يمر إنسان الشعوب المقهورة بمجموعة من العقد المرضية التي تدفعه نحو الإحساس بالضعف والدونية والقدرية الاستسلامية. وقد أورد الدكتور مصطفى حجازي أن أهم هذه العقد هي: عقدة النقص، وعقدة العار، واضطراب الديمومة وما يصاحبه من سوداوية التجربة الوجودية. وفي مرحلة وسطية هي مرحلة الاضطهاد، يراوح الإنسان المقهور بين التبعية والرضوخ للمتسلط من جهة، وبين الرفض والعدوانية الفاترة تجاهه من جهة أخرى. ولذلك، فقد يشارك في تظاهرات أو تخريب محدود، لكنه لا ينفصل عن الواقع الذي يفرضه عليه المتسلط، فيبقى أسير كينونة ونظام هذا الواقع الحياتي. المرحلة الأخيرة في الحتمية التاريخية والنفسية هي إيمان الشعب المقهور بالعنف المسلح والتضحية كطريق وحيد للخلاص والحرية، وبضرورة التماهي مع قادة التغيير العنيف في نشاط ثوري منظم. وبذلك يمكن القول أن الظلم يغرس في وجدان الشعوب المقهورة بذور التمرد والكفاح، وتنمو الثورة في أحشاء الظلم السياسي والطبقي بصمت وبطء، ولكن بشكل أكيد وحتمي.

 

فعقدة النقص هي انعكاس لشعور الإنسان المقهور بالدونية، وضعف ثقته بقدرته على الفعل الإيجابي، وعجزه الدائم تجاه ما يفرضه عليه المستعمر والسلطة الحاكمة من واقع سياسي مستبد ونظام اقتصادي جائر وتحديات حياتية تسلبه إنسانيته. فالإنسان المقهور يفتقر إلى القوة اللازمة للمواجهة، ويغلب عليه اتخاذ مواقف انسحابية جبانة طلباً للسلامة واتقاءً لسوء العاقبة. وكما يفقد الثقة بنفسه، يفقد الثقة بالجماهير التي ينتمي إليها، ويعتقد أن المستعمر والمتسلط هما القوة التي لا يمكن هزيمتها، ويجب بالتالي الرضوخ لها في ذل وخنوع. ويعارض المقهور في هذه المرحلة إمكانية تعبئة الجماهير أو الكفاح المسلّح أو الديمقراطية الفعلية، لأنها مشاريع تعتمد في نجاحها على عنفوان الجماهير المعارضة لنظام يرى فيه المقهور "إلهه الفاني". وبذلك فعقدة النقص تصيب صاحبها بتبلد الوجدان وانحسار الذات ورفض التغيير.

 

عقدة العار بدورها مرتبطة بعقدة النقص؛ فالمقهور يعيش في أرق دائم من افتضاح أمره وظهور عجزه وبؤسه الوجودي، فيحاول دائماً ستر عورته النفسية بمظاهر القوة الخادعة كالمنازل الكبيرة والمركبات الفارهة والشهادات العلمية المرموقة والتباهي بالأنساب، والزواج من قرين جميل المظهر يتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة، والتحدث باللغات الأجنبية، والتباهي بمرافقة الأجانب الذين يشعر بتفوقهم على بني جنسه. ومع هذا كله لا يفارقه شعوره بالعار والتبخيس. فيسعى المقهور إلى إسقاط عاره على من هم دونه من الضعفاء، فيمتهن زوجته ويقمع أبناءه ويهين عامله أو يعذب مخدومه، حتى يعوض ذلّه ويضخم إحساسه بنشوة القوة والسيطرة. لكن المقهور لا يفارقه عاره وإحساسه بارتهان مصيره للسلطة المستبدة وسوق العمل والمرض المباغت والجريمة، فأي من ذلك يهدد مكانته الهشة وكرامته الزائفة، وقد يعرضه إلى نزف نرجسي يصيبه بعار لا يبرأ منه.

 

اضطراب الديمومة يتجسد في فشل المقهور في السيطرة على قوى المكان والزمان، وبالتالي عجزه الدائم عن التحكم بمصيره؛ فهو لا يسيطر على ظروف عمله، ولا يضمن قدرته على تأمين قوت يومه وقوت أسرته، فقد يقعده المرض، وقد تتسبب الأزمات الاقتصادية في استغناء أصحاب العمل عن عمالته، وقد يعجز عن سداد إيجار بيته أو أقساط دراسة أبنائه، وقد تستنزف عملية جراحية طارئة لأحد أطفاله كل مدخراته فيقع وأهله ضحية للعوز والحاجة. وأمام طول المعاناة والقهر وضعف الفرص والإشباعات، يفقد المقهور الثقة بنفسه وبإمكاناته، فيهرب من واقعه إلى الخيال علّه ينعم بحياة لا قلق فيها، فيتعاطى الممنوعات أو يدمن العلاقات المحرمة أو حلقات الذكر أو جلسات الدجالين. وقد يهرب في الاتجاه المعاكس فيتحدى واقعه بالعنف والجريمة، أو ينتحر لإسدال الستار على فشل تجربته الوجودية. وهكذا فلا سبيل  في حياة المقهور إلى وقف نزيف الألم الناتج عن تعاظم هزائم الماضي ومعاناة الحاضر وتبدد آفاق المستقبل في فكره المتعب. 

 

ولأن الإنسان لا يمكنه احتمال التبخيس الذاتي بشكل دائم، ولأن النفس البشرية تواقة إلى الكرامة والحرية والشعور بتقدير الذات وتقدير الآخرين، فإن إحساساً عميقاً بالذنب يكبر داخل المقهور لما أصاب ذاته من تبخيس. ويُوَلِّد الألم الناتج عن هذا الإحساس مشاعر عدوانية توجّه إلى الذات المقهورة، وتتعاظم هذه المشاعر بمقدار تراكمها داخل وجدانه، حتى تصل إلى فائض لا بد من تصريفه حتى لا يرتد إلى الذات فيحطمها. وهنا يُسقط المقهور عدوانه على الآخرين ليتخلص من تقصيره الوجودي. وقد لا يميز المقهور في البداية  هدفه الأسمى، فيختار عدداً من الظالمين الأقل قوة وأضعف منعة، مثل صاحب العمل أو المؤجر المستبد أو المعلم أو الجار المشاكس أو أي غريم آخر، فيصب عليهم نار غضبه الأزلي ويسقط عليهم عاره. وكلما تخلص المقهور من شيء من القهر المتراكم داخله زاد تقديره لذاته، وزادت ثقته بقدرته على المبادأة والتغيير، ونمى "وعيه الاضطهادي" فأخذ يدير دفة عدوانه نحو رموز الاستبداد الاستعماري السلطوي وأعوانه، وقد أدرك أنه مستضعف لكنه لم يعد ضعيفاً خائراً كما كان، وقد آن الأوان ليتحول من حالة الدفاع عن النفس في المواقف الحياتية، إلى حالة إشعال معركة شاملة تقرر مصيره الوجودي.

 

بعد شيوع العلاقات الاضطهادية يترسخ إحساس المقهور بضرورة العنف المنظم، فالاضطهاد مرهق كنمط وجودي، والمرحلة الاضطهادية أضنت المقهور وجعلته في حالة استنفار دائم. لذلك تنشأ الحاجة لمحاربة منبع الظلم الوجودي، وتترسخ قناعة جماعية بأن العنف المسلح هو السبيل الوحيد لخلاص الشعب المقهور. وباتحاد الفهم لطبيعة العدو بين جموع المقهورين، تولد من رحم الاضطهاد الجماعي حالة من التضامن الاجتماعي والالتقاء الجماهيري على وحدة المعركة الوجودية، فيلقي المقهورون بالخوف والمواقف التأملية اليائسة إلى هوة الجحيم ويختارون المواجهة العسكرية المنظمة والمباشرة لتأكيد حقهم في الوجود. وينتظر المقهورون الحدث التاريخي الملهم، مثل عملية الطائرة الشراعية التي نفذها فدائي ينتمي إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهروب أسرى تنظيم الجهاد الإسلامي من أحد السجون الصهيونية. فهاتان الحادثتان أشعلتا فتيل الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر سنة 1987.

 

وبداية لا يتجه كل المقهورين إلى الكفاح المسلح معاً، وإنما تتماهى جماهير المقهورين في قلة من الصفوة الشعبية المقاتلة، التي تشكل طليعة الثوّار. وهم فئة من الانتلجنستيا المثقفة المسلحة بأيديولوجيا راديكالية وحساسية عالية تجاه الظلم، والمدربة عسكرياً على حرب العصابات. ومن خلال عملية التماهي تكتسب الجماهير شيئاً من الثقة بالنفس، وتبرز لديها الحاجة إلى تجاوز عجزها والمساهمة في صناعة النصر. عندها ينتفض الشعب المقهور في ثورة شعبية عارمة للإطاحة بكل رموز القهر، ويدمر العنف الشعبي مركّبات النقص والعار والقلق الوجودي والتنكر للذات والجماعة، ويعلي بدلاً منها قيم القوة والاستعلاء والمصالحة مع الذات والجماعة. حينها يصبح تحدي الموت وقهره بطولة، فيتدافع الاستشهاديون للتضحية غير عابئين بفناء أجسادهم، لأن ما يخشونه هو فقط الموت المعنوي أو الوجودي الذي يعنيه الرضوخ والاستسلام لوصاية المحتل. وفي عنفوان الثورة يتحول حب المقهور للحياة إلى حبه للحرية، ويتحول السلاح إلى القيمة الحقيقية الوحيدة القادرة على تحرير ذاته من القهر.

 

وهكذا يغير المقهورون قناعاتهم ومواقفهم الحياتية تبعاً لتطور وعيهم القهري. وتتفاوت ردود فعلهم في كل مرحلة باختلاف قواهم النزوية وتركيبهم النفسي؛ وتتفاوت مدة وعنف كل مرحلة من مراحل الانبعاث بتفاوت بنية المجتمعات المقهورة وإرثها الثقافي من جهة، وقوة المستعمر وأدواته السلطوية من جهة أخرى. وبعد التحرير يدرك المقهور، وقد استنهض قوته، الحكمة التاريخية الدامية: وهي أن المستعمر والمتسلط يفرضان حكمهما الاستبدادي، ليس لأن الشعوب ضعيفة أو مجبولة على الخوف، ولكن لنجاحهما في إقناع الشعوب بهذه المغالطات؛ من خلال القوة والبطش والدعاية الإعلامية الكاذبة وخيانة المحكومين الذين يشكلون سوط العدو ومقصلته، ومن خلال عزل المقهورين عن نخبهم المقاومة. وفي الميدان تتهاوى أكاذيب المستبد وألقابه التنويرية كادعائه الدفاع عن الديمقراطية والحرية، ونعته أعمال الكفاح المسلح بالإرهاب والظلامية، ويعلي المقهور ثقافة حقوق الإنسان ويعلم أبناءه دروساً في الحرية علمته أياها الثورة.

 

ولكن ماذا إذا توقف الكفاح المسلح عند ردود الفعل التعويضية أو تماهت القيادة الثورية بالمتسلط؟ وماذا إذا لم تتماهى القاعدة الشعبية المقهورة بالنخبة الثورية وتركتها منفردة في مواقع البطولة؟ آمل أن أعالج ذلك في مقالات لاحقة بإذن الله