هل نحن بحاجة إلى إصلاح؟ وإذا كان الجواب نعم فالسؤال التالي: أي إصلاح هو هذا الذي نريده؟ وماهي مجالاته..من ناحية وطبيعته من ناحية أخرى؟ وإذا تمكنا من تحديد ذلك أو الإجابة على هذه الأسئلة؛ فإن السؤال هو: هل يمكن القيام بذلك الإصلاح بدون تغيير؟.. وإذا كان التغيير مطلوباً أو ضرورة فما هي طبيعة هذا التغيير وماهي مواقعه المنشود تغييرها.. وماهي وسائله؟
سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة، وأحسب أن الإجابات الصحيحة من شأنها أن توصل إلى التحديد المطلوب والنتائج المبتغاة..
أما أننا بحاجة إلى إصلاح؛ فأظن أن أحداً منا لا ينكر هذه الحاجة. بل لا يشعر بها ضرورة ملحة. ومع ذلك فثمة من يركن إلى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.. وعلى ذلك فلا حاجة إلى إصلاح ولا مسّوغ لا للقلق ولا للإقلاق مرددين قول الشاعر:
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال
ولكنا نتجاوز هؤلاء. لا لأنهم قلة لا يؤبه لها. وإنما لأنهم "حالة" ساكنة، في مجرى الحركة التاريخية قد تثبط ولكنها لا توقف جريان الحركة ولا اندفاع التيار!
نحن إذن بحاجة إلى "الإصلاح" أقول "الإصلاح" ولا أقول: "إصلاح". ففي حسباني أن البناء كله بحاجة إلى إصلاح شامل ينتظم الجوانب كلها..
لو سئلنا عالم الاجتماع لقال: الإصلاح الاجتماعي.. إصلاح حال المجتمع؛ لأنه لو صلح لصلحت الجوانب الأخرى. ولكن عالم الاقتصاد سيقول: الإصلاح الاقتصادي أولاً هو الأساس. لأن على أساسه تقوم الحياة الاجتماعية. أما عالم السياسة فسيؤكد أن إصلاح الوضع السياسي هو المدخل العملي لأي إصلاح؛ لأنها هي التي تنظم العلاقات بالقانون، بين القوى المختلفة، وتحقق النظام للحرية التي يتمكن بها المجتمع من إصلاح جوانبه المختلفة. الخ
على أن صوتاً آخر، عميق المصدر، سيردد: الثقافة هي البداية الطبيعية؛ لأن مجتمعاً لا ثقافة له لا وجهة له. وحيث أن الحكم على الشيء فرع من تصوره؛ فإن التصور هو عملية ذهنية عقلية بالأساس. كما أن "الفعالية" عملية نفسية وهي بذلك شرط لحركة المجتمع وتحرره من حالة الجمود والركود وانتقاله إلى حالة الحركة والفاعلية. وهذان الأمران وثيقا الصلة بالثقافة أن لم يكونا أهم مقوماتها؛ ولهذا فأن عملية الإصلاح الاجتماعي أوالاقتصادي أو السياسي إنما تنبع من حاجة.. أصبحت مطلباً تم تشكله في المجتمع أولاً وفق تمثلّه أو تصوره له، ويتطلب "فعالية" لا بد منها تمكن من تطبيقه وهذه "الفعالية" هي من نتائج الثقافة قبل أي شيء آخر.
ويبدو لي أن هذا التناول للموضوع هو "فرض" للفرقة بين كل يتكامل. ولا يتجزأ. ويتواءم ولا يتناقض. ويتواصل ولا ينفصل بعضه عن بعض. ولقد يكون مقبولاً من الناحية النظرية بغية الدراسة حيث تدرس كل ناحية على حده. ولكنها من الناحية العملية وبالذات في حالة "إنهاض" يتطلب الإنشاء والتركيب هي -كما قلنا- كل يتكامل ويتزامن بحكم الضرورة لحركة التاريخ وحركة المجتمع معاً. وتصبح الأولويات هي واقعية الخطى؛ بمعنى توفر الشروط والظروف الموائمة والوسائل لهذا أو ذاك في مجمل تلك الحركة..
أذن. نحن – فيما أرى- بحاجة إلى إصلاح شامل أي بمعنى آخر بحاجة إلى نهضة تتجدد بها قوانا، وتكفل بها حقوق إنسانيتنا وتنطلق بها قدراتنا، وتزدهر بها إبداعاتنا، وتتم بها اسهامتنا في الحضارة البشرية والمسيرة الإنسانية؛ نستأنف بها دورتنا الحضارية ونبلغ رسالتنا في العالم..[ وأقول: نستأنف ولا أقول نبدأ].
وإذا كان الأمر هو هكذا. فهل يمكن الإصلاح بدون تغيير؟
من الضروري هنا، أن نميّز بين مفهوم أو مدلول الإصلاح ومفهوم أو مدلول التغيير. الإصلاح - من حيث الجوهر- عملية تصحيح لأخطاء وتقويم لمعوّج. هو تسديد وتشييد، وهو تصويب.. وضعاً لمجتمع ما أو حالة ما أو حتى شيء ما في موضعه السليم المفيد.أما التغيير فيعني إزالة عوائق وتوفير وسائل وتهيئة مناخ. الإصلاح هدف يكون دائماً متجهاً إلى الأفضل.. إلى الأمام والتغيير وسيلة قد يكون إلى الأحسن وقد يكون إلى الأسوأ. والغاية -في نطاق حديثنا هذا- هو خير ومصلحة الإنسان!
وعلى هذا: فأن عملية الإصلاح المنشود تقتضي بالضرورة نوعاً من التغيير يتمكن به الإصلاح من التحقق العملي في الواقع أي الانتقال من النظرية إلى التطبيق. ومن الأهمية بمكان أن ندرك أننا هنا نتكلم عن عملية إصلاح بذاتها لمجتمع بذاته تعترضه العوائق من داخله ومن خارجه، وليس عن الإصلاح، بالمطلق، في أي مجتمع أو أي مرحلة من التأريخ..
ولقد تساعد معرفة "العوائق" على توضيح نوع ومناحي التغيير المنشود لتحقيق الإصلاح ومن المهم أن لا نغفل لحظة عن أهمية وضرورة ارتباط التغيير هذا بهدفه هذا؛ فليس مطلوبا أي تغيير لا يحقق أو لا يمهد للإصلاح.
ولا ريب بأن العوائق شتى منها التاريخية الموروثة، ومنها الوافدة المفروضة، ومنها الهجين المنبثق من الأمرين. وضمن الموروث تندرج مكونات شتى لهذه العوائق وضن المفروض الو اغل تتكالب عوامل أخرى لصرف المجتمع عن مواجهة مشكلاته، وضمن "الهجين" تندرج "البلبلة" التي لا يتوحد بها رأي، ولا يستقيم بها عمل والتي تصرف المجتمع عن وجهته وعن هدفه!
وإزالة هذه العوائق شرط لتحقيق الإصلاح، وفي ذلك يكمن موضوع وطبيعة التغيير.. أي إزالة العوائق..
في إطار البحث عن الطريق تقدم الفلسفة بعض أجوبتها:
الفلسفة المثالية تقوم على أن "الواقع" الخارجي هو إنعكاس للفكر. وعليه؛ فأن الأفكار هي التي تشكل الوقائع أو صورتها في الخارج أي في الواقع. فإذا ما أخذنا بهذا فإن التغيير يحب أن يبدأ من "الفكر" أو العقل أو سمه ما شئت..
لكن الفلسفة المادية ترى العكس؛ فهي ترى الفكر انعكاسا للواقع وعليه فأن مفردات هذا الواقع هي التي تشكل الأفكار والمعتقدات؛ فإذا ما أخذنا بهذا فأن التغيير يجب أو يتحتم أن يبدأ من تغيير الواقع [بالتطور أو بالثورة مثلا كما هي لدى الماركسية].
على أن كلا وجهتي الفلسفة هذه تفتقر إلى إدراك حقيقة العامل الذي يكمن وراء الفكر ووراء الواقع معاً، ويجعل من كليهما موضوعا قابلا للفعل والتأثر والتأثير. ونعني بذلك "روح" الإنسان الذي يستخدم الفكر والعقل ويشكل الواقع أيا كان انعكاس احدهما على الآخر..
فالإنسان كما هو جسد.. وعقل. هو روح أو نفس. وهذا هو الذي يصير به الإنسان إنسانا. وعليه فأن "التغيير" يبدأ من تحرير "روح" الإنسان من سيطرة الخرافة، في أي أشكالها، وسيطرة الجهل بكل صنوفه. وسيطرة الخوف بكل أنواعه وسيطرة الظلم والاستبداد بكل أشكالها. وبهذا يصبح الإنسان الحر هو وسيلة التغيير وهو هدفه لأن ذلك التحرير – بعقيدة صادقة- هو الشرارة التي تفجر طاقات الإنسان وتطلق قدراته في التاريخ ،أي في الزمن وفي الواقع، أي في المادة التي بين يديه، ويؤلف بفعاليته بينها جميعا فينتج المركب الذي نطلق عليه مصطلح حضارة.
الإنسان هو البداية وهو المدخل.. تماماً كما أنه هو الهدف. والله سبحانه وتعالى يقول (أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وذلك ما انتهى إليه علم الاجتماع!
واراني. الآن. اختصاراً للوقت وللموضوع أعمد إلى الاقتباس من مفكر جاد هو المستشار طارق البشرى في تعريفه للمجالات التي يتحدد بها هدف ومجالات الإصلاح المنشود و(هو –حسب تعبيره- يتلخص في ثلاثة عناوين:
1- أساس الأمر كله هو استقلال الذات الحضارية للجماعة من حيث التكوين العقدي والنفسي لها وبما تبلورت به من رؤى ثقافية بأسس عقدية وتاريخية بدءاً من النظر إلى الكون إلى تحديد العلاقات الاجتماعية والقيم.
2- الاستقلال السياسي الذي يتمثل في تأكيد تحرير الإرادة السياسية لجماعة من إمكانات الإملاء الخارجي عليها واستبقاء هذا التحرير والسعي لكف أكبر قدر من الضغوط الخارجية. وهذه هي سياسة أي دولة مستقلة.
3- الاستقلال الاقتصادي، بمعنى السعي لتوفير إمكانات التنمية الاقتصادية المعتمدة على الذات وتجنب أكبر قدر من الضغوط والتي تأتي مع هذا الجانب)[1] أ هـ.
هذه عناصر صُيغت بدقة قانوني ضليع. وهي تقتضي وبخاصة البند الأول شرحاً يتناول كل مفردة منه بالتفصيل والتأصيل؛ لأنها تنطوي على شروط "يقظة الذات" – أي تغيير ما بالنفس- التي هي شرط وجود للنهضة..
وأود أن أضيف –على سبيل التأكيد- عنوانا رابعاً هو:
- الاستقلال القضائي، وتحقيق العدل السياسي والاجتماعي، وضمان حقوق الفرد والجماعة في طليعتها حرياتهما!؟
إذا كان ذلك هو المطلوب؛ فكيف الوصول إليه؟ من الذي يقوم به؟ وإذا كان ذلك يتطلب تغييرا فما هو هذا التغيير؟
هنا.. أود أن أسجل –أولا- ملاحظتين:
الأولى: تتعلق بمسألة الأولوية: وأكرر هنا ما سبق أن أشرت إليه أن هذه القضايا هي بمثابة أعضاء لجسم واحد يستدعي بعضها بعضاً ويتكأ بعضها على بعض، ويشد بعضها بعضا بحيث أن افتقاد عضو منها يصيب حركة الحسم كلها بخلل معيق..
وعلى ذلك فأن ما يحدد إصلاح هذه أو تلك من هذه الجوانب أنما هو الإمكان المتاح فحيث يتاح المجال تجب المبادرة. أن كل خطوة تنجز ستؤدي إلى خطوات في الجوانب الأخرى بالضرورة. أن سلم الأولويات هنا يحدده "المجال" الذي تتاح الحركة بأصنافها فيه.
أما الأولوية الحاسمة فهي يقظة الذات أو الروح التي يتحقق بها استقلال الذات باعتبارها المدخل إلى تحقيق ذلك كله.
الثانية: تتعلق بمسألة: من؟ وكيف؟ أن كثيراً من الكتاب والمفكرين ما يبرحون يكتبون أنه: يجب .. ويجب . يجب القضاء على الأمية؟ نعم! يجب. يجب القضاء على الفقر نعم يجب. يجب تحقيق السيادة على الأرض والحرية للناس، والعدل بينهم، والأمن للمواطن والتحرر من التبعية والاستقلال بالقرار وتحقيق التنمية والتقدم وامتلاك العلم والمعرفة وصيانة الاستقلال.. نعم! نعم يجب.. يجب ولكن كيف؟ ومن يقوم بذلك؟
في نظري: هنالك ثلاثة احتمالات أو فرضيات ولا أقول خيارات.
أولها: الـــدول..
وأنا استبعد واقعية هذا الاحتمال لثلاثة أسباب موضوعية وتاريخية. وبنيوية خاصة بأنظمتنا:
أ- لقد نشأت الدولة القطرية ( التي تشكل مجموعة دولنا) على أساس " التجزئة" التي فرضتها، وحددت معالمها، ورسمت أهدافها بالقوة إرادة الاستعمار الخارجي وفقاً لمصالحه وحفاظاً عليها...
وترتب على ذلك أن بنيت هذه الدول بناءً هشاً كقاعدتها. لأنها مفروضة على مجتمعات لا تتقبلها من جهة وتحقق مصالح من فرضها لا من فُرضت عليه من جهة أخرى.. من هنا فهي تمثل القوة التي أوجدتها.. وليس المجتمع الذي تحكمه. هذا هو أصل التناقض الحاد أو الفجوة القائمة بين حكوماتنا وشعوبها..
أضف إلى ذلك أن الاستعمار لم يكن السيطرة العسكرية المباشرة فحسب بل "الهيمنة" الثقافية والاقتصادية والتعليمية بشكل أساسي.. وهو ما أخرج "النخب" التي استلمت أو سلمها – بطريقة أو بأخرى – الحكم. وبذلك نشأت مصالح هذه النخب وتراكمت على ذلك الأساس؛ فارتبطت مصالح الطرفين على نحو يجعل أي تغيير مخلاً بالمعادلة ومن ثم انعقد الاتفاق الضمني على الحفاظ على الأمر الواقع.. صحيح أن هذه النخب قد صدقت في النضال من أجل الاستقلال السياسي ولكنه الاستقلال على "النموذج" الذي أراده الاستعمار القائم على "وطنية" الدولة "القطرية" وذلك بحكم تكوينها وثقافتها المتأوربة وليس "عمالتها"..
وبهذا المعنى يسقط –موضوعيا- هذا الاحتمال أو هذه الفرضية.
ب- قوى المجتمع :
وأنا أيضاً استبعد هذا الاحتمال؛ لأن هذا المجتمع قد سلب الحرية زمناً طويلاً وتعرض للقمع والمصادرة دهراً مديداً. وتقلبت به التجارب من سيئ إلى أسوأ ومن خيبة إلى أخرى حتى أورثها ذلك السلبية والاستسلام والخوف من القادم المجهول.. ثم هذا وهو المهم في هذا السياق أن أنظمة الاستبداد التي توارثته وقوى الهيمنة التي ساندتها قد عمدت خلال ذلك كله إلى تفكيك عرى الجماعات داخل المجتمع وهدم بنائاتها التقليدية والجديدة، وتمزيق "روابطها" وتشتيت وحداتها..من أحزاب، أو نقابات، أو روابط بناءات موروثة كجماعات الحرفيين والتجار وتنظيمات الأحياء والحارات وغيرها من روابط المجتمع القديم ووحداته ومن هنا فقدت القدرة الاجتماعية وسائلها وآلياتها التي تمكنها من التحرك الفعال..
فلابد أذن من إيقاظ "روحه" لاستعادة وعيه وتحرير إرادته، واستعادة شبكة علاقاته وروابطه ووحداته الاجتماعية وإخراج مؤسساته المدنية من غرفة الإنعاش "المبردة" حتى درجة التجمد التي فرضت عليها وذلك إذا أريد لقوى المجتمع أن تقوم بالدور المطلوب..!
عندما انطلقت "ثورة الديمقراطية" في التسعينات من القرن المنصرم، وتداعت الأنظمة الشمولية واحداً بعد واحد تحت ضغط الجماهير الهائجة وهديرها المزلزل، بقيت شعوبنا خارج تلك الحركة التاريخية لا تكاد تحس بذاتها ولا بما حولها...
ولقد عنّ لي أن أتفكر في أسباب ذلك فخطر لي أن هنالك سببين رئيسيين. الأول: أن تلك الشعوب التي تحركت بفعالية وتحررت من الشمولية كانت تتمتع بنسبة عالية من التعليم. ومستوى عال كذلك من الوعي، ثم وهذا هو المهم أن تلك الأنظمة على شموليتها القاسية قد أقامت مؤسسات مدنية حقيقية اعتمدت عليها أول الأمر، ولذلك ما كادت القبضة الحديدية للأنظمة أن تتراخى بفعل ضغط تلك المؤسسات إياها حتى أنطلق المارد المزود بوعيه وعلمه ومؤسساته القادرة على التغيير وقيادته ابتداءً من انتفاضات المجر، وربيع براغ. وليس انتهاء بانتفاضة بولندا التي واجهت فيها مؤسسة العمال البلوتارية مؤسسة الجيش للنظام الشمولي..
وذلك لم يكن وليس هو الحال عندنا. كذلك فأن تلك المجتمعات قد خضعت لتجربة واحدة طويلة ولكنها واحدة ظل الأمل في الانعتاق منها قويا غير مصاب بالخيبة المتكررة التي أصابت شعوبنا مع تعاظم الأمية والفقر باليأس والإحباط..
أما السبب الثاني: فأظنه خارجياً: إذ حشدت القوى الأمريكية والأوروبية كل طاقاتها للتأييد والمساندة والاحتضان وفتح الأبواب المغلقة.. وليس كذلك هو الحال عندنا الذي أريد له أن يتغير من خلال الأنظمة إياها تجميلاً للصورة لا تغييراً للواقع... ولهذا استبعد هذه الفرضية.
ج- الفرض من الخارج:
ولا أظنني بحاجة إلى الإفاضة في هذا، لأن التجربة الماثلة في العراق تغني عن كل إفاضة أو مقال. أما مثال اليابان التي طرح عليها "الدستور" بعد هزيمتها في الحرب، فأن الشروط الموضوعية لتطور كهذا كانت مهيأة هناك من جميع النواحي فتقّبلهُ كان استجابة لحال داخلية مهيأة في لحظة مناسبة قبل أن يكون فرضاً خارجياً من شروط الاستسلام وليس الحال كذلك في مجتمعاتنا. والإتيان بمثال ألمانيا خطل كله. إذ من البديهي منطقاً أن لا قياس مع الفارق!
إذن فمن؟
لقد آن أن تتجه الجهود إلى "الإنسان" إلى المواطن ممثلاً في "تجمعاته الاجتماعية" ومؤسساته المدنية لإيقاظ قواه الروحية من سباتها وإطلاق إرادته من أسر الاستسلام والإحباط وإنارة وعيه باعتباره صاحب القرار ومصدر القوة، وإخراجه من ضيق انتماءاته وتكويناته البدائية – عشائرية وأسرية وطائفية ومناطقية – الخ إلى رحابة القضية الجامعة وسعة " المشروع" الموّحد! وبذلك وحده يتم تكوين رأي عام. يتحرك مع التأريخ في اتجاهه الطبيعي ويطلق فعاليته لتحقيق أهدافه، ويعيد بناء مؤسسات مجتمعه المدني ويجدد ما تهاوى أو تداعى منها..
كيف؟
إن معظم النار من مستصغر الشرر: وعليه فأن الفكرة يجب أن توجد، وليكن في شكل "مشروع نهضوي" تتفق عليه القوى أو الأشخاص الرواد، ثم تبشر به وتعمل من أجله..
إن التجربة البشرية المتنوعة. تمدنا بأمثلة شتى على ذلك، في طليعتها الرسالات السماوية التي بدأت كلها بشخص أو كلمة.. ثم عم نورها الأرجاء..
وكذلك هي الحركات الكبرى في التاريخ – بصرف النظر عن بواعثها - الأفكار أو وسائل الإنتاج – أنما تبدأ بفكرة من شخص.. ثم تنتشر فتصبح حركة في التاريخ. فمؤسس "الماركسية" شخص. عبر عن فكرته ودعى إليها مع زميل له. فانتشرت وأوجدت لها مؤمنين حولوها إلى دعوة وإلى حزب ثم إلى حركة أثرت بشكل أو بأخر على العالم المعاصر..
وليس هنالك ما هو أكثر خطاءً وأبعد عن معايير الصواب والصحة وأوغل في الضلال البعيد من الصهيونية. ومع ذلك فقد بدأت فكرة.. ما لبثت ـ على بطلانها الجلي ـ أن استكملت شروط الوجود والتحقق على أيدي نفر آمن بها وإذا بها تلعب الدور المدمر الذي نراه الآن..
ويمكن القول نفسه عن النازية.. أو الفاشية؛ فليس المعيار هو الصحة أو البطلان. وإنما هو التعامل بفهم مع قوانين التاريخ وسنن الاجتماع؛ فقد ينجح الباطل حيث يخفق الحق والعكس صحيح.. وفقاً للأخذ بالأسباب واستكمال الشروط وإتباع السنن..
ولماذا نذهب بعيداً:
أن ما يطلق عليه حركة النهضة في تاريخنا المعاصر أنما بدأت بصيحة شخص دوت في الأفاق هو جمال الدين: جسد فكرة هي فكرة النهضة القائمة باختصار – على التحرر من التقليد في الفقه ، والتحجر في الفكر، والاستبداد في الحكم – والجور في المجتمع في الداخل. والاستقلال ومقاومة الاستعمار والهيمنة بأشكالها في الخارج.. فإذا بها حركة من أجل الاستقلال في الهند، ومن أجل الدستور في إيران. وإذا بها حركات واعدة في عالمنا العربي بالذات دارت بها عجلة التطور والإصلاح فثورة عرابي في مصر والحزب الوطني كذلك والكواكبي وحركة العهد في الشام وانطلقت ثورات الخطابي في المغرب، والسنوسي والمختار في ليبيا وثورة العشرين في العراق وتلقف الفكرة بن باديس في الجزائر وانبثقت الثورة الجزائرية وقامت في اليمن أول ثورة داخلية من أجل الإصلاح وبناء الدولة على أساس دستوري إسلامي معاصر!
ومن ناحية أخرى قامت نهضة أدبية وفكرية تبشر بالخير العميم فأصبحت جانباً مكملاً من جوانب النهضة التي تتكامل. وفي المهجر نشئت "الرابطة القلمية" وأدت دوراً رائداً في نهضة الأدب العربي في الوطن الأم وفي وطن المهجر معاً وقد بدأت بها ثلة صغيرة ثم أصبحت تياراً أدبياً أو قل مدرسة أدبية واسعة الانتشار..
هذه أمثلة من الواقع تنبؤنا أن في وسع "مشروع" للإصلاح تتفق عليه طليعة هي موجودة أصلاً وناشطة فعلاً ينقصها الاتفاق – أن يبعث الحياة في الجسد المتهيئ لليقظة، ويضيء الطريق أمام الجمهور المتحفز.. فإذا الذي كان أملاً يصبح عملاً وإذا الذي كان سراباً يغدو ماءً تحيا به الأرض بعد موتها..
هذه إذن هي الجهة المرشحة لإحداث التغيير أولاً ومن ثم تحقيق الإصلاح المنشود حيث تفتقد الوسائل الأخرى للتغيير صلاحيتها..
ولقد تجنبت – قاصداً الإشارة إلى بعض وسائل التغيير كالانقلابات العسكرية لأن ضررها أكبر من نفعها ولأنها هي نفسها بحاجة إلى التغيير..وكذلك تجنبت الإشارة إلى الثورة الشعبية وذلك لانتفاء شروطها وظروفها..
وتبقى فقط الحركة السلمية الديمقراطية المتصاعدة مسلحة بالوعي والعزيمة الساعية إلى أهدافها ابتداءً من الإصرار على ممارسة الحرية، وانتهاءً بالعصيان المدني ممهدة بذلك كله "لمشروع" الإصلاح المنشود.
لقد أشرت إلى الملامح الرئيسية "لمشروع" لا أظن الخلاف قائماً عليه بين الداعين إلى الإصلاح. أما الشروط المطلوبة لنهضة حقيقة من وراء ذلك الإصلاح فأني أرى أن مفكراً عظيماً هو: مالك بن نبي قد أغنانا عن الحديث في ذلك فقد أعطى ذلك الموضوع حقه على نحو ينشئ لعلم الاجتماع أصولاً عربية إسلامية، إلى جانب كونه منهجاً وطريقاً إلى أي نهضة يدخل بها أي مجتمع عالم الحضارة وذلك في كتابه العظيم: "شروط النهضة" الذي لا غنى عنه في هذا السبيل..
وبعد
فأننا في منطقة هبطت فيها وانطلقت منها الديانات والرسالات الكبرى، ونبتت والتقت فيها الفلسفات والحضارات الكبرى، واصطرعت وتصطرع عليها وحولها القوى الكبرى,.. فلا يمكن، والحالة هي هذه، أن نفكر في تغيير أو نستهدف إصلاحاً بمعزل عن هذه الحقائق المستقرة في عمق الضمير العام، الراسخة في التركيب النفسي والاجتماعي للجماعة المتواصلة في النسيج الحي للتاريخ المتمثلة في حقائق الجغرافيا كما في وقائع التاريخ..
وفوق كل ذي علم عليم
والحمد لله رب العالمين،،،
---------------------------------
ندوة في "مركز الحوار العربي" – واشنطن – الأربعاء 13/5/2009