افتتحت يوم 25 ماي/أيار 2009، الحملة الرسمية لانتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي، في دورته السابعة، التي تجري في كافة الدول الأعضاء، ما بين 4 و7 يونيو/حزيران 2009، بمناسبة الذكرى الثلاثين لأول انتخابات مباشرة (1979).
ولم تحظى هذه الإنتخابات باهتمام المواطنين الذين قلت مشاركتهم فيها من دورة إلى أخرى، إذ كانت نسبة الإمتناع عن التصويت 37% عام 1979، وبلغت 54% عام 2004، ويتوقع أن تفوق 65% عام 2009.
قبل موعد الإنتخابات بشهر ونصف، عبر 57% من المواطنين عن أملهم في أن ينال موضوع البطالة مزيدا من الإهتمام على الصعيد الأوروبي، ويود 52% من الأوروبيين التركيز على سبل مواجهة الأزمة الإقتصادية. لكن صورة الأتحاد الأوروبي بقيت مرتبطة في الذاكرة الشعبية، باللبيرالية، وفقدان المكاسب الإجتماعية وخصخصة المرافق العمومية والخدمات الصحية والإجتماعية والنقل والبريد والمواصلات الخ، واختيار أسوإ نظام للحيطة والتغطية الإجتماعية والتقاعد لتعميمه على كافة البلدان، وبذلك خسر مواطنو الدول قديمة العضوية مكاسبهم، وعدلت جرايات التقاعد، والأجر الأدنى المضمون (إن وجد) ونطام المظلة الصحية والإجتماعية على ما هو موجود في الدول الفقيرة، حديثة الإنضمام للإتحاد.
ما هي أهمية الإتحاد الأوروبي ومؤسساته بالنسبة لنا كعرب، مواطني الضفة الجنوبية للمتوسط؟ وما تأثير ذلك على الحياة السياسية والإقتصادية في بلداننا؟ وهل يمكن لنا أن نتخذ من الإتحاد الأوروبي قدوة أو مثالا يحتذى، للشعوب التوّاقة للوحدة مثل العرب؟ وهل يمكن للإتحاد الأوروبي أن ينافس الإمبريالية الأمريكية، أو أن تكون له سياسة مستقلة عنها، يمكن أن تستفيد منها الشعوب المهيمن عليها، ولو مؤقتا وبشكل عرضي، في مواجهة السياسة العدوانية الأمريكية والصهيونية؟
مؤسسات الإتحاد الأوروبي
بتاريخ 18/04/1951، تشكلت "الجمعية الأوروبية للفحم والصلب"، التي عرفت بمعاهذة باريس، بمشاركة المانيا الغربية وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندة ولكسمبورغ، وفي 15/03/1957، وقعت "اتفاقية روما" المعروفة باسم "السوق الأوروبية المشتركة"، ودخلت حيز التنفيذ في 1 يناير 1958، وانضمت لها بريطانيا والدنمارك عام 1973، واليونان عام 1981، وأسبانيا والبرتغال عام 1986.إلى أن بلغ عدد الدول الأعضاء 27، (بعد فترة تأهيل، وقبول الشروط السياسية والإقتصادية والتشريعية) وهي: أسبانيا، استوانيا، ألمانيا، ايرلندا، إيطاليا، البرتغال، بلجيكا، بولنذا، التشيك، دنمارك، سلوفاكيا، سلوفينيا، السويد، فرنسا، فنلندا، قبرص، لاتفيا (لتونيا)، لكسمبورغ، لتوانيا، مالطا، المجر، بريطانيا، النمسا، هولندا، اليونان، رومانيا وبلغاريا. 12 دولة منها تستعمل الأورو (عملة موحدة).
يبلغ عدد سكان الإتحاد الأوروبي حوالي 500 مليون، يعيشون على مساحة 4،3 مليون كيلومتر مربع. بلغ الناتج المحلي الإجمالي لعام 2007 ، حوالي 16،83 ألف مليار دولار، وبلغ معدل دخل الفرد حوالي 33،5 ألف دولار، أما ميزانية الإتحاد فهي ضعيفة نسبيا، ولا تتجاوز 134 مليار أورو (حوالي 180 مليار دولار). في 7 فبراير 1992، تم التوقيع على "معاهدة ماستريخت" (مدينة هولندية)، التي رسخت التوجهات الليبرالية، وجعلت هياكل الإتحاد لا تخضع لأي رقابة جدية، مما جعل دور الشعوب هامشيا، وكذلك البرلمان، الهيكل الوحيد المنتخب.
أمّا الهياكل الرسمية فهي:
مجلس الإتحاد الأوروبي (مجلس الوزراء): وهو المجلس التشريعي الفعلي (وليس البرلمان)، والمؤسسة الرئيسية لصنع القرار، ويتألف من وزراء الدول الأعضاء (كل في ميدانه)، برئاسة الدولة التي تترأس الإتحاد لمدة 6 أشهر، يقوم بوضع التشريعات والموازنات، وصنع القرارت بشأن السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، وتنسيق السياسات الإقتصادية. يتم التصويت داخله حسب عدد السكان، من مجموع 345 صوت موزعة حسب أهمية عدد المواطنين.
المفوضية الأوروبية: مقرها بروكسل، يتم تعيين أعضائها (بالتوافق) من قبل المجلس (أي ممثلي الدول)، لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد، تتألف من رئيس، ومفوض لكل قطاع (الإقتصاد، الثقافة، الإتصالات.)، يتم اختيارهم بشكل يرضي كافة البلدان، التي عادة ما يكون لها ممثل واحد على الأقل. تتمتع بحق حصري في المبادرات التشريعية، حسب توجيهات مجلس الإتحاد (تقديم مشاريع قوانين للنقاش والتصويت من حق المفوضية وحدها وليس من حق البرلمان)، وتتمتع بسلطات وصلاحيات إدارية وتنفيذية ومالية واسعة ، وهي الضامنة لتطبيق المعاهدات والقوانين.
المجلس الأوروبي: هي الإجتماعات المنتظمة، التي تنعقد مرتين كل عام على الأقل، منذ 1974، بين رؤساء الدول والحكومات، إضافة إلى رئيس المفوضية، ووزراء الخارجية، برئاسة الدولة التي تترأس مجلس الإتحاد بالتداول، لمدة 6 أشهر. يحدد الإتجاهات السياسية والإقتصادية، والسياسة الخارجية، التي يقوم مجلس الإتحاد بترجمتها إلى قوانين وتشريعات، وتقوم المفوضية بمتابعتها، والسهر على مصادقة البرلمان عليها وتطبيقها.
محكمة العدل الأوروبية: تأسست عام 1989 وتتكون من قضاة يساوي عددهم عدد الدول الأعضاء، يعينون بالتوافق، لمدة 6 سنوات. تسهر على حسن تطبيق المعاهدات الأوروبية، وتنظر في تشكيات وتظلمات المواطنين الأوروبيين، ضد المؤسسات الوطنية أو المحكمة الأوروبية (محكمة البداية الأوروبية)،
مجلس الحسابات: يراقب التصرف المالي في الميزانيات. يعين أعضاءه مجلس الإتحاد (مجلس الوزراء) أي الحكومات، لمدة 6 سنوات قابلة للتجديد.
البرلمان الأوروبي: هو الهيكل الوحيد المنتخب، والذي لا يعين أعضاءه ممثلو الحكومات، مقره مدينة سترازبورغ بفرنسا، على الحدود الألمانية، ويعقد بعض الجلسات واجتماعات اللجان في بروكسل ولكسمبورغ أيضا. يتجدد كل خمسة أعوام، يتألف من 736 عضواً اعتبارا من انتخابات حزيران/جوان 2009، حسب "معاهدة لشبونة" (كان عدد النواب 785 قبل هذا التاريخ)، هناك 7 مجموعات برلمانية، بأغلبية يمينية/لبرالية، وتتشكل المجموعات البرلمانية، حسب الإتجاهات السياسية، بقطع النظر عن جنسية النواب. عدد النواب يتناسب مع عدد السكان، إذ يبلغ عدد النواب الألمانيون 96 ، أما قبرص ولكسمبورغ فلها 6 مقاعد فقط. يحق لمواطني الإتحاد الأوروبي التصويت والترشح في بلد آخر غير بلدهم الأصلي، وينتخب أعضاء البرلمان باعتماد نظام النسبية (5% من الأصوات على الأقل).
لا يتمتع البرلمان الأوروبي بحق المبادرة (الإقتراح) في سن القوانين، بل تقع استشارته فقط، في مجالات عدة. يشارك في وضع واستصدار القوانين المتعلقة بالموازنات والرقابة، ويصادق على الإتفاقيات الدولية، وانضمام أعضاء جدد، وهو "جهاز رقابي استشاري"، وقد يحدث أن يحاسب المفوضية على سياستها، ويجبرها على الإستقالة كما حدث عام 1999، لكنه يخضع (كما بقية أجهزة وهياكل الإتحاد) لمجموعات الضغط، التي تعمل بشكل علني، في أروقة البرلمان ومقر المفوضية، لصالح بعض الإحتكارات، وبعض الدول والحكومات، حتى غير الأوروبية، وللكيان الصهيوني أصدقاء أوفياء، ومدافعون عنه في عدة مجموعات سياسية، لا تتفق فيما بينها حول القضايا الإقتصادية والإجتماعية أو السياسية الأخرى التي تهم المواطن الأوروبي، ولكنها بالمرصاد لأي نقد يوجه له، ويعمل أصدقاء الكيان الصهيوني على دمجه كليا في الإتحاد الأوروبي، وعلى تحريم أي نقد لسياسته العدوانية، وإدراج ذلك في باب "العنصرية، ومعاداة السامية".
إن لامبالاة المواطنين، وقلة اهتمامهم بانتخابات البرلمان الأوروبي هي نتيجة لضبابية دوره، وعدم وضوح صلاحياته، حيث السلطة التشريعية الحقيقية هي بين أيدي مجلس الإتحاد، وسيطرتها (إلى جانب المفوضية) على السلطة الفعلية، وبالتالي فإن ممثلي الحكومات يقومون بالتخطيط والتشريع والتنفيذ، وحتى عندما رفض الفرنسيون والهولنديون الدستور الأوروبي المقترح في استفتاء عام 2005، تجاهلت المؤسسات الأوروبية الرسمية هذا التصويت، وقدمت ثانية، نفس المشروع تقريبا، بدون استفتاء، أو تصويت شعبي مباشر (اتفاقية لشبونة). أما قوائم مختلف الأحزاب، فإنها تتألف من شخصيات ووجوه معروفة، يؤمن لها البرلمان الأوروبي وظيفة غير مرهقة، بأجر محترم وامتيازات جمة، بعيدا عن الأضواء وأوجاع الرأس، فالبرلمان الأوروبي عبارة عن ملاذ آمن لوزراء وقادة سابقين، أحيلوا سياسيا على المعاش داخل بلدانهم، فمعدل أعمار نواب دورة 2004 / 2009 ، يبلغ 55 سنة (رغم التشبيب الذي حصل)، ولا تمثل النساء سوى 30% من العدد الاجمالي. أما عن سير البرلمان فالإجماع والتوافق (التفاوض والمساومة) بين الأحزاب والمجموعات هما القاعدة، ويتم تقاسم الوضائف والمناصب بالتناوب بين الدول والتيارات السياسية، بالتوافق والتراضي.
حصاد الدورة السابقة (2004 ـ 2009) ورهانات الدورة المقبلة 2009(2009 ـ 2016)
شهدت الدورة المنقضية التحاق عدد من دول أوروبا الوسطى والشرقية، التي انضمت في أغلبها للحلف الأطلسي قبل الإلتحاق بالإتحاد الأوروبي، وقدمت شهادات الولاء والإخلاص للولايات المتحدة، التي ضغطت على الإتحاد الأوروبي للتعجيل بقبول بعض الأعضاء الجدد، كما التحقت فرنسا بالقيادة الموحدة للحلف الأطلسي، وبذلك اغتالت نهائيا مشروع القيادة العسكرية الأوروبية أو الدفاع الأوروبي المشترك الخ. وقبل ذلك عززت العديد من الدول الأوروبية تواجدها العسكري في أفغانستان وما حولها (بلدان آسيا الوسطى المتاخمة لروسيا)، وفي الخليج والقرن الافريقي.
كما تعززت مكانة الكيان الصهيوني وارتقى مستوى الشراكة معه إلى أعلى مستوى، بعد عدوانه على لبنان، ثم أثناء، وبعد عدوانه الأخير على فلسطينيي غزة، وأعلن الإتحاد الأوروبي استعداده لدفع بعض المال لترميم بعض ما خربه الكيان الصهيوني، فيما ساهمت البوارج الحربية الفرنسية في إحكام الحصار على قطاع غزة، كما تكثفت درجة التنسيق مع أكثر الأنظمة العربية تطبيعا (مصر والأردن والسعودية)، ولا زالت حركة حماس وحزب الله ضمن قائمة "المنطمات الإرهابية"، وصادق البرلمان الأوروبي على قانون يعاقب من يدعو لعدم الإعتراف بالكيان الصهيوني أو من يعتبره كيانا عنصريا.
كما ضغط الإتحاد الأوروبي على البلدان الفقيرة التي عقد معها اتفاقيات شراكة، على فتح أسواقها للمواد الفلاحية الأوروبية، المدعمة، وكان وراء دعوة البنك العالمي، لعديد البلدان، منها البلدان العربية، للإقلاع عن زراعة الحبوب وتربية الماشية، وكل ما يمكن أن يؤمن الإستقلال الغذائي، بدعوى تكلفتها الباهضة، وعدم جدواها، داعيا إلى استيراد الحبوب والفواكه، واللحوم ومشتقات الحليب. من أوروبا والولايات المتحدة.
أما في السودان فإن الإتحاد الأوروبي ( وفي مقدمته فرنسا)، يساهم بشكل حثيث في تقسيم البلاد وتفتيتها، بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان.
على الصعيد الأوروبي، الداخلي، اهتم البرلمان بعمل المخابرات الأمريكية في أوروبا والسجون السرية التي كانت تستعملها، بعلم ومشاركة الحكومات التي رفض أغلبها التعاون مع البرلمان لإجراء تحقيقاته، كما اهتم البرلمان بغلاء الخدمات المصرفية، والمكالمات على الهاتف النقال، بين الدول الأوروبية.
في المقابل قدم البرلمان خصخصة الخدمات ، باسم "المنافسة الحرة"، وقدم بعض الإجراءات اللبرالية على أنها "حماية للمستهلك، ولحقوق الإنسان"، ودافع عن تعميم استعمال الطاقة النووية، بدعوى مكافحة الإحتباس الحراري، ومجابهة غلاء النفط الخ. كما صوتت الأغلبية على التراجع في مكاسب الأجراء، كالعودة إلى العمل بنظام 48 ساعة أسبوعيا (عوضا عن 40 أو أقل في عديد البلدان)، والعمل الليلي، وأيام الراحة الأسبوعية، وعمل النساء، والشبان دون 18 سنة.
أما من حيث الشكل، فإن التصويت على أي قانون، يتطلب نقاشات ومفاوضات على مستوى اللجان، مع مجلس الوزراء (المشرع الفعلي)، تدوم عدة سنوات أحيانا، يدافع خلالها البرلمانيون عادة عن مصالح الطبقات الحاكمة في بلدانهم، باسم المصلحة الوطنية العليا، لكي يحافظوا على مكاسبهم المادية (الأجور والمنح)، التي تمنحها لهم حكوماتهم، وهي تختلف من دولة إلى أخرى، فالنواب الإيطاليون مثلا يتمتعون بامتياوات أعلى من الألمانيين والفرنسيين.
أما خلال الدورة القادمة 2009/2014، فإن الرهانات الرئيسية المبرمجة من قبل مجلس الوزراء والمفوضية، تتلخص في:
□ مواصلة ضرب مكاسب العمال بدعوى حرية السوق وحرية التنقل (لأرباب العمل العمال)، وتحت عنوان "حرية التفاوض" بين العامل ورب العمل الخ؛
□ تعزيز الإجراءات الأمنية، وتقييد الحريات الفردية، وتجريم النضالات الجماعية، النقابية والإجتماعية، بدعوى محاربة الإرهاب؛
□ تأثير الأزمة الإقتصادية على الإستثمارات، كما على الإستهلاك العائلي، وتفاقم البطالة كنتيجة للأزمة؛
□ الخضوع للوبي الطاقة النووية، بدعوى اقتصاد الطاقة والحد من التلوث وعدم التبعية إزاء غاز الروسي، أو نفط العرب؛
□ التركيز على المسائل الأمنية، لصرف نظر المواطنين عن المشاكل الحقيقية كالبطالة وغلاء الأسعار وخصخصة الخدمات العامة؛
□ "تنظيم الهجرة"، باستنزاف ذوي الكفاءات من الدول الفقيرة، وتوقيع معاهدات مع دول المغرب العربي وافريقيا، لتحويلها إلى معتقلات للفقراء، الراغبين في الهجرة، ومنع اللاجئين (بسبب الحروب التي تشعلها أوروبا وأمريكا) من دخول الفضاء الأوروبي؛
□ دعم الفلاحة والصناعة الأوروبية ومواصلة فرض علاقات شراكة غير متكافئة، والتوسع بشكل يحاصر روسيا والصين؛
□ تصفية ما تبقى من القطاع العام، وعدم تعويض موظفي الدولة والهيئات المحلية، الذين بلغوا سن التقاعد، بدعوى الحد من البيروقراطية، وتدخل الدولة.
آفاق العلاقات العربية ـ الأوروبية
إن علاقاتنا مع أوروبا قديمة، تميزت في البداية بكثافة التبادل التجاري والمعرفي. أما بعد الحروب الصليبية، فأصبحت العلاقات عدائية، في هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة نسبيا (ضفاف المتوسط)، ومع الحملة الإستعمارية لنابليون، أصبحت العلاقة استعمارية، ففرنسا وبريطانيا استعمرتا معظم أنحاء الوطن العربي وشنت حروبا وارتكبت مجازر، ثم ساندت الحركة الصهيونية منذ بداياتها، باعتبارها حركة استعمارية، استيطانية، تجسم أهداف الإمبريالية، وتمنع العرب من التوحد أو تشكيل قوة مستقلة.
أوروبا هي مهد النظريات العنصرية والفاشية والنازية، ومهد تطور الرأسمالية، وهي التي صدرت المستوطنين الذين قتلوا السكان الأصليين في أمريكا واستولوا على أراضيهم، وأرسلت مجرميها إلى استراليا لقتل السكان الأصليين أيضا، ولجنوب افريقيا لاستعباد سكانها، والإستحواذ على بلادهم.
لكن أوروبا الحديثة هي أيضا، مهد الأفكار والنظريات العلمية والإجتماعية المتنورة، والثورة على الحكم المتحجر للكنيسة، منذ عصر النهضة، وهي مهد الأفكار الديموقراطية وحقوق الانسان (ولو انها أصبحت الآن، كلمة حق يراد بها باطل)، وهي أيضا مهد بروز الحركات النقابية والعمالية والنضالات من أجل الحرية والعدالة. أوروبا ليست كتلة متجانسة، فهي تتكون من طبقات. اصطفت الطبقات البرجوازية الحاكمة مع بعضها لاستغلال الطبقات العمالية والشعبية الكادحة، وشن الحكام الحروب، داخل أوروبا وخارجها، وجندوا لخوضها، العمال والفلاحين وأبناء الفقراء.
أنجبت أوروبا عددا وافرا من الكتاب والأدباء والفلاسفة والشعراء، الذين دافعوا عن العدالة والمساواة، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.وهي أيضا مهد الأفكار الإشتراكية، نقيض الرأسمالية والإستغلال الطبقي.
أما الإتحاد الأوروبي كمؤسسة، فإنه بني على أساس الدفاع عن مصالح الطبقات الحاكمة، ولعدم اكتراث المواطن الأوروبي بالإنتخابات البرلمانية، ما يبرره:
□ على صعيد السياسة الخارجية، لم يتميز الإتحاد الأوروبي بالدفاع عن مواقف تحررية أو مناهضة للهيمنة، بل اصطف (في أغلب الأحيان) وراء الموقف الأمريكي، المعادي للشعوب، وإن اختلف معه في الشكل، ولم يرتق إلى مكانة يمكنه انتاج قرار مستقل، ثم الدفاع عنه، ولو من منطلق مصلحي بحت، بل بالعكس فقد قبل بهيمنة الولايات المتحدة، وقيادتها للعالم ، ولما أسموه "المجتمع الدولي" (الدول الإمبريالية).
اتخذ الاتحاد الاوروبي موقفا "غير ودي" من حكومات دول مثل روسيا والصين وبعض بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية التي تحاول الإفلات من الهيمنة الكلية للإمبريالية الأمريكية (شن حملات تشويه باسم الدفاع عن حقوق الإنسان، أو الأطفال أو النساء أو الأقليات الدينية والأثنية).
كما أن الإتحاد الأوروبي سعى الى أن يجعل من أوروبا قلعة منيعة لا يقدر على ولوجها عمال وفلاحو وطلبة الضفة الجنوبية للمتوسط، الذين افقرتهم علاقات الشراكة اللامتكافئة وهيمنة الإحتكارات على خيرات بلدانهم، واضطهدهم حكام أوطانهم، بمساندة أمريكية وأوروبية.
أصبح الإتحاد الأوروبي قوة اقتصادية كبيرة، وسوقا هائلة، فادرة على استيعاب إنتاجها، ولكنها لم تصبح قوة سياسية، يمكنها الدفاع عن مصالحها باستقلالية عن الولايات المتحدة، ولم تتمكن أوروبا من تعويض دور الإتحاد السوفياتي (الذي بذلت جهدها للإطاحة به)، في تحجيم دور الإمبريالية الأمريكية، والحد من هيمنتها على العالم، بل اصطفت وراءها مباشرة بعد انهيار جدار برلين، منذ عدوان 1991 على العراق، وحرب تفتيت يوغسلافيا الخ.
□ على الصعيد الداخلي، ارتبط الإتحاد الأوروبي بالقضاء على ما كان يجسد ما سمى "دولة الرفاه"، كالمستشفيات والنقل العمومي، والتعليم المجاني، والسكن الجماعي في عمارات تتوفر فيها المرافق الضرورية، بأسعار معقولة الخ، وأصبح هم الحكومات (والإتحاد)، الدفاع عن مصالح الإحتكارات والشركات الكبرى. كما تميز الإتحاد الأوروبي بالقرارات الفوقية وانعدام التسيير الديمقراطي، وعدم استشارة المواطنين، أو عدم احترام إرادتهم، عندما يصوتون ضد مشروع الدستور المقترح، فمؤسسات الإتحاد الأوروبي، تسير بشكل لا يسمح للمواطن بالتدخل أو المراقبة أو الإعتراض.
أما بالنسبة للمواطن العربي، فإن وقوف الإتحاد الأوروبي، ومؤسساته، إلى جانب الكيان الصهيوني، وشن الحملات ضد المهاجرين، اما لأنهم عرب أو مسلمون، أو الإثنان معا، سببان كافيان للإحتراز والحيطة منه ووضعه في منزلة القوة الإستعمارية، المعادية، وهو محق في ذلك، إضافة إلى الحملات العدائية التي يشنها الإتحاد الأوروبي (إلى جانب الولايات المتحدة) ضد كل ما يمكن أن يعتبر مقاومة أو ممانعة، أحزابا كانوا أوحركات أو دولا.
إن علاقات الشراكة التي فرضها الإتحاد الأوروبي على بلداننا هي علاقة غيرمتكافئة، تفتح الباب على مصراعيه أمام رؤوس الأموال والسلع الأوروبية، مع غلق محكم للسوق الأوروبية أمام سلع ومواطني البلدان العربية، والمغرب العربي خصوصا.
أما الشعوب الأوروبية فهي تعاني أيضا من سياسة حكوماتها وسياسة الإتحاد، المنحازة للإحتكارات والشركات الكبرى، وتعبر عن غضبها ورفضها للحروب العدوانية وللإضطهاد والإستغلال.
وإذا أردنا أن نبني دولة عربية واحدة، فإن الإتحاد الأوروبي ليس المثال الذي يمكن الإقتداء به، لا في مجال التسيير الديمقراطي لشؤون الدولة والمواطنين، رغم الدروس التي يدعي تقديمها في مجال احترام إرادة الشعوب ، ولا في مجال توزيع الثروات، لأنه بني على الإستغلال والإضطهاد والعنصرية.
والعلاقات مع الاتحاد الاوروبي لا يمكنها أن تكون علاقات صداقة، في الوضع الحالي، وإنما علاقة صراع من أجل التحرر والإنعتاق، ضد الإستعمار والإستغلال والهيمنة والإضطهاد. لقد تمكنت أوروبا، على مر السنين، من خلق كيان وفضاء مشترك، يتنقل داخله المواطنون والمنتوجات بحرية. في الوطن العربي، نحن لا زلنا في مرحلة لا يسمح فيها لمنتوج عربي أو كتاب أو مواطن، باجتياز الحدود (التي أحكم إغلاقها الحكام العرب، كما فعلت معنا أوروبا) الا بتأشيرة، وحتى العامل العربي، غير مرغوب فيه في دول النفط. أما السائحون والجواسيس والجيوش الأجنبية ومختلف المنتوجات الضارة والفاسدة والملوثة، فالباب مفتوح لها على مصراعيه.
لذا فان الحاكم المحلي والمستعمر الصهيوني أو الأمريكي، والإمبريالي المهيمن. متحالفون ضد المواطن العربي، كل حسب موقعه. والمطلوب، تحالف المواطنين العرب، بواسطة أحزابهم ونقاباتهم ومنظماتهم، للدفاع عن مصالحهم ومطالبهم المشتركة، بما أن العدو مشترك. أما البرجوازية العربية الرثة فإنها لم ترتق بعد إلى مرحلة يمكنها فيها المطالبة بسوق عربية موحدة، فليس لها إنتاج تروجه، بل تعيش من فتات الإحتكارات الدولية، التي تمثل مصالحها غالبا، أو من ريع النفط، أو من المضاربة، وليست في وضع البرجوازية الأوروبية التي أحدثت ثورة في المجتمع، قبل قرنين.
موقع "كنعان"
2 حزيران (يونيو) 2009