًا يُغنُون وطنهم بطاقاتهم الفكرية وإمكاناتهم البشرية والاقتصادية، لا أن يقبعوا في غياهب المعتقلات يفنون سنوات من عمرهم كان لها كبير الأثر ليس فقط عليهم بل أيضًا على عائلاتهم ومحيطهم.

فمن يخشى على عرشه من قوتهم؛ يصوِّب سهامه نحوهم كلما دنا الخطر منه أكثر، وكلما اشتدت مشاعر ضرورة محاربة الإسلام والمسلمين وطأة في زمن باتت المزايدات على هذه البضاعة أغلى ثمنًا.

لقد بات واضحاً لعيان العميان أن الغرب عمل في بلداننا على تثبيت سلطات مهادنة مع سياساته، خشية من صعود الحركات الإسلامية وقوى التحرر والمقاومة، ولتأمين ظروف وضع اليد على مصير شعوبنا وأوطاننا وثرواتها، وهذا لا يعفي مطلقًا حركة الأخوان المسلمين من أخطاء ارتكبتها وكان لها أن تنسحب بنتائجها على من عداها، لكن كم من السياسات جربت وطبقت من قوى عديدة وجرّت الكوارث على الشعوب؟!

 

* ما رؤية المنظمات الحقوقيَّة الدَّوليَّة للحالة السِّياسيَّة والحقوقيَّة في مصر، ولأداء منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني في مصر بشكلٍ خاصٍّ؟

** هناك معرفة ومتابعة جيدة من طرف بعض المنظمات الدولية على الأقل إن لم يكن كلها، وكذلك إجماع على تراجع كبير على صعيد الحريات الأساسية؛ لكن الاهتمام والمساندة لا يعني إحلال المجتمع المدني الدولي مكان المجتمع المدني المصري؛ حيث لكل منها مهامه العديدة، فعدم الاتكاء عليها لا يعني عدم جدوى التحريك وإبقاء الملفات جاهزة لإيلائها الأولوية عند الضرورة.

 

مستقبل غامض

* في الختام.. كيف تنظرين إلى مستقبل الوضع العام في مصر في ظل تقييمك الخاص للوضع في البلاد؟

** السؤال واسع جدًّا، ومن الصعب الخوض فيه بتفصيل، ولكني أشير هنا لما نشره مركز المعلومات بمجلس الوزراء نفسه، عندما قال إن المصريين أكثر شعوب منطقة الشرق الأوسط سخطًا من مستويات دخلهم؛ حيث 76% منهم غير راضين عن دخل أسرهم، و55% يدفعون الرشاوى لموظف الدولة ليقوم بواجبه الذي هو إتمام خدماتهم وعدم تعطيلها، كذلك هناك تقارير لمنظمات دولية ذكرت احتلال مصر المركز 77 في قائمة الفساد العالمي لعام 2005م، فالفساد بلغ حدًّا كبيرًا لدرجة أنه بات مؤسسة تحمي نفسها بنفسها.

وذلك يعني هدر- ليس فقط- الحقوق السياسية والمدنية؛ وإنما كذلك الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، أذكّر أيضاً بتحذيرات رسميين من أنَّ تفشي الفقر مع عدم خفض معدل الولادات من أخطر بواعث القلق التي تهدد المجتمع المصري اليوم.

كثيرون جدًّا من المصريين غير متفائلين من المستقبل القريب لهذا البلد الذي كان يلعب دور القاطرة في حين نراه اليوم يأتمر أو يتواطأ مع سياسات خارجية لتنفيذ أجندة خاصة في المنطقة، مقوضًا ما يمكن أن يؤسس لدولة القانون، وحياة ديمقراطية، وغد زاهر لأبنائه، لقد أضاعت السياسات المتبعة كذلك من هيبة وسمعة ومكانة مصر على الصعيدين الإقليمي والدولي؛ حيث منذ معاهدة كامب ديفيد باتت هذه الدولة تابعة ومنزوعة السيادة، ولها ضمن المشروع الصهيو أمريكي دور وظيفي أمني بضمان أمن "إسرائيل" وتصفية المقاومات.

وخير دليل على ما نسوق ما حصل في غزة ولم يجد حلاًّ حتى الساعة، في حين يستمر النزيف الرهيب بين قتلى قضوا؛ لأنهم لم يتمكنوا من الخروج للتداوي، وجرحى ومعاقين لا يتاح لهم العلاج أو الغذاء أو حتى مواد البناء للاحتماء من سخط الطبيعة. وكله يحصل على يد جار يتحكم بالمعبر الفاصل، وبالتالي بمقومات العيش والصمود، وهو أمر مؤسف حقًّا.

لكن الإدانة والشجب لا تقدم أو تؤخر شيئًا، وإنما حانت الساعة للانتقال للمحاسبة على المشاركة في الجرائم التي ترتكب بحق شعب أعزل ومحاصر بكل الوسائل، وهذا لا يشرف البشرية بشيء، ويسيء جدًّا لشعارات الديمقراطية والتضامن وحقوق الشعوب وللمؤسسات الدولية والعربية التي تكتفي بالفرجة دون أن تحرك ساكنًا أو بالكاد، والسيناريوهات المحتملة في ظل وضع بهذه القتامة، هل يمكن أن تكون شيئًا آخر غير الثورة والعصيان المدني وكل ما يفجر المكبوتات، في لحظة عنف لن ترحم أحدًا، ويكون ثمنها عظيمًا على كل الشرائح المجتمعية.