تصاعدت في الآونة الأخيرة وبشكل لم يسبق له مثيل حملات تقودها قوى وأعضاء في مجلس النواب وإعلام وطني لكشف وإدانة الفساد الذي انتشر كالسرطان في جميع أنحاء المؤسسات الحكومية منذ احتلال العراق في عام 2003، مما أجبر قوات الاحتلال والحكومة على ادعاء المشاركة في هذه الحملة في محاولة لإبعاد نفسها عن تهمة المسؤولية عن استشراء الفساد في كيان الحكومة الذي وصل إلى قمة هرم الحكومة.
وإذا كانت قضية استدعاء وزير التجارة عبد الفلاح السوداني (البريطاني الجنسية والقيادي في حزب الدعوة الذي يرأسه رئيس الوزراء نوري المالكي) أمام مجلس النواب وكشف تورطه هو وأشقائه في النهب والتخريب الموجود في وزارته، قد اجبره على الاستقالة ثم إلقاء القبض عليه وهو يحاول الفرار خارج العراق، فإن ثمة قائمة طويلة أخرى تنتظر التحقيق نفسه بينهم وزراء النفط والعمل والتربية والمواصلات والخارجية والكهرباء وغيرهم، لتكشف حجم الفساد الذي ينخر كيان الحكومة ويستنزف موارد العراق وثرواته في وقت هو في أمس الحاجة فيه لإعادة بناء ما دمرته الحرب وسد النقص الهائل في الخدمات الأساسية الضرورية للمجتمع.
وقد اعترف العديد من كبار المسؤولين في الحكومة باستفحال الفساد وضرورة التصدي له، ومنهم طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية الذي صرح في نيسان (ابريل) 2009 بأن الفساد المالي يهدد جهود التنمية و الإعمار في العراق، وما أشار إليه رافع العيساوي نائب رئيس الوزراء أمام مؤتمر توفير الخدمات في العراق بتاريخ 5/5/2009 من أن الفساد في العراق هو سبب نقص الخدمات الأساسية بشكل دائم على نحو يهدد الاستقرار. وأيد ذلك برهم صالح نائب رئيس الوزراء عندما أعترف في 10/5/2009 بأن الأمن والفساد والبيروقراطية هما عائقان في وجه الاستثمار'في العراق. كما أكد هذه الحقيقة علي بابان وزير التخطيط في 25/12/2008 عندما صرح بأن المساعدات والمنح الدولية لإعمار العراق قد شابها الكثير من الفساد والتبديد .
وإذا كان البعض يستغرب من أسباب استفحال هذه الظاهرة في جميع أنحاء كيان الدولة العراقية، فإن المتتبع لبواطن الأمور يعلم بأن الحكومة قد ساهمت بشكل كبير إلى جانب قوات الاحتلال في تفشي ظاهرة الفساد من خلال الكثير من الإجراءات التي هيأت الأجواء والظروف لتواجد الفساد المالي والإداري وازدهاره بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي، فقد كشف القاضي رحيم العكيلي رئيس هيئة النزاهة في ندوة مع قناة 'الحرة' بتاريخ 23/9/8 أن 690 قضية فساد تم إغلاقها بموجب قانون العفو العام لسنة 2008، وأن الدستور كان يمنع العفو عن قضايا الفساد ولكن تم إلغاء ذلك في قانون'العفو العام الأخير، وأشار أنه كان المفروض من المتورطين بالفساد ممن شملهم العفو أن يعيدوا الأموال المسروقة إلى الدولة إلا أن ذلك لم يتم. وفي نفس الندوة تحدث النائب صباح الساعدي رئيس هيئة النزاهة في مجلس النواب بأن هناك قوانين يتم تشريعها من أجل حماية المفسدين، وذكر أنه يعتقد أن الأموال المسروقة من الدولة قد ذهبت إلى الأحزاب والقوى السياسية المتنفذة في السلطة. كما صرح رئيس هيئة الادعاء العام الاتحادي لصحيفة 'الصباح' الرسمية بتاريخ 21/2/2009 بأن هناك عائق كبير يعرقل عمل هيئة النزاهة وهي المادة 136 من قانون الأصول التي تتطلب موافقة الوزير المختص لإحالة الموظف المتهم بالفساد للقانون، حيث أضاعت هذه المادة 87 مليار دينار من المال العام، ويجب إلغاء هذه المادة لانتشال العراق من وحل الفساد حسب قوله. وبدوره فقد كشف موسى فرج رئيس هيئة النزاهة السابق لقناة 'الفيحاء' في 4/3/2009 بأن قيام رئيس الوزراء بتشكيل مجلس للنزاهة يضم هيئة النزاهة ولجنة النزاهة في مجلس النواب ومجلس الرقابة، يعتبر تدخلاُ وإجراء غير دستوري لأنه يجعل هذه الجهات المستقلة تابعة لمكتب رئيس الوزراء وهو تعطيل لمكافحة الفساد. وأضاف أن رئيس الوزراء عين أشخاصا غير مؤهلين في مواقع رئيسية في هيئة النزاهة، كما أن وزير الدولة لشؤون النواب يعرقل أية محاولة من النواب لمحاسبة أحد المسؤولين عن الفساد إلا بموافقة رسمية من ذلك الوزير. وهناك جهات حكومية تمنع هيئة النزاهة من العمل بحجة عدم المساس بالحكومة. وذكر سلام عضود كبير المحققين في هيئة النزاهة أمام الكونغرس في 24/9/8 أن 13 مليار دولار من أموال إعادة الإعمار أهدرت أو نهبت عبر مشاريع وهمية على أيدي عناصر فاسدة في الحكومة العراقية. إضافة إلى إعلان راضي الراضي رئيس هيئة النزاهة السابق أمام أحدى لجان الكونغرس الأمريكي في 8/9/8 بأن الحكومة تعرقل فتح التحقيق بقضايا الفساد، وجرى إيقاف عدة قضايا فساد ضد مسؤولين حكوميين.
ولم تقتصر الاعترافات بوجود الفساد في مؤسسات الحكومة على بعض أعضاء مجلس النواب وبعض القوى السياسية ووسائل الإعلام، بل امتد ذلك إلى الجهات الأمريكية والدولية أيضا، حيث أن السفير جوزيف دستافورد منسق ملف الفساد في السفارة الأمريكية ببغداد صرح في 22/5/9 بأن الأمانة العامة لمجلس الوزراء هي أكثر مؤسسات الدولة العراقية فساداُ. كما أشارت صحيفة 'نيويورك تايمز' الأمريكية بعددها الصادر في 8/5/9 بأن حجم الفساد في العراق بلغ مستويات غير مسبوقة، وهو ما جعل الاستقرار والأمن في البلاد امرأ مستحيلا. وكانت نفس الصحيفة قد أكدت بعددها في 18/11/8 أن المالكي يقوم وبشكل منهجي بإقصاء وإبعاد المفتشين العامين في الوزارات المكلفين بمتابعة حالات الفساد المالي .
وعلى الرغم من إعلان حكومة نوري المالكي إزاء تصاعد حملة كشف الفساد في دوائرها، عن عدم الوقوف مع المتورطين فيه من الوزراء وكبار الموظفين الحكوميين، فإن الحقيقة التي باتت واضحة لكل العراقيين هي أنها المسؤولة الأولى عن وجود واستمرار الفساد بل وفي انتشاره من قبل معظم المسؤولين الحكوميين الذين هم قادة الأحزاب والحركات التي تدير السلطة في العراق الآن، والذين جعلوا من انتمائهم هذا غطاء لحرية استباحة المال العام دون خشية من العقاب. بل أن العديد من قادة حزب الائتلاف الحاكم انتقدوا هذه الحملة واعتبروها ذات أهداف سياسية ضد الحكومة، كما طالب بيان جبر صولاغ وزير المالية في تصريح صحافي بتاريخ20/1/2008 بإلغاء هيئة النزاهة لأنها تعرقل عمل الحكومة !! كما صرحت النائبة شذى الموسوي أن بعض المسؤولين الحكوميين يسعون لشراء سكوت البرلمانيين في قضايا الفساد المستشري في دوائر الدولة عقب استدعاء وزير التجارة.
إلا أنه وبرغم هذه المحاولات المحمومة، فإن فسحة الديمقراطية ( رغم ضيقها ) في مجلس النواب والصحافة وبعض الأحزاب والقوى، سمحت لتلك الجهات المختلفة من كشف الفاسدين وتحميل الحكومة المسؤولية عن تفشي الفساد، بل إن النائب صباح الساعدي رئيس هيئة النزاهة في مجلس النواب صرح في 10/5/2009 بأن ( على المالكي التنحي إذا لم يستطع القضاء على الفساد في حكومته )، مؤكداُ في 31/3/9 أن وتيرة الفساد في العراق في تصاعد ولا صحة لتصريحات الحكومة حول انخفاض الفساد في الفترات الأخيرة. كما أعلن النائب والقيادي في الحزب الإسلامي ظافر العاني في أيار (مايو) 2009 بأن رئيس الوزراء مسؤول عن تفشي الفساد في الحكومة.
ومع أن دوافع كل جهة في إثارة هذا الموضوع في هذا الظرف بالذات لا تخفى على الكثيرين، فالمؤكد أن الانتخابات النيابية المقبلة في كانون الثاني من عام 2010 هي الدافع الأكبر وراء محاولات إظهار هشاشة وضع الحكومة وعيوبها وفضحها أمام الشعب العراقي والعالم بشكل أوسع، علماُ بأن العراقيين على علم واطلاع ولديهم معرفة بتفاصيل أكثر فظاعة مما يظهر في العلن لما يجري من نهب وتدمير مبرمج لاقتصاد العراق وثرواته من قبل أناس طالما تبجحوا بالوطنية والتاريخ النضالي في مقارعة فساد النظام السابق ! كما أن موقف الإدارة الأمريكية من الفساد يعكس رغبتها بالنأي بنفسها عن فضائح فساد الحلفاء التي ساهمت هي بخلقها بعد الاحتلال والفوضى والانفلات بل وشارك فيها كبار قادة قوات الاحتلال وفق تحقيقات مكتب المحاسبة الأمريكي والبنتاغون، وهو ما دفع مجلس النواب الأمريكي إلى إصدار قراراُ بتاريخ 16/10/2007 أدان فيه وزارة الخارجية الأمريكية لتسترها على الفساد المالي المنتشر في حكومة نوري المالكي. وهو أيضا ما دفع منظمة الشفافية الدولية إلى الإعلان في 31/3/9 (أن عملية إعادة الإعمار في العراق قد تكون أكبر عملية فساد في التاريخ بسبب المستثمرين ورجال الأعمال الذين جلبهم الاحتلال، وهو ما شجع المسؤولين العراقيين على نهب المال العام.(
ولعل من الطريف الاستشهاد بإعلان لقناة الديار الفضائية العراقية عرضت فيه جائزة مقدارها مليون دينار لمن يدل على دائرة حكومية واحدة تجري فيها المعاملات بدون رشاوى أو محسوبية. ويبقى العراقيون يتطلعون إلى تفاصيل هذه الحملة على الفساد وهم بين فرح لكشف الفاسدين والمفسدين وإيقاف الهدر والنهب المنظم لثروات العراق ومقدراته، وبين الأمل في غد يأتي فيه رجال يحرصون على المال العام وتوجيهه بما يخدم العراقيين ويخفف من معاناتهم و أوضاعهم المأساوية السائدة من نقص في كل الخدمات الأساسية والضرورية لحياة كريمة مثل باقي الشعوب.
المصدر: نداء الحرية 11/06/2009