يستعد الرئيس الأمريكي لإلقاء خطابه الموجه للعرب والمسلمين من القاهرة في محاولة منه لتحسين صورة أمريكا في المنطقة العربية الإسلامية، ولإظهار جدية في حل القضية الفلسطينية بناء على رؤية الدولتين. وواضح أن الرئيس الأمريكي الجديد مقتنع بأن سياسات أمريكا في المنطقة قد ارتدت عكسيا في كثير من الأحيان، وأن التحيز الأمريكي الأعمى لإسرائيل قد أفرز الكثير من المعطيات التي أثرت سلبيا على المصالح الأمريكية في المنطقة، وأبقت العالم مشغولا بما يطرأ في المنطقة من حروب وتوترات. لكن هل سيملك الرئيس الأمريكي ما يكفي من التصميم ليقيم سياسة أمريكية متوازنة تحفظ حقوق الشعوب، وتعترف بحق العرب والمسلمين بالاحترام؟

ما يطفو على السطح حتى الآن من تصريحات يشير إلى أن الرئيس الأمريكي متردد، وأنه لا يملك تصورا مفصلا واضحا حول ما يمكن أن يؤدي إلى هدوء المنطقة واستقرارها. هو يتكلم حتى الآن عن حل الدولتين دون أن يشرح ماهية الدولة الفلسطينية، ويردد بشأنها عبارة القابلة للحياة والتي هي عبارة غامضة لا تؤخذ على عواهنها؛ وهو أيضا يحاول ربط هذا الحل بقبول العرب والمسلمين لإسرائيل وتطبيع العلاقات معها؛ لكنه يبدو واضحا بشأن الاستيطان في الضفة الغربية دون أن يذكر القدس كمدينة محتلة، إذ طلب من إسرائيل التوقف عن البناء الاستيطاني بعبارات لا لبس فيها.

هناك من يرى أن القضية الفلسطينية هي منبع الأزمات في المنطقة، وأن غياب الجدية الأمريكية في مواجهة إسرائيل سيفاقم الوضع في المنطقة وسيؤدي إلى ارتفاع شعبية القوى  المسماة بالممانعة وتمكنها من الزحف على هيمنة الدول التي تدور في الفلك الأمريكي. ويرون بأن سياسة أمريكية أكثر جدية ستحافظ على استقرار المنطقة واستمرار الأنظمة العربية، وتعزيز التحالف العربي الإسرائيلي في مواجهة إيران. على الرغم من أن هذه الرؤية تتضمن شيئا من الصحة، إلا أن المسألة أوسع بكثير من هذه الزاوية المحدودة وذلك للأسباب التالية:

قضية اللاجئين الفلسطينيين

تتوهم الإدارة الأمريكية بفعل السياسات العربية بأن إقامة الدولة الفلسطينية سينهي الصراع العربي الإسرائيلي، وهي بذلك تتناسى العنصر المركزي وهو قضية اللاجئين الفلسطينيين. هناك فلسطينيون يكتفون بإقامة دولة فلسطينية، ويقبلون بحل الدولتين، لكن هناك آخرين يرون بأنهم لا يريدون الدولة إذا كان ثمنها الاعتراف بإسرائيل. المشكلة الأساسية هي أن هناك حوالي ستة ملايين لاجئ فلسطيني مشتتين في أصقاع الأرض، وأغلبهم يعيش حياة صعبة جدا في المخيمات، وأن الهروب من إعادة هؤلاء الناس إلى وطنهم عبارة عن خداع ذاتي لا ينتهي إلى النتائج المرغوب بها. مسألة إقامة الدولة عبارة عن مسألة هامشية بالمقارنة مع حق العودة، وإذا أقيمت فإن وقتا قصيرا سيمر على استقرارها في ضوء ضغط قضية اللاجئين. صحيح أن هناك بحثا عن حل يسمى بالعادل وفق قرار مجلس الأمن 242، لكن لا عدالة بدون حق العودة. عدد لا بأس به من الفلسطينيين سيقبل التوطين، أو سيكتفي بعودة إلى الضفة الغربية ، لكن العدد الرافض لهذا الحل كبير بما يكفي للاستمرار في المطالبة بحق العودة بكافة الأشكال.

ثم أن فكرة الدولة المطروحة الآن لا تقيم دولة حقيقية، وإنما تقيم كيانا فلسطينيا يعمل وكيلا أمنيا لإسرائيل, هذا أمر تشهد عليه السياسة الأمريكية الحالية التي تعمل على تجنيد فلسطينيين لملاحقة من يسمون بالإرهابيين وللحرص على الأمن الإسرائيلي مقابل راتب آخر الشهر. أمريكا تعمل على شراء الفلسطينيين، وفي سياستها هذه أحدثت شروخا سياسية واجتماعية خطيرة في الداخل الفلسطيني، وعملت على القضاء على فكرة الاعتماد على الذات، وأمعنت في التدمير الأخلاقي للشعب الفلسطيني. هذه سياسة لا تنتج سلاما، ولا تنتج توافقا أو اتفاقا داخليا يحفظ السلام الداخلي بين الفلسطينيين, ولولا هذه السياسة الأمريكية لما وصل الفلسطينيون فيما بينهم إلى هذه الدرجة من الاقتتال والجفاء والكراهية والبغضاء.

إن ما يثير التساؤلات المشروعة حول جدية الدور الأمريكي في البحث عن حل للقضية الفلسطينية هو دعم أمريكا غير المشروط لإسرائيل، وإصرارها على أن السلام لا يتحقق إلا إذا كانت إسرائيل قوية. المعنى أن أمريكا تعمل دائما على تأكيد قدرة إسرائيل العسكرية بحيث تتفوق على الدول العربية منفردة ومجتمعة، وهي بذلك تؤكد ضرورة فرض السلام وفق معايير القوي، وليس وفق أسس العدالة. لا يوجد توازن بتاتا بين الدعم المالي الأمريكي البخس للفلسطينيين والمشروط بالالتزام بملاحقة الإرهاب والإرهابيين، وبين دعم إسرائيل بطائرات إف 35، ومليارات الدولارات.

من الضروري أن ترى الولايات المتحدة التحول في ميزان القوى في المنطقة العربية الإسلامية، ذلك لكي تقدّر بأن ما كان مقبولا لدى قطاعات عربية وإسلامية فيما يخص القضية الفلسطينية لم يعد مقبولا الآن، وأن استعدادات التنازل التي كانت قائمة منذ فترة قد خفت حدتها الآن. فمثلا، كان من الممكن لقوى المعارضة الفلسطينية أن تمرر فكرة حل الدولتين قبل عدة سنوات، وكان من الممكن أن تقبل سوريا بشروط لقاء انسحاب إسرائيل من الجولان، لكن الآن أصبح الوضع مختلفا. من الحكمة عند البحث عن حلول أن يتم أخذ ميزان القوى بالاعتبار، لا أن يبقى المرء تحت وطأة ميزان قوى قد كان.

أمريكا غير عملية عندما تطلب موقفا عربيا وإسلاميا رسميا جماعيا في الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها لقاء اعتراف إسرائيل بحل الدولتين. هذا طلب لن يتأتى لها الآن لأن دولا عربية وإسلامية ترفض وجود إسرائيل إما ضمنا أو صراحة، ولأن بعضها سيقع تحت انتقادات شديدة من التنظيمات الإسلامية. أي أن الطلب فيما إذا لُبّي سيعرض العديد من الأنظمة القائمة للهجوم ومخاطر الصراعات الداخلية.

دعم الاستبداد العربي

من الصعب جدا على أمريكا كسب ود الجمهور العربي ما دامت تدعم الأنظمة السياسية القائمة حاليا. الأنظمة العربية مستبدة وقمعية وتمنع الحريات، ووفق تصنيف جهات كثيرة من ضمنها الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش نجد أن الوطن العربي هو أشد مناطق العالم معاناة في هذا المجال. أنظمة العرب توظف أجهزة الأمن ليس دفاعا عن الدولة وإنما عن النظام، وهي تقيّم الأشخاص ليس وفق مؤهلاتهم وكفاءاتهم، وإنما وفق موالاتهم للنظام.

الأنظمة العربية أنظمة قبلية تعصبية، أو أنظمة عسكر تفتقد للشرعية، وهي جميعها شريكة في حالات التخلف العلمي والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي التي تعاني منها الأمة. قادت هذه الأنظمة العرب من تخلف إلى تخلف ومن إحباط إلى آخر، ومن هزيمة إلى أخرى، وهي تحول دون المشاركة للقطاعات الأوسع، وتلاحق الذين يطالبون بأدوارهم في صياغة حاضر ومستقبل الجمهور. وبالرغم من ذلك، أمريكا تدعم أغلب هذه الأنظمة وتعطيها المجال لممارسة قمعها وتنكيلها بالمعارضين الذين يدافعون عن حقوق الناس. وفي هذا تضحي أمريكا بالمبادئ الديمقراطية التي تنادي بها، وتغض الطرف عن كل الممارسات اللا إنسانية التي تقترف ليل نهار في أرجاء الوطن العربي، بل هي شريك في أغلب الأحوال وتقدم الكثير من المعلومات المخابراتية لأجهزة أمن العرب.

ينظر أغلب العرب بعين من الريبة والشك والعداء تجاه أمريكا لأنها تدعم من يهددون الأمن العربي وخصوصية الإنسان. دعم الأنظمة العربية التي تتمتع بنسبة قليلة من التأييد الشعبي واضح للعيان ويشكل إدانة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة. الأنظمة العربية وفق العديد من الاستطلاعات لا تتمتع بتأييد أكثر من 15% من الناس، وهم في الغالب من المستفيدين مباشرة من هذه الأنظمة ويعملون في وظائف حكومية وأجهزة الأمن، ومن الصعب على أمريكا أن تحسن صورتها ما دامت تحالف الأنظمة على حساب الجمهور. فضلا عن أن أمريكا تغامر بصدقية دفاعها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتجعل من نفيها مادة للتندر أمام المثقفين العرب الذين يتطلعون نجو الحرية.

ومن المفروض ألا تنخدع أمريكا ببعض المثقفين الذين يوالونها ويروجون لسياساتها، فهؤلاء يقعون في الغالب تحت تأثير الأموال التي يحصلون عليها من الدول الغربية لقاء إدارتهم لمراكز ومنظمات غير حكومية لا تبحث عن سبل النهوض بالأمة.

نهب الثروات العربية

الشركات الأمريكية بخاصة العاملة في مجالات الطاقة هي الأكثر سطوة على الساحة العربية، وهي التي تحقق الأرباح الهائلة بسبب قدراتها الاستخراجية والتسويقية. تتحالف القوى السياسية الأمريكية مع هذه الشركات الضخمة، وتوظف قدراتها العسكرية من أجل الهيمنة وتحويل العديد من الأنظمة العربية إلى مجرد أنظمة ريعية تبذر الأموال التي تحصل عليها دون توظيفها في أعمال الاستثمار. أمريكا هي المهيمنة على الخليج، ومستعدة دائما لحروب تدفع ثمنها المنطقة من أجل الإبقاء على هيمنتها.

أمريكا تحول دون برامج التطوير العربية المستندة على الرقي العلمي والتطوير التقني، ومن ثم النهوض الاستشماري في مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. يبدو أنها سعيدة في رؤية أنظمة العرب توظف أموالها في أعمال الترفيه والمشابهة الحضارية المظهرية، ولا تعمل على دفعها نحو استثمار إنتاجي يمكن أن يشكل حصنا للمستقبل ويقلل من اعتماد العرب على النفط.

الإصرار على تفتيت العرب

الاستعمار الغربي هو الذي مزق وادي النيل وسوريا والجزيرة العربية، وهو الذي صنع هموما خاصة في المغرب العربي ما زالت تعمل عكس متطلبات الوحدة. وقد ساهمت الولايات المتحدة بالتعاون مع الأنظمة العربية في صناعة ثقافات عربية محلية لكي يتحول كل شعب عربي إلى قومية بحد ذاته على حساب الفكر الوحدوي. حتى أنها غرست فكرة التشتت العربي لدى العديد من المثقفين العربي الذين باتوا يرون أنفسهم خارج الأمة العربية، وينزعون نحو تكريس دولهم كهوية تاريخية منفصلة عن التاريخ العربي-الإسلامي.

لم يعد في هذا العالم مكان للدول الصغيرة، وهناك اتجاه نحو التكتلات الكبيرة، وأكبر شاهد على ذلك هو الاتحاد الأوروبي الذي ما زال يتسع حتى الآن. الدول الصغيرة عبارة عن مناطق نفوذ، وهي تعيش على هامش الاقتصاد العالمي، وتعتمد إلى حد كبير على الصدقات أو تحت رحمة الشركات العالمية الكبرى. أغلب البلدان العربية عبارة عن إقطاعيات صغيرة إما جغرافيا أو سكانيا أو جغرافيا وسكانيا معا، وهي لا تملك مقومات الاستقلال والتميز، وإذا تطلع العرب نحو مستقبل يساهمون فيه بالحضارة العالمية فلا مجال أمامهم غير الوحدة.

الملاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست فقط عائقا أمام الوحدة العربية، بل هي عامل هام في تفتيت الوحدة الوطنية لعدد من البلدان العربية مثل لبنان وفلسطين والعراق والسودان والصومال واليمن ومصر. إن لم تكن أمريكا متآمرة مباشرة في هذا الاتجاه، فإن مصالحها تتطلب عملية التمزيق الداخلي لدول عربية، وتؤدي في النهاية إلى الاقتتال الداخلي. المطلوب أن ترفع أمريكا يدها عن الشعوب العربية، وأن تتوقف عن دعم أطراف على حساب أطراف أخرى.

الوجود العسكري

أمريكا موجودة عسكريا الآن بشكل ظاهر في عدد من البلدان العربية مثل السعودية والكويت والعراق والأردن ومصر وقطر، وفي هذا ما يثير الكثير من المشاعر العربية ضدها. إنها موجودة بمباركة أنظمة عربية، لكن هذه الأنظمة متهمة من قبل جمهور عربي واسع بأنها عبارة عن أدوات بيد أمريكا ولا تملك لنفسها قرارا، وإذا أرادت أمريكا تأكيد نفسها كصديق للعرب فإنه من المطلوب منها أن تحمل أمتعتها وترحل.

الخلاصة

ربما تجد أمريكا الآن أن الصعود الإيراني يتطلب بعض العقلانية في التعامل مع العرب من خلال الأنظمة العربية ذلك من أجل تمكين الأنظمة بعض الشيء من القيادة، ومن أجل إيجاد تبرير لها في حال تحالفها مع إسرائيل وأمريكا ضد إيران. ترى الأنظمة العربية في إيران خطرا زاحفا عليها، وهي تلتقي مع إسرائيل في ذات الحسابات، وترى أنه من المهم تهيئة أجواء مخادعة حتى تتمكن من المشاركة في أعمال قد لا تبدو مريحة للعربي. تستطيع أمريكا أن تفعل الكثير من أجل صناعة هذه الأجواء، لكنها تبقى مصطنعة ولا تدوم طويلا.

إذا أرادت أمريكا إقناع العرب والمسلمين بجديتها فإن أمامها أن تتوقف عن دعم إسرائيل أولا، إذ لا يعقل أن تكسب مصداقية في الوقت الذي تحارب فيه أمريكا بندقية الحرية العربية، وتقوم بتسليح إسرائيل بمختلف أصناف أسلحة التدمير. لا يكفي من أمريكا المناداة بدولة فلسطينية ووقف الاستيطان، وإنما مطلوب إجراءات عملية في مواجهة إسرائيل وتأييدا للحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني. وإذا كان لها أن تتجنب مشاكل مستقبلية مع الجمهور العربي فإن عليها تبني سياسات تنسجم مع تطلعات هذا الجمهور وليس مع مصالح الأنظمة التي تكبت أنفاسه.

الجزيرة نت 

29/5/2009