لا يمر اسبوع، تقريبا، بدون ان يصدر تقرير من منظمة انسانية أو حقوقية عالمية اوعراقية يبين فيه، بالشهادات والارقام والاحصائيات، سوء الأوضاع وتدهورها، على كافة الأصعدة، في جميع انحاء العراق المحتل بلا استثناء. فمن تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، المعنية بحقوق الانسان، عن انعدام وجود القضاء العراقي النزيه المعنون انوعية الجهاز القضائي ـ اخفاقات المحكمة الجنائية المركزية العراقيةب الصادر يوم 14 كانون الاول (ديسمبر) 2008، الى تقرير منظمة العفو الدولية المعنون اقوات الأمن فوق القانون في كردستان العراق'، الصادر يوم 14 نيسان (ابريل) 2009، عن التعذيب وسوء اوضاع المعتقلين في سجون ومعتقلات الاقليم، الى تقرير بعثة منظمة الامم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، الصادر يوم 29 نيسان (ابريل) 2009، الذي يشير الى انه وعلى الرغم من تميز فترة الثلاثة شهور التي يغطيها التقرير بالهدوء الأمني، الا ان حال المعتقلين بلا سبب او تهمة او مقاضاة وانتهاكات حقوق الانسان لاتزال سائدة، حسب التقرير.
وفضلا عن هذه التقارير التي حظيت ببعض التغطية الاعلامية، مر تقريران اصدرتهما منظمة الامم المتحدة، في العام الحالي أيضا، مرور الكرام على الرغم من أهميتهما القصوى حيث يعالج التقريران، بالتفصيل، وضع الاطفال العراقيين ومدى ما يتعرضون اليه من حرمان واستغلال وانتهاكات وقتل. والغريب ان التقرير لم يبحث في حالات ومعاناة الاطفال النازحين او المهجرين قسرا مع عوائلهم والذين يشكلون نسبة الثلث من مجموع الخمسة ملايين تقريبا. التقرير الاول ليس خاصا عن العراق بل طرحه سكرتير الامم المتحدة بان كي مون على مجلس الأمن للنقاش، يوم 29 نيسان (ابريل) الحالي، حول تطورات وضع الاطفال في مناطق النزاع والحروب. وقد اعتبر التقرير العراق واحدا من الدول العشرين الاولى في العالم، التي يعاني فيها الاطفال فقدان حقوقهم الاساسية، ساردا بالامثلة والتواريخ، الانتهاكات العديدة في مجالات التعليم والرعاية الصحية وتعرضهم للاستغلال بانواعه والقتل والتشويه نتيجة التفجيرات والقصف والاختطاف والهجوم على المدارس والمستشفيات من قبل قوات الاحتلال وشركات ا الحماية الأمنيةب مثل بلاكووتر. ويشخص التقرير حالات اعتقال الاطفال بتهم أمنية سواء من قبل ما تسمى بالقوات متعددة الجنسيات او الحكومة العراقية حيث يبلغ عدد المعتقلين من الاطفال حتى كانون الاول (ديسمبر) 2008 لدى القوات العراقية 838. ويؤكد التقرير تعرض الاطفال المعتقلين الى الاهانة والتعذيب والاغتصاب. وقد عثرت يونامي اثناء زيارتها لاحد المعتقلات في الفلوجة على 29 طفلا محشورين في زنزانة واحدة. وحسب التقرير هناك 38 طفلا لايزال رهن الاعتقال لدى قوات الاحتلال. ويختتم التقرير حال العراق بالاشارة الى تقرير اليونسكو، في كانون الاول (يناير) 2008، الذي يشير الى حرمان مليوني طفل من الدوام المدرسي بسبب الحالة الامنية. وان هناك 70 مدرسة في منطقة ديالى لوحدها قد تم الاستيلاء عليها من قبل قوات الاحتلال واستخدامها لاغراض عسكرية وأمنية، وان التطرف الديني يؤثر على تعليم الفتيات، خاصة، في جنوب العراق.
ويقودنا ذكر الحالة الامنية الى التقرير الثاني الصادر عن ألامم المتحدة، ايضا، ولكن عن منظمة حماية الطفولة (اليونسيف) هذه المرة، في 17 شباط (فبراير) من العام الحالي، الذي تتناول فيه المنظمة، بالتفصيل، الحالة التعليمية والصحية وما يتعرض له الاطفال جراء الاهمال المستمر والمتزايد في جميع انحاء العراق. وركز التقرير على ثلاثة جوانب بالتحديد. الاول هو انعدام لقاح الحصبة وتزايد الخطر على صحة الاطفال خاصة في النجف والسليمانية واربيل ودهوك وميسان. حيث سجلت ما يزيد على ستة آلاف حالة في 2008 فقط مع احتمال زيادتها الى 800 ألف حالة في الشهور القليلة المقبلة. ثانيا، ان تفاقم اهمال وتهديم البنية التحتية يؤثر بشكل كبير على حياة ورعاية الاطفال. ففي محافظة ديالى مثلا هناك 600 تلميذ يداومون في مدرسة صغيرة تفتقر الى الشروط الصحية كالماء، حيث لا يوجد غير بئر يشرب منه التلاميذ الماء غير الصالح للشرب اساسا، مما يؤدي الى اصابة الاطفال بالامراض المعوية. ولوحظ الحال ذاته في مدرسة خان بني سعد في بعقوبة التي يداوم فيها 410 تلاميذ بلا ماء وبلا مرافق صحية. ثالثا، ان الفاقة هي احد العوامل الرئيسية في حرمان الاطفال من الدوام في المدارس. واذا ما انتقلنا الى اقليم كردستان الذي غالبا ما تصفه الادارة الامريكية وحكومة الحزبين بانه النموذج لما يجب ان يكون عليه العراق مستقبلا، لوجدنا ان المدارس التي زارها فريق البحث في محافظة دهوك كانت في حالة سيئة وغالبا ما تغلق بسبب انعدام الخدمات. وان نسبة عالية من المدارس بلا ماء صالح للشرب وبلا مرافق صحية لذلك غالبا ما يغادر التلاميذ المدرسة خلال الدوام الى بيوتهم للذهاب الى المرافق. وفي محافظة التأميم، لوحظ وجود 900 طفل من الشحاذين في الشوارع. نصفهم من ابناء عوائل النازحين قسرا ومائة منهم من الأيتام. ويعاني الاطفال في مدارس القرى المحيطة بأربيل من الامراض المعوية نتيجة شرب الماء الملوث. وتشير الدلائل الاولية للتحقيق بان سكان القرى انفسهم يعيشون في فقر مدقع وان اجهزة تنقية المياه للمنطقة غير كافية. كما سجلت ثلاث حالات انتحار بين فتيات في سن تحت الثالثة عشرة في مدينة السليمانية خلال اسبوعين في شهر كانون الاول (ديسمبر) 2009. وتعاني ناحية الرضوانية، غرب بغداد، أكثر من غيرها جراء سوء الاحوال الصحية اذ ان 20 بالمئة من الاطفال تحت سن الخامسة يعانون من سوء التغذية المزمن وان 3 بالمئة فقط من البيوت لديها ماء صالح للشرب. اما في قرى محافظة نينوى المشهورة عادة بمياهها وينابيعها فان الماء غير الملوث نادر ومصدر المياه الوحيد في المناطق التي يتواجد فيها 11 ألف طفل هو الشاحنات ذات الخزانات المتنقلة مسافة 100 كيلومتر لجلب المياه النقية مع انعدام الخدمات الصحية. ويتسرب معظم الاطفال من المدارس الابتدائية للعمل ومساعدة ذويهم. ان خلاصة التقارير تؤكد بان القاء اللوم على الظروف الامنية مشجب انكسر لكثرة تعليق التبريرات، ولو كان سوء الاوضاع الامنية هو السبب حقا في تردي الخدمات المزري واهمال الاطفال الى حد القتل، فما الذي نقوله عن اقليم كردستان؟ لقد اثبتت سنوات الاحتلال بان حكومات الاحتلال المتعاقبة لا تهتم بغير سياسييها وحماية مصالحهم الشخصية الضيقة وان هموم وحقوق المواطنين العراقيين ابعد ما تكون عن اولوياتهم، كما اثبت واقع القبول بمختلف الجرائم المعروفة بدون ان يحقق فيها احد. وان السبب الرئيسي لانعدام الخدمات هو الفساد المالي والاداري. فالفساد مرض ينخر نخرا في كل وزارة ودائرة حكومية ويهدد بانتقال العدوى الى كل منظمات المجتمع المدني. ان الفساد المالي الذي بات يرفرف كالراية على جبال كردستان ويمتد عميقا في تربة سهولها هو المشكلة التي يعاني منها المواطن في الاقليم وليس كما يدعي الساسة قلة الامان والارهاب. ان التخويف بالارهاب هو الانتاج الاكثر ازدهارا بعد الفساد.
لقد خسرنا منذ غزو بلادنا في عام 2003 وحتى الآن، فضلا عن مئات الآلاف من ضحايا القتل المباشر، جيلين من الاطفال كضحايا للجهل والتخلف العقلي وسوء التغذية والتقزم والتحطم النفسي والعائلي، وهذه جريمة كبيرة بكل المقاييس الانسانية والاخلاقية والقانونية، وهي صورة مرعبة لما سيكون عليه مستقبل العراق استنادا الى ان اطفال اليوم هم مستقبل الوطن. ان مسؤولية هذه الجريمة المركبة تقع بالدرجة الاولى على عاتق المستعمر الذي لامكان له في بلد يتمتع ابناؤه بسلامة العقل والبدن، وتقع المسؤولية بالدرجة الثانية على سياسيي الاحتلال وخدم المستعمر الذين أعمتهم نشوة الفوز باللحظة وروح الانتقام عن رؤية الخراب بعيد المدى الذي ساهموا في تشييده. ولن يتم أي تحسن فعلي، في العراق، على كل المستويات، ما لم تتم معالجة جذور المرض. ولعل في توصية الامين العام للامم المتحدة في تقريره عن الاطفال في مناطق النزاع والحروب الداعية الى مساءلة وعقاب مرتكبي الجرائم بحق الاطفال من حكومات ومسؤولين لتحقيق العدالة من جهة ولردع كل من تسول له نفسه ارتكاب جرائم مماثلة من جهة اخرى، خير تنبيه للمنغمرين في قتل مستقبل وطننا وتصفية عقوله.
القدس العربي : 02/05/2009