أسلحة فسفورية، وأخرى كيماوية، وثالثة بايلوجية، غاز خردل، ومثله للأعصاب، قنابل قذرة، وأخرى ذكية، ثم جاءت الغبية، تعددت الأسماء، وجميعها رموز للديمقراطية، أما الهدف، فأطفال بعمر الزهور، جل ذنبهم أنهم ولدوا في زمن الاحتلال والفجور.
أطفال العراق يتساءلون عن أي ذنب يقتلون!؟ ولأي سبب يترنحون!؟ فبعد شظايا الحصار والجوع، يقتسمون اليوم موتهم مع أمهاتهم وإخوانهم، وينادون: عار على زمن الحضارة، فقد صار ترويع الشعوب وسام عز وافتخار، لدى أمريكا ومن معها، ممن اشتركوا في جريمة إبادة الشعب العراقي، لكنهم لا يدركون أن عمر الحضارة لن تعيش بدون قلب أو ضمير!!
أمراض الحرب التي خيم ظلها على براءة الأطفال حولت حياتهم إلى جحيم لا يطاق، وأفقدت الأهل على إثرها فرحة أنجاب الأطفال، وفرحة النظر إليهم، وهم ينمون ويكبرون، مثل شجرة وارفة الظلال، بعد أن تحولت أحلامهم الوردية إلى سراب، وهم يشاهدون فلذات الأكباد يصارعون، ويقاسون، ويتألمون، بانتظار قاطف الأرواح، الذي يحصد زرع الآباء، والسبب أسلحة الفتك والدمار!
أطفال صغار، لكل واحد منهم قصة، أخذ الحصار منهم مأخذه، ثم تبعته سنوات الحرب، حرب لم تعتبرهم صغاراً، بل عدتهم جنود حرب في سوح الوغى، عليهم ما على الجند من نصيب الموت، والقتل، والتجويع، والقهر، والاضطهاد، فأصبحوا هدفاً لأسلحة محرمة دولياً، وممنوعة عالمياً!
"أسامة" قلبت الحرب كيانه، فحولت القلب من الشمال إلى اليمين، وشلت حركته بخمس فتحات في البطين والأذين، وجاءت الرئة لتضيف إلى هم القلب هماً مضاف.. ضحكاته وابتساماته لم تخف آلامه ودمعاته، ونظرات والده تجعلك تدرك أن لا أمل لأسامة في "النصر" على علله، ولا حتى بعلاجه خارج البلاد، إذ لا بارقة أمل له في النجاة!"مخلد" طفل هو الآخر أحد ضحايا الأسلحة المحرمة، التي استخدمت بكثرة في حروب الاحتلال والتدمير.. ينظر "مخلد" بحسرة إلى أخوته الصغار وهم يلعبون ويدورون حوله، وكم يتمنى لو أن ساقيه أسعفتاه وحملتاه كي يجاري الصغار، ويتقافز معهم، بدلاً من زحفه على بطنه ويديه، وكم ود لو أن قدميه تأخذانه إلى المدرسة، كأقرانه، فضاع حلمه في العودة من المدرسة، عند الظهر، إلى داره، وعلى قدميه!
والدة "مخلد" أكدت أن أثنين من أبنائها فقدتهم بالمرض نفسه ، متحسرة على ثالثهم الذي يبدو أن سيلتحق بسلفيه!! وظلت الأم تذرف الدمع على مستقبل مبهم ومجهول ومظلم لصغيريها، وهي تستغيث وتستنجد، ولا من مجيب، والجاني يصول ويجول أمام عينيها كل يوم!!
الأب ناشد المنظمات الإنسانية والهيئات الدولية التدخل، ليس لعلاج أبنائه، بل لإنقاذ أطفال العراق جميعاً، الذين تفاقمت أوضاعهم الصحية بتأثير جو ملوث، وماء ملوث، وحياة ملوثة في ظل احتلال بغيض، صدّر إلينا إلى جانب البؤس والشقاء والمرض، الموت والهلاك وبأبشع صورهما!
"علي" طفل آخر فقد الإحساس بمن حوله فتخشب، وأصبح ميتاً حي، وهو الذي نما وكبر ومشى ونطق، قبل أن يعود حبواً، ثم زحفاً، فرقوداً ثم جماداً، بانتظار أن يلاقي مصير شقيقه، الذي أصيب بالداء نفسه، بعدما صعب عليه الدواء!
"عدي" و"معتز" شقيقان يمثلان مأساة عائلة عراقية أخرى، تكالبت عليها الأمراض، فحرمتهما نشوة الحياة، وراحة البال، ودفعتهما إلى حافة الفقر والإفلاس، فالوالد جاهد كثيراً، وهو يحاول إعادة رسم البسمة على شفاه "عدي"، وتألم أكثر لأنه لم يفلح في إنقاذ صغيره "معتز".
"محمد" و"هناء" هما أيضاً شقيقان، يعاني كل واحد منهما من مرض يختلف عن الثاني، فـ"محمد" فقد بصره بعد ولادته بأيام، و"هناء" ولدت إلى هذه الدنيا بلا أطراف عليا، جحيم عاشه الأب والأم، فهم عجزوا عن رد البصر لصغيرهما "محمد"، ولا يملكون حلاً لمأساة "هناء".
طفل آخر بحجم قبضة يد رمزاً للطفولة الجديدة التي يريدها لنا الاستعمار، طفل لا يحمل من سمات الطفولة سوى الاسم فقط، أطرافه لا تختلف عن أطراف عصفور صغير، سوى بهيئتها الآدمية، ولولا صرخاته واستغاثاته، التي يطلقها من شدة آلامه، لحسبه الناظر دمية لا غير !!
تلك نماذج يسيرة، هي مثال حي لأبسط ما خلفته حرب لا أخلاقية، استخدمت فيها كافة أنواع الأسلحة المحرمة دولياً، حرب لا هوادة فيها، استهدفت إلى جانب الأرض والسماء، والماء والهواء، الإنسان نفسه، وأي إنسان، إنسان وادي الرافدين، الذي بنيت على يديه ونشأت أولى حضارات هذا الكون.
حرب مدمرة تلك التي تعرض لها العراق، ولا يزال، شمل تأثيرها جميع مساحته الجغرافية، وامتد هذا التأثير إلى عمق المناطق المجاورة.
حرب تميزت بنوعية الأسلحة الفتاكة المستخدمة فيها، أسلحة ذات تأثير عشوائي، وتدمير تدمير جماعي، وقنابل فراغية، وأخرى عنقودية، وأسلحة فسفورية، غازات سامة، أسلحة كيماوية، وأسلحة حديثة، جربت للمرة الأولى في هذه الحرب، كما تميزت بكمياتها الضخمة، والتي تبين أن القصد من وراء استخدامها بهذا الشكل والحجم هو ترك هذا الأثر المفجع من تدمير متعمد لبيئة العراق، وللإنسان العراقي مع ما يحمله ذلك من انتهاك صارخ للقوانين الدولية التي حظرت في البرتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف، في مادته الخامسة والثلاثين، التي تحظر استخدام وسائل أو أساليب للقتال، يقصد بها أو قد يتوقع منها أن تلحق بالبيئة الطبيعية أضراراً بالغة، واسعة الانتشار، وطويلة الأمد، وهذا التدمير المنظم ستمتد آثاره السلبية لقرون قادمة، وذلك بحسب الكثير من الدراسات العلمية المهتمة بهذا الخصوص، فكيف إذا كان الضرر يصيب الإنسان نفسه، فحينها ماذا يمكننا ان نطلق على مرتكب هذا الجريمة ؟!!
اليوم وبعد سبعة عشر عاماً من بداية شن الولايات المتحدة لحربها السافرة على العراق، وبعد ست سنوات من الاحتلال الفعلي، نشأ جيل جديد من الصغار والفتية، جيل يعاني ويقاسي ومصاب بشتى أنواع الأمراض والأوبئة، بعد أن أصبح الطفل العراقي حقلاً لتجارب كافة أنواع الصواريخ والقنابل الذكية منها والغبية إلى جانب ما جادت به العنجهية الأميركية وآخر ما توصلت إليه عقول علمائهم في مجال الأسلحة الكيماوية والفسفورية والجرثومية، والتي أثبتت نجاحها بامتياز، ضد أطفال العراق.
وقد حاولت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد جورج بوش الأب أن تبرر ذلك عندما سُئلت عن إن الأطفال الذين ماتوا في العراق خلال الحصار هم أكثر مِن الأطفال الذين قُتِلوا في هيروشيما، فأجابت: نعتقد بأن النتيجة تستحق كل ذلك.
لقد خلفت الحرب الكارثية الأميركية_البريطانية على بلادنا تلوثاً إشعاعياً نجم عن ذخائر اليورانيوم المشعة، إلى جانب وجود آَلاف المواقع الملوثة في العراق، والتي سمحت قوات الاحتلال للناس بدخولها واخذ مخلفاتها وحاوياتها حتى وصل عدد المواقع الملوثة نتيجة تعمد القوات المحتلة السماح للجهلة بدخولها أكثر من ثمانمائة موقع في بغداد وحدها، بشهادة برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP.
وتؤكد الوثائق الأرشيفية أن الولايات المتحدة أطلقت حوالي 1.5 مليون قذيفة من أسلحة اليورانيوم على العراق، أي مئات أضعاف القذائف التي ألقيت على يوغسلافيا السابقة، وفي حرب البوسنة.
وقد أصيب أكثر من 60 ألف جندي أميركي بالسرطان فقط، بعد مشاركتهم في حرب عام 1991، ما يؤكد أن الإدارة الأميركية لا تعبأ حتى بأرواح جنودها في حروبها المدمرة ضد الشعوب الأخرى في معاركها اللا أخلاقية تلك! إلى جانب تأثير الغبار السام والمشع الصادر عن الأسلحة المحرمة التي استخدمتها أمريكا ضد العراق لسنوات طويلة في الجسم البشري، وهو ما يؤكد وجود هدف خفي وراء هذه الحرب غير السبب المادي والاقتصادي، وهو هدف لم يقرأه الناس بين السطور بل تحدث عنه جنرالاتهم وقادتهم السياسيون كالسيناتور الأمريكي بول ويلتون الذي كشف عن حقيقة استخدام بلده للأسلحة المحرمة دولياً ضد العراق إذ يقول:
كنت أعتقد أن غزو العراق كان للسيطرة على منابع النفط الذي يعتبر حاجة مهمة للولايات المتحدة , ولكن قناعاتي تغيرت الآن, فأعتقد أن الحرب النووية التي شنتها الولايات المتحدة هو لتقليل عدد نفوس الأمة العربية, فأن تعريض كل هذه الأعداد من المدنيين العرب لهذه الجرعات اليومية من اليورانيوم المشع تسبب في زيادة عدد الموتى والإصابات المرضية الخطيرة.
أن الإصابات السرطانية تضاعفت بعد الحرب مباشرة، وقد ظهرت حالات غريبة لم تكن معروفة قبل عام 1990، مثل سرطان الثدي لدى الفتيات بعمر دون الاثنى عشر عاماً، وسرطان العظام لدى الأطفال الصغار، وسرطان المجاري البولية لدى المراهقين، والأورام السرطانية في المجاري التنفسية لدى الأطفال الرضع، إلى جانب ارتفاع عالي في الإصابة باللوكيميا واللمفوما وسرطان العظم، بينما معدل عمر مرضى السرطان هو أقل من السابق، بمعنى تسجيل إصابات في عمر مبكر بشكل مناقض للمعايير الدولية، فضلاً عن وقوع إصابات ببعض أنواع السرطان التي لم تكن معروفة أو مألوفة في العراق سابقا، مثل سرطانات الدماغ والكبد، التي تم تسجيلها بأعداد متزايدة، إضافة إلى حصول عدد كبير من التغيرات الفسيولوجية والخلوية في بعض المرضى، وهي إشارة لكونهم قد تعرضوا لمخلفات اليورانيوم المنضب.
فبحسب تقارير وأبحاث أجريت حول تأثير الأسلحة المحرمة على أطفالنا وجد أن البويضات تكون مختزنة في مبيض النساء وعند خروجها بعد سنة أو سنتين أو عشرة سنين أو أكثر من المبيض تكون معيبة ومشوهة وتؤدي في النهاية إلى حمل معيب أو مشوه قد ينتهي بالإجهاض أو يفضي إلى ولادة مولود به عيوب خلقية، ولهذا فأن الخطورة الأكبر التي ستواجه العراقيين هي أن الأطفال والإناث اللاتي سيولدن بعد الحروب قد ينتج عنهن أطفال مشوهين وذلك أن أرحامهن تختزن بويضات تعرضت للإشعاع أثناء وجودهن في أرحام أمهاتهن.
ما اغرب هذا المحتل، الذي ينادي ويجاهر بالدعوة للاهتمام بحقوق الحيوان، في حين أنه يهدر حقوق أطفال ونساء ومستقبل العراقيين.. إن ما أُرتكب بحق الشعب العراقي وبحق بيئته كان عن سابق إصرار وترصد وإرادة مما يعد جرائم حرب من الدرجة الأولى، بحسب تعريف القانون الإنساني لجريمة الحرب.
إن ما مر على العراق من حرب إجرامية، ينطبق عليها وصف الحرب اللا نظيفة، ترك آثاراً لا يمكن أن تمحى ولا حتى بعد ملايين السنين، فتلوث الهواء والتربة والمياه قد وصل مستويات قياسية بحسب تقارير دولية ومع ذلك لم يتم حتى الآن التصريح بهذه النتائج رسميا، لمحاسبة المتسببين بها نتيجة لسيطرة القوى المحتلة للعراق على القرار الدولي والتي ليس من مصلحتها بالتأكيد انكشاف حجم الكارثة، ولكن إلى متى سيظل هذا الوضع قائماً، فالحقيقة لابد ان تظهر وتتكشف، وخطيئة أطفال العراق لن تذهب سدى!
العراق اليوم يعيش كارثة بيئية وصحية كبيرة تسببها إشعاعات ذخائر اليورانيوم المنضب،وتداعياتها لن تقتصر على الجيل الحالي، بل وستطال الأجيال القادمة، ليس في العراق وحده، فاليورانيوم لا توجد شرطة حدود أمام انتقاله، فهو ينتقل بحرية من بلد إلى آخر بفعل قدرة الرياح على نقل جزيئاته المشعة وحتى يصبح اليورانيوم بلا إشعاع، علينا أن تنتظر من أربعة إلى خمسة مليارات عام ليصبح خطره آمناً على أطفالنا وعلى حياتنا في بلاد الرافدين، فهل عرف العالم الآن أي عدو نقاتل، وأي وحش كاسر هذا الذي غزا بلادنا، وأي بلد هذا الذي صنع تاريخه على جماجم شعب بأكمله هو شعب الهنود الحمر، وأي حضارة هذه التي أنتجتها التكنولوجيا اللا أخلاقية لأمريكا ؟!!
ولا يزال قطار الأموات يخطف في كل يوم أرواح الكثير من أطفالنا، والحبل على الجرار كما يقال، نتيجة إجرام أمريكا، والعالم من حولنا يغط في نوم وسبات وفساد.. فمن يوقظ النائم إذا غفا، ومن يقاضي المحتل على الإجرام !!؟
2009-06-17