يحدث الآن إعلامياً في مجرى توصيف نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية تهويلٌ وتضخيم، وكأنّ ما حدث هو أيضاً هزيمة سياسية للمقاومة اللبنانية التي يقودها "حزب الله"، بينما هي من وجهة نظري على العكس من ذلك. فالمقاومة ربحت كثيراً في هذه الانتخابات: ربحت في تنفيس هذا الاحتقان المذهبي الخطير الذي كان يحيط بها منذ أن شُنّت الحرب الإسرائيلية عليها وعلى لبنان في صيف العام 2006. فلو أنّ المعارضة انتصرت في الانتخابات اللبنانية لكان ذلك مبرّراً لمزيد من الشحن الطائفي والمذهبي والتهويل بالخطر على "الكيان والهويّة"، كما تردّد ذلك خلال الأشهر الماضية وحتى الساعات الأخيرة قبل يوم الانتخاب.
إنّ ظاهرة المقاومة اللبنانية هي أشبه بحالة "أم الصبي" في القصّة المعروفة عن ادّعاء الأمومة. والأمومة هنا هي الوطن والدولة اللبنانية. فلولا وجود المقاومة اللبنانية هل كان ليتوفّر في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي إمكان بناء دولة لبنانية واحدة؟! وهل يكون الوطن اللبناني كاملاً لو استمرّ الاحتلال الإسرائيلي لجنوبه ولجزء من بقاعه وجبله؟! وهل كان لشعارات "السيادة والحرّية والاستقلال" معنًى لو أنّ ثلث لبنان محتلّ من إسرائيل؟! وهل كان ممكناً مطالبة سوريا بتنفيذ ما ورد في "اتفاق الطائف" عن سحب قواتها تدريجياً من لبنان لو أنّ هناك احتلالاً اسرائيلياً جاثماً على أرضه؟!
إذن، للمقاومة اللبنانية لا شرف تطبيق شعار "الحرية" بتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل الفضل أيضاً في نشر الدولة اللبنانية "سيادتها" وقواتها على كامل الأراضي اللبنانية، وهذا هو المعيار الحقيقي لمعنى الاستقلال" اللبناني.
ثمّ أليس معروفاً أنْ لم تكن المقاومة اللبنانية أصلاً تسعى إلى إضافة عدد مقاعد ممثليها في مجلس النواب، وهي التي حرصت على التخلّي عمّا يمكن أن يكون لها لصالح حلفائها؟!
لقد أصبح مفهوم "الوطنية" في القاموس السياسي اللبناني يعني مقدار الابتعاد عن سوريا، وأصبحت "الهويّة العربية" حالة عنصرية ضدّ إيران، وتقزّم إنجاز المقاومة ضدّ الاحتلال إلى "خطر مذهبي"، وتحوّل حقّ المعارضة بالمعارضة إلى "تهديد الكيان"!!
وهذه المفاهيم هي التي تشوّه الآن كل العمل السياسي في لبنان وتدفع بالجيل الجديد إلى مزيد من التخلّف السياسي القديم الذي عانى ويعاني منه لبنان، وكان هو المسؤول عن تفجير أزماته السياسية والأمنية في التاريخ المعاصر.
طبعاً، المعارضة السياسية اللبنانية مسؤولة أيضاً عن تدهور الطرح السياسي الوطني لصالح "لعبة الطوائف والأمم" في لبنان، وهي لم تُحسن التنسيق فيما بينها خاصّة مع قطاعات واسعة من القوى الوطنية والعروبية غير المصنّفة بقوالب طائفية ومذهبية.
وبالتالي، فإن الانتخابات جرت في ظلّ أجواء طائفية ومناطقية مشحونة استفاد منها من يملك فيها التأثير أكثر: مالياً وسياسياً وإعلامياً، وفي إطار تهويل إعلامي وسياسي خارجي.
وقد يختلف اللبنانيون حول كيفيّة قراءة النتائج السياسية للانتخابات النيابية، لكنّهم يتّفقون طبعاً على أنّ هذه الانتخابات شهدت انتعاشاً ملحوظاً لكلّ أنواع الفرز الطائفي والمذهبي والمناطقي، ووفق قانون انتخابي أعادهم نصف قرنٍ إلى الوراء.
فعوضاً عن اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة على أساس النظام النسبي، أو بالحدّ الأدنى اعتماد المحافظات كدوائر انتخابية، من أجل تحقيق التفاعل الوطني بين اللبنانيين، وبينهم وبين المرشجين لتمثيلهم في المجلس النيابي، جرى اعتماد قانون انتخابي قديم كان قائماً في مطلع الستينات من القرن الماضي وفيه تأصيل وتجذير لحال الانقسام الطائفي والمذهبي والمناطقي، وهو الحال الذي أوجد في العام 1975 المناخ المناسب لتفجير الحرب الأهلية اللبنانية.
كان اللبنانيون في الستينات والسبعينات من القرن الماضي يتحدّثون بخجل عن انقسامهم الطائفي بين "مسلم" و"مسيحي". أمّا الآن فهناك اعتزاز وافتخار بالحديث المباشر عن طوائف ومذاهب ومناطق!!
كانت الدولة اللبنانية في مطلع الستينات تتهيّأ تحت قيادة اللواء فؤاد شهاب لبناء مؤسساتها كدولة واحدة لكلّ اللبنانيين، فإذا بتفاعلات نتائج حرب العام 1967 تطيح بالتجربة الشهابية ليدخل لبنان بعدها في أتون الصراع العربي/الإسرائيلي وبوقود طائفية محلّية. وقد بدأت الحرب الأهلية اللبنانية بشعارات تتعلّق بالوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، لكنْ "تطوّرت" الحرب لتصبح "حروب إلغاء" متبادلة بين الطوائف والمناطق، وحتى داخل كل طائفة ومنطقة!!
وجاءت صيغة "اتفاق الطائف" لتنهي الحرب ولتصنع آمالاً جديدة بإمكان نهوض لبنان على أسس وطنية توحيدية. لكن مرّةً أخرى يتغلّب "لبنان المزارع والإقطاعيات" على لبنان الدولة الواحدة. فكما أطاحت التفاعلات الدولية والإقليمية عقب حرب العام 1967 بالتجربة الشهابية، حوّلت تفاعلات حروب إدارة بوش بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001 صيغة "اتفاق الطائف" إلى مشاريع "حروب طوائف". وقد كان قرار مجلس الأمن 1559 الصادر في العام 2004 هو بداية الانحدار من "إتفاق الطائف" إلى "صراعات مزارع الطوائف".
هاهو لبنان اليوم يشهد انتعاش "الإقطاعيات الطائفية والمذهبية" دون أي تغيير عملي لواقع القوى على الأرض أو لتحالفاتها الخارجية، ودون تغيير لما كان قائماً منذ "اتفاق الدوحة" من توافق إقليمي/دولي على عدم تفجير أزمات أمنية على أرضه بانتظار حلول وتسويات سياسية قادمة في المنطقة، معنيٌّ فيها لبنان والقوى الإقليمية والدولية المؤثّرة فيه.
إنّ الأمل بالتغيير والإصلاح في لبنان لا يمكن أن يتحقّق من خلال قيادات وآليات وقوانين طائفية ومذهبية. فالوطن اللبناني الواحد بحاجة إلى وطنيين توحيديين لا طائفيين.
ولن تكون هناك دولة لبنانية قوية وعادلة ما لم تقم مؤسسات الدولة على أسس وطنية لا طائفية، فما يتمّ بناؤه على خطأ لا يمكن أن يصل إلى نتائج صحيحة. وأساس المشكلة هو في النظام السياسي الطائفي الذي يتوارثه الزعماء السياسيون ويحرصون على استمراره حيث أنّهم به يستمرّون ويستثمرون.
ففي لبنان، الطائفية أولاً.. والوطن أخيراً !
المصدر: مركز الحوار العربي 11-06-2009