لم يكن التطور الحضاري الحاصل في الغرب وليد صدفة بل كان نتاج تحولات اجتماعية وسياسية قدّم في سبيلها روّادها الكثير من التضحيات. وكانت الحرية والديمقراطية الأساس المتين الذي لعب دورا كبيرا في دفع عملية التنمية الشاملة وفي تحقيق الرخاء الاجتماعي وبلوغ المجد الحضاري لقد حرّر الإنسان الغربي العقل وأمّن البيئة المناسبة للخلق والإبداع فتحقّقت ثورات في الفكر والاقتصاد ومن هنا أصبح الغرب الأوربي مثالا للتقدم وأضحت دوله نموذجا للبلدان التي لا زالت في طور النمو وقد كانت الأقطار العربية من بين الدول التي حاولت اللحاق بالركب الغربي فنقلت عنها الأشكال التنظيمية كالدستور والبرلمان والانتخابات والأحزاب والمؤسسات... غير أنها أخفقت في تحقيق التنمية والتطور لأنها نقلت إلى مجتمعاتها قشورا خاوية مفرغة من جوهرها الإنساني العقلاني حتّى يخفي الحاكم خلفها نظامه القمعي. لقد تعمّد الحاكم العربي إغفال الجوانب الجوهرية التي توصل بها الغربيون إلى قمة التقدم ومن بينها قيم الحرية والديمقراطية والتسامح مع المخالفين واعتبارهم شركاء لا خصوما وظلّ يسوس مواطنيه بالشدّة ويروّضهم على الطاعة العمياء متظاهرا بالتفاني في تأمين الطريق إلى الرخاء والتمدّن.

تونس والديمقراطية

تمثل الديمقراطية الأساس المتين لكل عمل إنسانيّ مبدع وتقييد الإنسان بضوابط المنع وإجراءات القمع تجعل منه كائنا مائلا إلى الخنوع والتقوقع على ذاته، فيدخل في صراع بين ما يرغب فيه وبين ما هو محظور عليه وتتشتت أفكاره ويفقد الرغبة في الإبداع وبالتالي عوض أن يكون إنسانا منتجا وفاعلا يصبح في غالب الأحيان عالة عن المجتمع.

 إنّ غيابها يمثل أزمة فعلية إذ تنشأ مشاعر الاحتقان والحقد والعنف وتظلّ آخذة في التضخّم والشيوع بما ينبئ بحدوث الأسوإ في جميع المجالات وخاصة الاجتماعية لأن ما هو مكبوت بفعل ضغط سلطة قمعية يمثّل قنبلة موقوتة يأتي اليوم الذي تنفجر فيه وتطفو على السطح رغم الحدود والرقابة وسيول المنع والضوابط المختلفة لأنّ الإنسان باعتباره كائنا حرا يسعى دائما لمحاولة التملص من كل القيود الموضوعة له والناظر في مسار التاريخ يعلم أن الاستبداد يولّد الثورة والعنف.

 والمجتمع التونسي الذي طالما كانت الديمقراطية مطلبا ومطمحا لسائر نخبه يشهد غيابا يكاد يكون كاملا للحريات على جميع المستويات. فسياسيا لا نشهد على الساحة سوى سيطرة مطلقة لحزب واحد ولرجل واحد، وإقصاء ممنهجا لجميع الأحزاب الأخرى وإذا كان البعض معترفا به فصوته يبقى ضعيفا مهمشا. وربما نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي تقام بصفة دورية أكبر دليل على هذه السياسة، حيث يُغيّب الرأي المخالف وتُكتم الأفواه باسم القانون، وفي المقدّمة الإعلام حيث أن تونس اليوم تفتقر أكثر من أيّ وقت مضى إلى إعلام حر هادف وبناء.

على خلاف الإعلام في الغرب الذي يُمثّل سلطة رابعة يتقيّد بها الحاكم ويظلّ دائما تحت منظارها وهو ما يكون حافزا له لتجنّب الخطأ وعدم التمادي في الغطرسة.

إن الفضائيات والصحف والمجلات التونسية كلها مقيّدة بخطوط حمراء وهو ما يجعلها غير قادرة على النقد وإبراز الاختلاف ويدفع بها إلى العزوف عن الحديث في أمور السياسة الداخلية مقابل الإطناب في الحديث عن المكاسب والانجازات الحكومية. إنّ الضغوط على الصحافة والصحافيين أثقلت كاهل المبدعين منهم وأكثرت عليهم حتى تكوين نقابة تدافع عن حقوقهم الأساسية.

بهذه السياسة اهتزّت النفوس وضعفت الهمم وشاع الفساد وانتشرت الجريمة وغاب الأمن حيث أصبح المواطن يمشي متوجسا خيفة أن يقع له ما وقع لجاره أو صديقه أو أحد أقاربه وكان الحذر يلازمه أينما ذهب. ولعله بإمكاني أن أذكر حادثة فريدة وطريفة وقعت في المترو الخفيف الرابط بين تونس وبن عروس وتحديدا بين محطتي الوردية السادسة والكبارية حيث عمد شاب في مقتبل العمر إلى استعمال سكين لإرعاب نسوة ذاهبات إلى السوق وسلبهن مصروف التسوق، غير أنه فوجئ بكل واحدة منهن تخرج سكينا، وتهدده إن هو اقترب منهن أو حاول إيذاءهن فسوف يلقي حتفه، فما كان من الفتى إلا أن تراجع ونزل في أول محطة.

إن تسلح النسوة الغاديات إلى السوق بسكاكين لحماية أنفسهن من أذى الشاب المنحرف إنّما يدلّ فعلا على مدى افتقار التونسيين الشعور بالأمن. وإذا كان الإعلام الرسمي يتشدّق بمقولات زائفة من نوع "تونس بلد الأمن والأمان" فلا يخفى على أحد أنّ الحقيقة تُخالف ذلك. فأعوان الأمن على كثرتهم لم يستطيعوا توفير الاطمئنان للمواطن وهو ما كان له آثار نفسية ساهمت بشدة في تراجع الأوضاع وضعف الفاعلية والقدرة على العطاء.

إن تفشّي السرقة تستحقّ منّا لفت انتباه الحاكم والمحكوم معا كدعوة جديّة لوقفة تأملية حقيقية أمام هذه الظاهرة وخطورتها على سلامة الجسم الاجتماعي. وخوض معركة تحرير الإعلام حتى يلعب دوره في عملية التوعية والإرشاد واحتواء هذه الآفة وإشراك كامل فئات المجتمع المدني في بناء حاضره وتشييد مستقبله.

غياب الديمقراطية حاضنة للجريمة

غياب الديمقراطية يمثل حاضنة للعديد من الظواهر الاجتماعية الخطيرة ومن أبرزها ظاهرة السرقة والجريمة التي ساعد على ارتفاعها عجز الدولة عن إيجاد فرص عمل للشباب العاطل الذي اضطرّ الكثير منه إلى أن يمتهن السرقة ليستطيع توفير حاجياته الأساسية فسخّر كامل تفكيره في صياغة الكيفية والطريقة التي تتمّ بها عمليات النّهب والسلب في ظلّ ما تفتقر إليه هذه الشريحة من تراجع فكري وثقافي وقيمي انعكس سلبا على سلوكهم القولي والفعلي وهي نتيجة منطقية لسياسة قمعية دأبت دائما على كبت الحريات حتى أصبح المواطن يخاف التفكير الجدّي المنتج والمخالف ولم يعد يهتمّ بقضايا البلاد وتحدياتها المستقبلية فغاب الضمير وخملت العقول لإيجاد الحلول العملية والجدية لمختلف مشاغلنا وبالتالي لإرساء أسس سليمة تمكنّنا من تحقيق الراحة والاطمئنان لجميع المواطنين.

المصدر: نداء الحرية