الآن، في العام الواحد بعد الستين للنكبة، نكتشف أكثر من أي وقت مضى أن مأزقنا الكبير صار عربيا بأكثر منه فلسطينيا، وأن الموقف العربي أصبح الحلقة الأضعف والعنصر الأخطر في تصفية القضية.


(1)
تلك نكبة أخرى لها تاريخ، عايش السيد أحمد الشقيري السياسي الفلسطيني الذي كان أول رئيس لمنظمة التحرير بعض وقائعها في ثلاثينيات القرن الماضي، وسجلها في مذكراته التي صدرت في بيروت عام 69 تحت عنوان: أربعون عاما في الحياة العربية والدولية.

اذ تحدث عن أجواء الثورة التي اجتاحت الأراضي الفلسطينية عامي 35 و36، حين بدأت أفواج المهاجرين اليهود تتدفق تحت سمع وبصر سلطة الانتداب البريطاني، وحين أدرك الفلسطينيون خطورة هذه الهجرة التي اقترنت بوصول شحنات للسلاح كان المستوطنون يخفونها في أماكن عدة. وقتذاك أعلنوا الاضراب العام للتعبير عن الاحتجاج والغضب. فسارعت وزارة المستعمرات البريطانية الى اصدار بيان أعلنت فيه أنها تدرس بشكل جاد اجراء تغييرات دستورية لمعالجة مشكلتي الهجرة وبيع أراضي الفلسطينيين، لكنها نكثت بوعدها تحت وطأة الضغوط الصهيونية. وهو ما أجج المشاعر الفلسطينية ودفع القوى الوطنية في 15 أبريل عام 1936 الى اعلان اضراب مفتوح تطور الى اشتباك بالسلاح بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود.  

وشكلت القوى الوطنية قيادة عليا برئاسة الحاج أمين الحسيني أعلنت استمرار الاضراب حتى تغير الحكومة البريطانية موقفها من مسألتي هجرة اليهود وبيع الأراضي. ورغم الاجراءات القمعية التي لجأت اليها سلطة الانتداب، فان المقاومة الفلسطينية اتسع نطاقها، حتى استقطبت أعدادا من المجاهدين انضموا اليها من سورية والعراق. وبعد ثلاثة أشهر من الشلل الذي أصاب الحياة في فلسطين، والاشتباكات التي أدت الى سقوط عشرات القتلى على الجانبين، أعلنت الحكومة البريطانية عن عزمها تأليف لجنة ملكية للتحقيق في أسباب الثورة والنظر في مطالب العرب وظلاماتهم. لكن الفلسطينيين الذين خبروا أمثال تلك اللجان رفضوا انهاء الاضراب قبل أن تستجيب سلطة الانتداب لمطالبهم.

حينذاك لجأت بريطانيا الى باب آخر لفض الاضراب، وكان الضغط العربي سبيلها الى ذلك. وأوكلت الأمر الى الأمير «الملك» عبدالله الذي قدم من شرق الأردن والى نوري السعيد رئيس وزراء العراق، اللذين تتابع وصولهما الى فلسطين لهذا الغرض، واجتمعا مع القيادات الوطنية التي كان بعضها رهن الاعتقال. ولكن مهمتهما لم تنجح بسبب تمسك الفلسطينيين بموقفهم.

لم ييأس البريطانيون وواصلوا ضغوطهم على دول الجوار العربية كي تستخدم نفوذها لاجهاض الثورة التي كانت تزداد اشتعالا يوما بعد يوم. ومن ثم تجددت المساعي التي انضمت فيها الرياض الى بغداد وعمان، وأشيع وقتذاك أن بريطانيا قدمت وعودا قاطعة للاستجابة التدريجية للمطالب الفلسطينية، وأن الهدوء مطلوب لكي تقوم اللجنة الملكية الموعودة بمهمتها. وهو ما ضعفت أمامه اللجنة العربية العليا، التي أصدرت بيانا في 11 أكتوبر من ذلك العام دعا الى انهاء الاضراب استجابة لرسالة وجهت الى رئيسها الحاج أمين الحسيني من أربعة من القادة العرب هم: الملك عبدالعزيز «السعودية» والملك غازي «العراق» والامام يحيى «اليمن» والأمير عبدالله «الأردن». وذكر البيان أن أولئك القادة دعوا الى اتخاذ تلك الخطوة حقنا للدماء «واعتمادا على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل».

في اليوم التالي مباشرة «12 أكتوبر» توقف اعصار الغضب، وبدأ المجاهدون العرب في العودة الى بلادهم. ومن ثم نجحت سلطة الانتداب في اجهاض الثورة. ورحب خطاب العرش البريطاني في وقت لاحق بهذا التطور. وأعلن أن اللجنة الملكية ستتوجه الى فلسطين خلال أيام كي تبحث عن «تسوية عادلة ودائمة» لمختلف المشكلات الصعبة التي تعتمل في فلسطين. كان ذلك في عام 1936، ومازلنا حتى هذه اللحظة ننتظر تلك «التسوية العادلة والدائمة»، التي لم يخل منها بيان سياسي صدر بخصوص الأزمة طوال السبعين عاما الماضية.

(2)
اذا شئنا أن نكون أكثر دقة فربما جاز لنا أن نقول ان الدور العربي لم يكن سلبيا دائما في مراحل تطور القضية الفلسطينية، لكنه ظل مؤثرا وحاسما في حالات المد والجزر التي مرت بها القضية. اذ ظلت تلك الحالات دائما صدى وانعكاسا للموقف العربي في نهوضه وتراجعه. وهذا السياق العربي يتعين الانتباه اليه في تقييم محطات الصراع، لأن كثيرين منا أصبحوا يقيِّمون المشهد الفلسطيني بمعزل عن السياق المشار اليه، فنحن لا نستطيع مثلا أن نفصل بين مرحلة المد القومي التي شهدتها مصر والأمة العربية في العهد الناصري وبين الصعود المشهود للمقاومة الفلسطينية في تلك الفترة. حيث لا يجادل أحد في أن ذلك المد كان بمثابة الرافعة السياسية الأساسية للمقاومة. كذلك فاننا لا نستطيع أن نفصل بين منعطف ــ الهلكة ــ الذي دخلت فيه القضية الفلسطينية منذ توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993 وبين الأجواء السلبية التي خيمت على العالم العربي في أعقاب توقيع اتفاقية كامب ديفيد في عام 1979.  

ذلك أنه لولا الشرخ العميق الذي أحدثته الاتفاقية الأخيرة ما كان للانكسار الذي أوقعه اتفاق أوسلو أن يحدث. وللعلم فلست صاحب مصطلح «الهلكة» ولكنه منسوب الى الدكتور على الجرباوي أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت بالضفة الغربية، الذي يتحدث في كتاباته عن ثلاثة مفارق مفصلية في مسار الصراع العربي ــ الاسرائيلي خلال القرن الأخير. 

 الأول هو «النكبة» عام 1948، التي خسر فيها العرب أربعة أخماس فلسطين لتتحول الى اسرائيل، وتم خلالها طرد ثلثي الفلسطينيين من بلادهم.

الثاني هو النكسة عام 1967، التي خسر فيها العرب الخمس الأخير من فلسطين لصالح الاحتلال الاسرائيلي، وأصبح بعدها الفلسطينيون جميعا اما مشردين في شتات الأرض، أو خاضعين للاحتلال الاسرائيلي.

الثالث هو «الهلكة» عام 1993 التي تمت بعد انطلاق احتفالية مدريد عام 1991، وبمقتضاها تم التوقيع على اتفاق مبادئ أوسلو الذي أعطى لاسرائيل الموافقة الفلسطينية الرسمية على شرعية الوجود والتمتع بالأمن دون مقابل، سوى اعترافها بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني ومفاوضا رسميا عنه. ودون اعتراف منها بأنها تحتل أرضهم بعد حرب عام 1967.

(3)
في ذكرى النكبة التي حلت قبل أيام «5/15» صرح بنيامين نتنياهو للتليفزيون الاسرائيلي بأنه بعد المحادثات التي أجراها مع الرئيس مبارك في القاهرة ومع العاهل الأردني الملك عبدالله أدرك أنه لأول مرة في تاريخ الصهيونية حدث اتفاق واسع مع العرب حول الخطر الاستراتيجي الذي يهدد الجميع. [في اشارة الى ايران التي سبق للرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز أن صرح بأنها تمثل خطرا مشتركا يهدد اسرائيل والعرب].

في اليوم ذاته نشرت الصحف العربية أن السفير جيفر فيلتمان القائم بأعمال مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية قال كلاما مشابها في جلسة استماع عقدتها لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. اذ ذكر أن المسؤولين الأمريكيين لاحظوا في لقاءاتهم مع زعماء المنطقة العربية أن تركيزهم الأساسي أصبح منصبا على التعبير عن القلق ازاء سياسة ايران في المنطقة، خلافا لما كان عليه الوضع في السنوات السابقة.

في هذا الاتجاه كتب المعلق الاسرائيلي آري شافيت مقالا بصحيفة هاآرتس «عدد 7 - 5» تحدث فيه عن «الأنباء الجيدة» في العالم السياسي المحيط باسرائيل. وكان الخبر الجيد الأول من وجهة نظره أن التحالف الاستراتيجي بين مصر واسرائيل «لم يكن قويا أبدا كما هو عليه اليوم». وأن النظام المصري أصبح يدرك جيدا أنه اذا تضررت اسرائيل فان مصر ستتعرض للاصابة. واذا تعرضت اسرائيل للاصابة فان ذلك سيؤثر على وضع النظام المصري. في هذا الصدد قال انه لذلك تحركت مصر واسرائيل بشكل متناسق في عملية «الرصاص المصهور» (يقصد العدوان على غزة)، ولذلك ستتحرك مصر واسرائيل بصورة متناسقة أيضا في المعركة السياسية الساعية لكبح ايران والتصدي لها.

الخبر الجيد الثاني في رأي الكاتب تعلق بالأردن والسعودية وأغلبية دول الخليج. اذ ادعى أن تلك الممالك «موجودة على حافة الهاوية»، وقادتها يعرفون أنهم يعيشون فوق بركان، لذلك فان اسرائيل اذا نجحت في أن تلقي لهم جسر الحبال الصحيح، فسوف يغتبطون لأن ذلك سيمكنهم من اجتياز النهر، حيث لا توجد حدود للتعاون الممكن بين عصرنة دبي وأبوظبي وبين عصرية تل أبيب.

في ختام مقاله دعا الكاتب الى تعزيز وتوسيع الأفق المشترك بين العرب المعتدلين وبين اسرائيل، وقال ان على طاولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو «خططا مثيرة للاهتمام في هذا الصدد، تسعى لتغيير وجه الشرق الأوسط».

(4)
قد لا يخلو هذا الكلام من مبالغة، لكنه لا يخلو من صحة أيضا، لأن الفكرة الأساسية فيه معلنة على الملأ ومتداولة بصورة أو أخرى في الأوساط السياسية. وهي التي تنصب على التوافق النسبي الحاصل في الرؤية الاستراتيجية بين اسرائيل ودول «الاعتدال» العربي، التي أصبحت ـ حتى مع اختلاف الدوافع ـ تركز على ما سمي بالخطر الايراني، وتعتبره مقدما وأكثر الحاحا من الملف الفلسطيني. وهذا تحول غير مسبوق ضرب لأول مرة الاجماع العربي حول القضية الفلسطينية، كما أدى الى تراجع أولويتها في سياسات بعض دول المنطقة، الأمر الذي لا ينبغي الاستهانة به، لأنه يعني في حقيقة الأمر استبعاد ملف القضية من أجندة المرحلة واطلاق يد اسرائيل في تعزيز الاستيطان وتهويد القدس، ومن ثم اكمال مخطط تغيير الوقائع على الأرض، بما يقطع الطريق تماما على فكرة الدولة الفلسطينية. وهو ما يعني أيضا ـ للدهشة ـ أن ثمة اصطفافا عربيا الى جانب اسرائيل في مواجهة اسرائيل، على العكس تماما مما هو مرجو ومتوقع، وعلى النقيض تماما من موقف الشارع العربي.

لا يخلو المشهد من مفارقة مُرَّة وصادمة. فالدور العربي الذي كان رافعة سياسية للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي في الخمسينيات والستينيات، يُوظف الآن ليكون رافعة اسناد للاسرائيليين في مواجهة التحدي الايراني لها وفي تصفية القضية الفلسطينية.

هذه الفكرة أثيرت في ندوة حول مستقبل القضية الفلسطينية، عقدها مركز الخليج للدراسات بالشارقة في التاسع من مايو الحالي. ومن الملاحظات المهمة التي أبداها في صددها الباحث الفلسطيني حلمي موسى أن اسرائيل منذ الخمسينيات عملت على مد جسورها مع دول المحيط (خصوصا تركيا وايران واثيوبيا) لكي تواجه دول الطوق وتضغط عليها، وفي المقدمة منها مصر. ولكن التحول الحاصل في الرؤية الاستراتيجية قلَب الوضع تماما. ذلك أن اسرائيل أصبحت أكثر اطمئنانا الى دول الطوق التي باتت جزءا من محور الاعتدال، وأكثر قلقا على دول المحيط. ذلك أن ايران وضعها معروف، وتركيا لم تعد مضمونة كما كانت في الماضي، واثيوبيا هي الوحيدة الباقية، ولا تستطيع وحدها أن تخدم المخطط المرسوم.

ذلك كله لم يكن يخطر على بال أحد، لكنه صار حاصلا الآن على نحو يوحي بأن دخول المنطقة الى المرحلة الاسرائيلية ان لم يكن قد تحقق بالفعل، فهو على الأقل قد بدأ، وأن كلام الصحافي الاسرائيلي عن خطط نتنياهو المثيرة للاهتمام التي تسعى لتغيير وجه الشرق الأوسط ليس محض ادعاء.

ليس ذلك قدرا بطبيعة الحال، لكنه خطر بات يمشي على الأرض. ولأن النظام العربي لم يعد ممكنا التعويل عليه لدرئه، كما رأيت، فلم يعد أمامنا سوى أن نراهن على مقاومة الجماهير العربية والاسلامية، التي باتت تمثل خط الدفاع الأخير عن كرامة الأمة ومستقبلها. وذلك موضوع يحتاج الى بحث مستقل.

*
كوتيشن: الدور العربي الذي كان رافعة سياسية للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي في الخمسينيات والستينيات، يُوظف الآن ليكون رافعة اسناد للاسرائيليين في مواجهة التحدي الايراني لها وفي تصفية القضية الفلسطينية.

صحيفة الوطن الكويتيه– 19 مايو 200