من القواعد التي تتحكم في النفس البشرية وفي إرادة الإنسان سنبدأ..

إن شدة الاستجابة العدوانية تتناسب طرداً مع شدة الإحباط أو التهديد، ولكن مع تجنب الإطلاق والتعميم. فعند بلوغ التهديد أو الإحباط حداً معيناً من الشدة تنغلق عنده السُّبل أمام التعبير المباشر عن الاستجابة العدوانية، فإن تلك الاستجابة تتغير كيفياً. بعبارة أخرى حين يواجِه الكائن الحي تهديداً لأمنه وعائقاً يحول بينه وبين بُغْيِته، فإنه يسعى لاستجماع طاقته وتوجيهها للقضاء على مصدر هذا التهديد ولإزاحة العائق من طريقه. وكلما تزايد حجم هذا التهديد، كلما كان الكائن أكثر حرصاً على توفير القدر الأكبر من طاقته لمواجهته. أما إذا بلغ هذا التهديد حداً بدا معه للكائن ألاَّ طاقة له بمواجهته، فإنه لا بد له في هذه الحالة من التماس مُنْصَرَف غير المواجهة لطاقته.. هذا قانون عام يسري على الكائنات الحية جميعها، تدعمه الملاحظات العامة لسلوك البشر، فضلاً عن تجارب علم النفس على الإنسان والحيوان على حد سواء.

لو تصورنا أننا نريد تفجير أقصى قدر من الطاقة العدوانية في كائن ما، فما هي مكونات الموقف الذي ينبغي أن نضعه فيه؟!

1-       ينبغي أولاً أن يتضمن هذا الموقف مصدراً حقيقياً لتهديد الكائن أو إحباطه.

2-       وينبغي ثانياً أن يكون هذا الكائن مُدْركاً لما يواجهه من تهديداً أو إحباط حقيقيين.

3-       وينبغي ثالثاً أن يكون مصدر هذا التهديد أو الإحباط مستمراً، وإلاَّ تمكن الكائن من القضاء عليه، وخفت بالتالي طاقته العدوانية بفقدانها مصدر وجودها.

4-       وينبغي رابعاً ألا يتضمن مصدر التهديد أو الإحباط ما يمكنه أن يقضي بالفعل على حياة الكائن، أي علينا إذا انخفض مستوى التهديد أو الإحباط عن مستوى معين أن نرفع منه، وعلينا أيضاً إذا تجاوز التهديد مستوى معيناً أن نُخَفِّض منه، ضماناً لاستمرار الموقف وعدم إنهائه بإنهاء أحد طرفيه. أما تحديد المستوى المناسب الذي ينبغي لحجم التهديد ألا يتجاوزه أو ينخفض عنه، فرهن بطبيعة الموقف وبطبيعة الكائن.

لوحظ أن الخوف من وقوع مصيبة من المصائب يولد انعكاسات عدوانية أخطر بكثير من المصيبة ذاتها، فالتهديد بالمجاعة مثلاً عندما يستغله المحرضون بذكاء، يثير اضطرابات أكثر بكثير من المجاعة الحقيقية نفسها، لأن هذه الأخيرة تولد الوهن أكثر مما تولد الاضطرابات. وأنه بوسعنا أن نحصل على كل شيء من أمة أو جماعة بإقناعهما بأنهما مهددتان.

لقد دافع المفكرون من أمثال "ميكافيللي" و"مونتيسكيو" عن الحرب الوقائية وصوابيتها، فهي أحد مظاهر الخوف. قال المفكر السياسي "بول فاليري": "إن إثارة سخط البعض ضد البعض الآخر، هو الخطوة الرئيسية للسياسيين، وأن أفضل حل لإيصال هذا السخط إلى ذروته هو اتهام الخصم بأنه يضمر نوايا سيئة".. إن هذا الحل يستقطب خوف كل المجموعة مجتمعة حول عرض مُوَحَّد، فيتزايد الحقد، وتصبح الأرض جاهزة، ويتأثر السلم، وتتفاقم المشاعر العدوانية.

ماذا عن إسقاط هذه المفاهيم على التجمع الصهيوني الإسرائيلي؟!

إن الشعور بخطر نكبةٍ يهودية جديدة كنكبة المحرقة النازية، مايزال شعوراً حاداً يراود العقل الباطن اليهودي. فوفقاً لاستطلاع قام به عام (1987) قسم علم الاجتماع في جامعة تل أبيب، ذكر 70% من الإسرائيليين أن مثل هذا الخطر موجود ومحتمل ومتوقع في أية لحظة.

إن ذكرى النكبة النازية، تدفع اليهود إلى ادخار قوةٍ داخلية لا تقتصر على منع وقوع الهزيمة، بل تحتم ضرورة الانتصار. ولكن الفكر الصهيوني المعاصر يحرص على الاحتفاظ بعنصر رئيسي من عناصر التكوين السيكولوجي الإسرائيلي، وهو ألاَّ مكان في ذلك  التكوين ليهودي منتصر، بل هناك فقط مكان ليهودي يرد اعتداءً، أو يستعد لحماية نفسه من اعتداء، ليغدو الانتصار في القاموس الصهيوني هو مجرد التمكن من تحقيق ذلك، أما تحقيقه بالفعل بإنهاء الخصم فهو كارثة حقيقية بالنسبة له. وإذا لم يكن هناك ثمة في الواقع اعتداء أو تهديد باعتداء، عندئذ يكون من المحتم الإيهام بكل ذلك كي تذوي سريعاً صورة "الانتصار" وتحل محلها من جديد صورة "مخافة الاعتداء".

وإذا شئنا التبسيط، فإن فكرة "اليهودي المنتصر" إنما تعني في إطار الفكر الصهيوني أن اليهودي لم يعد يهودياً، أو بتعبير أدق لم يعد صهيونياً. بعبارة أخرى يكون التكوين السيكولوجي القديم لليهودي قد انهار بتحقق فكرة "اليهودي المنتصر". وحينئذِ يصبح من المحتم على الفكر الصهيوني الإقدام على عملية بالغة الصعوبة والتعقيد، وهي تشكيل تكوين سيكولوجي جديد لليهودي الإسرائيلي، وهو التكوين المستحيل بناء على ما مر معنا سابقاً.