لنرفع الرؤوس بعقولها بدل إعلاء السيوف من عقالها
المصطفى صوليح٭
خلال الأسبوع الفائت نشرت جريدة " الأحداث المغربية
" على الملإ خبرا مفاده أن السيد سعيد الكحل ، و هو باحث دأب عبر صفحات هذه
الجريدة ، خصوصا ، و جرائد أخرى ، على مقارعة منهاج الشيخ عبد السلام ياسين و توجهات
جماعته " العدل و الإحسان " ، قد توصل برسالة سب و وعيد . و في عددها
الأسبوعي 2460 الموافق ليوم الأحد 23 أكتوبر 2005 نشرت الجريدة إياها مقتطفات من رد
هادئ للباحث المذكور على تلك الرسالة مذيلة بالنص الكامل لرسالة ثانية موقعة
كالتالي :" أبو جهاد المغربي – القسم الشرعي للجماعة الإسلامية للتوحيد و
الجهاد بالمغرب " كلها اتهام بالزندقة
و الكفر و الردة ، و فوق ذلك تحذره من كونها آخر إنذار له مردفة: " ..
فو الله الذي لا إله غيره .. لن تنعم بالهناء ، ساعة من نهار و اعلم أن سيوفنا
ستطالك طال الزمن أم قصر و أن هناك جنودا لله تعالى يتربصون بك الدوائر ( ... ) و
قد أعذر من أنذر .. " . و الملفت للنظر في هذا الصدد أنه، باستثناء بيان
الإدانة الذي أصدرته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في يوم 19 أكتوبر 2005 وأعادت
الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان تعميمه ضمن نافذة المغرب في موقعها على
الويب ، لم تبادر أية جهة أخرى معنية بحماية الحق في حرية التفكير و التعبير عنه ،
رغم تعدد الهياكل ذات الصلة و كثرة
الأفراد المدعين لذلك ، إلى التطرق للموضوع .
تهديد الباحث سعيد الكحل جريمة يعاقب عليها القانون
لنتفق ، بدءا ، على أننا جميعنا عباد الله ؛
لنتفق ، و لنبق في مجرى البدء، على أنه لا أحد منا يتوفر
على بطاقة موقعة من قبل إلهنا جميعا تخول التحدث باسمه و إطلاق أوصاف نعتقدها مثالية
على أنفسنا مقابل نعوت مشينة نسم بها غيرنا ؛
لنتفق ، و دائما بدءا ، على أن إعلاء الفضيلة و النهي عن
المنكر و الدعوة إلى المعروف هي مساعي لا تتطلب السرية أو " التقية "
بلغة " فقه " النصب و الاحتيال ، فالفاضل و الداعية الحسن بقدر ما يكون
متأكدا من صواب أفكاره و منهجية تفكيره و قدرته على إقناع الآخرين لن تخيفه أية
جهة مهما كان جبروتها ، في إظهار شخصه و الفخر ببرنامجه ؛ فإن كان عالما ، أو
فقيها ، أو داعية ، أو باحثا ، أو زعيما ، أو غير ذلك ،، سيزداد عزة إن قال للناس
: أنا فلان الفلاني ، أدلي برأيي في هذا العمل أو الفعل أو في تلك القيمة أو ذاك
المبدإ بناء على المعايير التالية ( الدينية أو الوضعية أو الانطباعية بحسب
الاختيار المرجعي ... ) مستشهدا في نقاشي للموضوع المعني بالنصوص و الوقائع ذات
الصلة ، وصولا إلى الخلاصة ( القيمة المضافة ) التي من أجل التنوير بها بادرت ،
أصلا ، إلى التدخل في هكذا أمر من أمور دين أو دنيا بلادي ؛
لنتفق ، قبل البدء ، على أن اتهام المختلفين عنا
بالزندقة ، و الكفر ، و الردة و غيرها من الاتهامات التي لم يأمر الله أي وكالة من
الوكالات و أي فرد للنطق بها و الإفتاء
فيها ، بدلا عن جلاله ، هو جريمة يعاقب عليها القانون في كل البلدان التي تضمن
لمواطنيها حريتهم في اعتناق الأفكار و في تغييرها بدون تدخل يجبرهم على ذلك ، و
تكفل لهم الحماية القانونية و العادلة ضد من يحاول إعاقة حقهم في هذه الحرية ؛
و لنتفق ، و نحن على مشارف دخول صلب من الموضوع ، على أن
تهديد الناس بالقتل ، هو في درجة تنفيذ القتل نفسه و أكثر ، و لذلك فإن السلطات
الحكومية المعنية ، في البلدان الديمقراطية لا يهنأ لها بال إلا إذا وضعت يدها على
مثل هذا الشخص الذي يترصد شخصا آخر بغاية تصفيته . و على العكس من ذلك ، إن ترك
متوعد الناس بالقتل يصول و يجول ، كما هو الحال في شأن توعد الباحث سعيد الكحل ، دون
مساءلته المساءلة العادلة الواجبة يكون تعبيرا من قبل السلطات في البلدان غير
الديمقراطية عن حاجتها إلى طابور خامس يتعاون ، من حيث يدري أو لا يدري ، في إنجاز
جرائم تحت ذريعة " الأدلة السرية
للدولة " ،،،
.
العلمانية قيمة إنسانية تحمي إيمان الناس و لا تهدد دينهم
جاء في رسالة تهديد سعيد الكحل في حياته أنه مثله مثل كل
الحداثيين و التقدميين و الديمقراطيين و المنتمين للأحزاب ،،، يجسد " .. آخر
طبعة من طبعاتهم اليوم تصدر تحت اسم العلمانية و العلمانيين ينضوي تحت رايتها
أقطاب الكفر و الزندقة و الإلحاد و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . " . فهل حقا
أن العلمانية هي هكذا؟ و أليس أن الأقرب إلى هكذا أوصاف ليسوا هم العلمانيين و
إنما هم ، بالتحديد ، أولئك الذين يشركون أنفسهم بالله ؟
الواقع أن المرء ، سواء عبر طول الرسالة إياها أو عرضها أو
عبر رسائل و كتب أخرى مشابهة ، لن يحرز أي قدر بسيط جدا من إجابة مدموغة بالدراسة و البحث و الحجاج العقلي
و المنطقي تبين : ما العلمانية ؟ هل هي فعلا فلسفة الانتشاء بمتاع الدنيا الفاني ؟
و ما نسقها ؟ و ما جذورها ؟ و ما معانيها ؟ و ما مضارها ( إن كان لها من مضار ) ؟ و
ما مظاهر الزندقة و الكفر و الإلحاد التي تبدو على الذين يفضلونها منهجا في
تأملهم و مطلبهم و سلوكهم
السياسي ؟ و ما القيم التي تتفرع عنها ؟ و ما التطورات التاريخية التي عرفها
تطبيقها ؟ و ما الفرق بين العلمانية الانتقائية أو الجزئية التي أخفت بواسطتها
أنظمة عربية مشرقية وجهها الأوتوقراطي الاستبدادي لسنوات طوال و العلمانية
الشمولية ؟ و هل العلمانية هي نافعة أم لا بخصوص ضمان التنوع و الاختلاف الثقافيين الموجودين على
أرض الملموس ؟ و في ماذا قد تسيء ، بالضبط ، للإسلام و المسلمين ؟ و هل تفيد
الأقليات الدينية و منها الإسلامية في بلدان الأغلبيات الدينية الأخرى أم لا و حيث
يمكن للفرد الغني من المسلمين أو لجماعة من محسنيهم أن يشيدوا مسجدا بكل حرية
بينما لا يمكن لمثلهم من معتنقي الديانات السماوية الأخرى أن يقوموا بذلك في بلدان
إسلامية بعينها ؟ ثم ما الذي كان ، و يكون اليوم ، الأجدر بالكرامة البشرية
للإنسان أ هو استمرار محاكم التفتيش بكل ما أزهقته من مئات الآلاف من الأرواح و
سفكته من دماء أم هو ترك ما لله في علاقة عباده مباشرة به و ما للناس في تدبير
شؤونهم و شؤون أوطانهم الدنيوية للناس أنفسهم ؟
إن ما يعثر عليه من وافق على أن يتعب أعصابه بقراءة مثل
هذه الرسالة و مثيلاتها هو فقط زخر من السباب و الوعيد و التهديد و الجمع في نفس
السطر بين آية قرآنية كريمة أو حديث نبوي شريف و عبارات فاحشة ، و سيء الألفاظ ، و
مساومة العفو بإعلان التوبة ، أي بإعلان عدم العودة إلى توضيح عواقب التزمت و التعصب و التطرف الفكري على
الأفراد و المجموعات و المجتمعات و في العلاقات بين الدول .
كثيرة هي القضايا ، ذات الصلة بالعلمانية ، التي كان
بإمكان المسلمين أن يكسبوها لولا أن بعضهم بدل أن يرفعوا رؤوسهم بعقولها أعلوا
سيوفا من عقالها . من أمثلة هذه القضايا قضية الحجاب في فرنسا . كيف ذلك ؟
فرغم أن الفرنسيين يعتبرون أنه من بين مسلماتهم أن
العلمانية ، كما أكدت ذلك لجنة النظر بتطبيق مبدإ العلمانية في الجمهورية – تقرير
برنار ستازي 2003 ، هي مبدأ عالمي شامل و نزعة أوروبية و مبدأ جمهوري تكون عبر
القرون فصنع التاريخ الجماعي للفرنسيين ، يقوم على احترام تنوع الخيارات الروحية و المذاهب ، و ضمان حرية المعتقد ، و العيش
معا و بناء قدر مشترك ، إلا أنها بالإضافة
إلى ذلك مبدأ قانوني يعتمد على التجربة في التطبيق فتتنازعه عناصر قانونية متناثرة
و مقتضى ثنائي البعد ، الأمر الذي يدعو إلى تعزيز حيادية الدولة و حرية المعتقد و
نقاط التجاذب بين مكونات المجتمع ،،، رغم ذلك بادر كبار مفكري هذا البلد و في
مقدمتهم فلاسفتها ، علما بأنهم علمانيون أصلا و فصلا ، إلى إغناء الحياة الفكرية
لبلدهم بالنقاش المثمر و الجدال المجدي ، فانقسموا بين من يؤيد ارتداء التلميذات
المنحدرات من أسر مسلمة للحجاب و من يؤيد منعه . و لولا ، إلى جانب عوامل أخرى ، أن
" أئمة " المسلمين الذين يطلقون على أنفسهم ألقاب " المشايخ " و "
الأمراء " و " الزعماء " و " المفتين " و "
المجاهدين " لم يركنوا إلى الزعيق ضد مضيفيهم و تهديدهم بممارسة العنف فيهم و
في مروءتهم و رفاهتهم و تمدنهم لما تراجع
القسم من أولئك الفلاسفة عن دعم حق البنت في أن ترتدي ما تشاء ، بطواعية منها ، من
لباس حتى و لو كان هذا اللباس يرمز إلى خصوصيتها الدينية ، و لما انضموا هم بدورهم
إلى فريق برنار ستازي . كيف حاجج هؤلاء الفلاسفة قبل أن يتراجع بعضهم؟ إن هؤلاء ،
و سواء تعلق الأمر بـ : آلان توران ، أو ليك فيري ، أو إدغار موران ، أو بول ريكور
،أو كانتو سبراب أو إيتيان باليبار ، أو بعدد آخر غيرهم من الكتاب و المثقفين و
المبدعين ،،، كانت الحجج التي أعلنوها هي ، بالإضافة إلى التنديد بما سموه "
القانون الاستثنائي حول الحجاب " ( و هم يقصدون قانون منع الرموز الدينية
بصفة عامة ) ، أنه على فرنسا أن تحافظ على
مدرستها منفتحة تحترم التعدد و الاختلاف ، و أن العلمانية " تقوم على احترام
الأقليات و تنمية المعرفة حول الإسلام ، و
بالتالي يجب التمييز بين الإسلام و الحركات الإسلامية السياسية التي توظف الدين
" ، و أنه بالنظر إلى أنه ليس هناك طريقة واحدة لدخول الحداثة " يجب
تحرير الآراء للتعبير عن نفسها "
باللباس كما هو الحال بالنسبة للكتابة و التظاهر . و أنه " لا معنى لتشريع
يهدر حرية الأفراد ، فالمطلوب من التشريع المرونة الكافية لكي يعبر الأفراد عن
حرياتهم دون المساس بالمبدإ " ، و أن قضية الحجاب الذي لا يتعدى أن يكون مجرد
قطعة قماش قد تم تضخيمها بشكل لافت " فالحالات معدودة ، و من الضروري الإبقاء
على هؤلاء الفتيات أو الطالبات داخل المدرسة ، و أن تعطى لهن فرصة التطور و التقدم
و ألا يتم منعهن أو طردهن " . و أنه على فرنسا لكي تجسد أنها علمانية حقا أن
تترجم ذلك في الحياة اليومية بالإقرار الفعلي بأنها بلد متعدد الأقوام و العقائد و
بإدخال مادة الدين في المناهج الدراسية و أن تمنح المقيمين فيها عطلا رسمية بمناسبة أعيادهم الدينية ، و أن تحرص على
الربط بين العلمانية و المساواة فلا تسمح بإقصاء أي كان ممن يعيشون فوق ترابها، و
أن إستراتيجية تعميم فرنسة المجتمع لا يمكن بأي حال أن تسعى إلى تقويض الاختلافات
و التعدد و التنوع بل يجب أن تدمجها، و أن تقعيد هذه الإستراتيجية هو على عكس
التوجه الحكومي يدخل ضمن الانشغالات السياسية و ليس في باب الإجراءات التشريعية . و
أن تحريض بعض الآباء لبناتهم القاصرات على ألا يشاركن في الألعاب الرياضية
المدرسية و على ألا يخضعن للفحوص الطبية لا يجب أن يكون مدعاة لكي تتخلى المدرسة
عن حيدتها في شأن الانتماءات الدينية، و ألا يتدخل القانون و ليس المدرسة على كل
حال إلا في الحين الذي يصبح فيه الأمر عائقا أمام علمانية المدرسة أو أمام
اختيارات الآخرين ....
هكذا انخرط العلمانيون الفرنسيون في الإدلاء بآرائهم
بخصوص قضية ظلت تنال اهتمامهم منذ 1998 و خاصة في بحر سنة 2003 ، فلم يمسوا أية
ديانة بسوء أو أحطوا من قدرها ، و لم يتراجموا لا بحديد و لا بنار ، و لم يتوعد بعضهم
البعض بشر ، و قد كان بإمكانهم أن يريحوا أنفسهم بالاكتفاء منذ الأول بالإجماع حول
إعادة من يحاولون التشويش على منهجهم في التعامل السياسي إلى أوطانهم . فما الذي
يمنع علماءنا في الدين كما في باقي العلوم من التفكير الرصين ، و بصوت مرتفع عل
ذلك يساعد في عقلنة دعاة قتل المختلف عنهم ، لكن شريطة عدم الإفتاء على غرار ما
فعله ثلة من علماء تطوان في القرن 19 حين زعموا أن العجلة ( يعنون الرويدة ) هي من
عمل الشيطان فأفتوا على السلطان بعدم السماح بتركيبها على أية آلة سيارة .
العلمانية ضمان لخيارات مختلف الناس
حتى لا يقال لي : و من أنت حتى تتحدث عن العلمانية ؟ و
لأنني لم أجد من بين فقهائنا ، بحسب ما علمت به ، من يمكن النهل من معينه الفياض
بالأفكار و ليس بالشتائم في هذا الموضوع ، أستسمحكم في أن أستنجد ، كما فعلت أعلاه
، لكن في هذه المرة بأحد رجال الدين المسيحيين في مقاربة دلالة كون "
العلمانية ضمان لخيارات مختلف الناس " .
يقول المطران غريغوار حداد في العدد 22437 من جريدة
" النهار " اللبنانية : لقد " أضحت العلمانية عندنا ( يقصد اللبنانيين
) في خطر " ، و لذلك طالب مؤيديها و محاربيها بالالتقاء في حوار علمي هادئ
حولها يصل إلى نتائج إيجابية يوافق عليها الجميع ، مذكرا بأن تيارا متنوعا و
متعددا من مكونات المجتمع المدني قد قدم ورقة عمل للمساهمة في بدء الحوار . ثم
اختصر محتوى الورقة إياها في ما يلي : " – العلمانية الشاملة هي نظرة شاملة
إلى العالم ، تؤكد استقلالية العالم و مكوناته
و أبعاده و قيمه بالنسبة إلى الدين و مكوناته و أبعاده و قيمه . و هي علاقة حياد
إيجابي تجاه جميع الأديان و الإيديولوجيات . – و الاستقلالية الإيجابية هذه لا
تعني، إذن ، إلحادا و لا شكا و لا ابتعادا تجاه الدين ، بل اعتبار أن لكل جهة
كيانها و قيمتها من دون رفض أو استيعاب. – و العلمانية شاملة لأنها تشتمل على :
العلمانية الشخصية ( ..) و العلمانية السياسية ( .. ) و العلمانية الوظيفية ( .. ) و
العلمانية المجتمعية ( .. ) و العلمانية المؤسسية ( .. ) و العلمانية القانونية (
.. ) و العلمانية القيمية ( .. ) . أنا مؤمن بالله و مؤمن بالعلمانية الشاملة .
مؤمن بالله ، و لذلك أنا علماني ؛
و مؤمن بالعلمانية دعما لإيماني بالله . و إيماني المسيحي على مسافة واحدة
من جميع الأديان . و أنا مقتنع بأنه كلما أصبح المسيحيون مؤمنين بالإنجيل حقا ، و
المسلمون مؤمنين بالقرآن حقا ، أصبحوا جميعا قادرين على تكوين وطن علماني حقا ( ..
) النظام العلماني هو الحاضنة الإيجابية لحرية جميع الأديان و المعتقدات ".
أشد على يدي السي سعيد الكحل ، و للحديث صلة .
الدار البيضاء في 24 أكتوبر 2005
٭ المصطفى صولـــــيح .
El Mostafa Soulaih
٭ من المغرب . كاتب ، باحث ،
و مؤطر ، في مجال التربية على حقوق الإنسان و المواطنة.
من كوادر اللجنة العربية لحقوق الإنسان .