في باب " توافق الآراء " حول الشأن العام المغربي

نحو رؤية تفعيلية للمفهوم

 

                                                                   المصطفى صولـــــيح   El Mostafa Soulaih 

 

كما هو حال فرنسا ، و إلى حدود منتصف السبعينيات ، و دون حاجة إلى إبداء الدهشة ، فإن مفهوم " توافق الآراء " ، كمقابل من جهة ، للعبارة اللاتينية consensus  المتميزة في مرجعيتها اللاهوتية ، الواصفة خلال القرن السادس عشر لمختلف مشاريع التسويات و الاتفاقات بين الفرقاء البروتستانت ، عن عبارتي الموافقة assensus و التفويض licentia  ، و كدلالة اصطلاحية حديثة تعزا من جهة ثانية إلى المعنى الفسيولوجي الإغريقي الأصل ، الذي يحيل على الانسجام بين أعضاء الجسم و مكوناته ، و قريبة من جهة ثالثة من التوظيف في الفيزياء الميكانيكية ، الذي يدل على التماسك عن طريق التمييز أو التشتت ، ، ،  لم يقتحم قاموس العبارات المتداولة بين أوساط النخب السياسية ، تجاه الشأن العام الداخلي ، في المغرب إلا مع منتصف تسعينيات هذا القرن .

و قد بلغت شدة هذا الاقتحام حد أن هناك من يعتقد ، بله أصبح يؤكد ، بعد ما أطلق عليه نعت " الصدمة " إزاء النتائج التي تمخضت عنها مختلف استحقاقات سنة 1997 ، بأن إجراء انتخابات سابقة لأوانها ، لتكون الحصيلة في النهاية مجرد إعادة إنتاج نفس الخريطة السياسية و تكريسها ، ما كان ليستحق كل تلك الجهود         و العمليات و اللقاءات و الإجراءات و النفقات ، لولا وجود نية تستهدف تطويع و تكييف منهجية و آليات الانشغال بالشأن العام ، وفق خطاطة جاهزة بشكل مسبق ، تجعل بنية العلاقات السياسية الداخلية تبدو و كأنها قد اتجهت تلقائيا نحو التمفصل حول مفاهيم كالتوافق و التراضي و الإجماع ، و كالمرشح أو المنتخب المشترك، و كالتناوب السياسي و التناوب التوافقي و التناوب الديمقراطي ، و كاليسار و الوسط و اليمين ،          و كالأزمة السياسية ، و غيرها من المفردات / المؤشرات التي افتقدت إليها استحقاقات 1993 ـ 1992 ،              و ذلك  لتكون بالإضافة إلى أهميتها التحديثية و العقلانية ، بمثابة رائز آخر في مسار امتحان الثقة الذي و إن تم تدشينه انطلاقا من سنة 1975 ، فإن خطواته الإيجابية في الظاهر ، لكن المنطوية على قدر كبير من الحذر المتبادل بين الأطراف المعنية ، و كذا على قدر أكبر من العناد و المزاجية الظرفية و استنزاف الوقت و ربحه ، المعبر عنه من قبل أهم أقطاب السلطة ، بناء على تيمة " الهاجس الأمني " التي يلوح بها تيارها المحافظ كلما نضجت شروط الانتقال الديمقراطي في البلاد ، ضدا على إستراتيجية تيارها المتنور ، في هذا الصدد ،          و ذلك في مقابل انتظارية قطب المعارضة ، و ردود فعله المبهمة تارة و الملتوية أحيانا ، تجاه مبادرات أحادية المصدر دائما ، و تشبه في صدورها نظام التساقطات المطرية في البلاد ، لم تعرف هذه الخطوات من حيث السرعة و الاتساع مثيل ما شاهدته منذ مطلع التسعينيات ، و خاصة مع انطلاق مسلسل تبادل " المذكرات " في شان تعديل الدستور ، ثم و على الأخص بعد تصويت أهم مكونات " الكتلة الديمقراطية " ، و في مقدمتها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية  ، و لأول مرة لصالح الدستور في استفتاء 1996 ، مما اعتبر في حينه بمثابة " إشارة قوية " .

غير أنه ، و على خلاف النقاش العميق الذي دار في فرنسا باعتبارها مرجعية استئناسية في هذا الباب ، و ما شاهدته إسبانيا  و بعض من بلدان إفريقيا و أوروبا الشرقية بالنظر إلى خاصية الانتقال الديمقراطي و تزامنه ، و لو على المستوى النظري ، مع التوجه المغربي ، و حيث شغل مفهوم " توافق الآراء " الموقع المركزي ، تنظيرا و حفرا و استدماجا ، ضمن باقي المفاهيم الأخرى ، فإن الأدبيات السياسية الوطنية ، سواء في صيغتها الكتابية أو الخطابية ، إنما أسهبت في التعامل مع ذلك الباقي من المفاهيم و استثماره إلى أقصى حدود                " البوليميك " ، فيما اقتصر تعاطيها مع مفهوم " توافق الآراء " على مجرد تقديمه كبديل لفظي ، فقط ،              و دون تمييز فيه بين كنهه و إجرائيته عن مفهوم الإجماع ، و ذلك في أحسن حالات الاستعمال .

و واقع الحال أن مفهوما كهذا ، يكتنفه من الغموض منذ البداية ، بقدر تباين مرجعياته الكنسية و الطبية              و الفيزيائية ، و توظيفه في علم الاجتماع قبل أن ينتقل إلى حقل السياسة ، و بقدر تعدد استعمالاته ، بحسب اختلاف الثقافات و اللغات ، و خاصة داخل اللغة العربية ، لم يزده أسلوب استخدامه بخصوص الشأن العام الداخلي المغربي إلا لبسا ، و لم يسمح لردود الفعل تجاهه ، و التي هي من قبيل : " من قبل من ؟ " و " مع من ؟ " ، إلا لتكون تعبيرا عن الحذر المشوب إزاءه بكثير من الازدراء .

أما كنه " توافق الآراء " فباعتماد الأمم المتحدة في سنة 1964 لأسلوب " عدم الالتجاء لا إلى التصويت و لا إلى الاعتراض ، بل إلى الاتفاق الضمني " الذي يسمح بتبني قرارات " يمكن قبولها بدون معارضة " ٭ ، تكون المحافل الدولية هي أول الجهات التي أدخلت المفهوم ، بمعنى البحث عن قاسم مشترك بين الفرقاء              و الأطراف ذات الاتجاهات المتباينة ، إلى الحقل السياسي ، بدءا بالعلاقات الدولية ، حذوا منها إلى درء جملة الصعوبات الراجعة إلى تضارب الآراء و المصالح بخصوص أهم القضايا المطروحة ، و التي غالبا ما كان الالتجاء إلى مسطرة التصويت بصددها ، لا يؤدي إلا إلى إنتاج قرارات تتوزع مواقف الدول المعنية حولها ، إلى مؤيدة و أخرى معارضة ، و غيرها متحفظة أو ممتنعة عن التصويت ، مما يجعل تلك القرارات تفتقد في النهاية إلى الكثير من مصداقيتها و إلزاميتها ، و يجعل السلام العالمي ، بالتالي مجردا من ضماناته ، و يبقي مصيره مرهونا بالصدفة .

و أما إجرائياته ، أي سبل الوصول إلى توافق الآراء ، فظلت تختلف باختلاف النوايا تجاه مصدر و نوعية القرارات المستهدفة و إزاء مكونات و اتجاهات المنظومة الدولية ، العالمية ، أو الجهوية ، أو القطرية ، المعنية بها ، فكلما كانت درجة التأييد السابقة لاتخاذ الموقف تجاه القرار مرتفعة ، و هو أمر نادر ، كلما أمكن اعتماده دون تسجيل اعتراضات مؤثرة ، غير أنه بالنسبة لمعظم الحالات ، حيث بدل التأييد العام المسبق تكون السيادة للخلافات ، غالبا ما تصبح الحاجة أمس إلى تكوين فريق و وسطاء لتيسير إجراء مفاوضات طويلة            و معقدة و تأخذ بعين الاعتبار آراء جميع الدول المعنية بغض النظر عن تصنيفها إلى كبيرة أو متوسطة أو صغيرة ، من أجل تقريب وجهات النظر حول نقط التقاء مشتركة تمكن في النهاية من اعتماد القرار المطروح بتوافق الآراء .

و في هذا الصدد ، فقد شكلت هذه الصيغة العميقة لمفهوم التوافق ، و على المستوى القطري ، جوهر الروح الخفية لمسيرة إسبانيا نحو تسريع بناء و ترسيخ أسس نظامها الديمقراطي الحديث ، و كذا نحو تربية مواطنيها ، و في وقت وجيز ، على المبادرات الطوعية و الحرة ، إلى القيام بحملات التحصين لقيمه بواسطة مختلف أساليب التعبير الحضاري ، و في مقدمتها أسلوب التظاهر الجماهيري ، السلمي و الشامل ، و الذي يختزل موقف أمة بأجمعها في عبارة : " كفى ! ! "  ضدا على اللاتسامح و مظاهرها المتمثلة في إقصاء الرأي الآخر و التصفية الجسدية لصاحبه أو لأحد رموزه ، و في عدم إقرار حق هذا الآخر في المساواة في التعبير ، بكل ما يملك من الحجاج المنطقي و العقلي ، على اختلافه ، و في عدم مبادلته كل الاحترام اللائق به ، إذ ما أن توفي الجنرال فرانسيسكو فرانكو و تسلم الأمير خوان كارلوس دي بوربون رئاسة الدولة متخذا ، مع مطلع 1976 ، لقب ملك في ظل نفس النظام السياسي المركزي الاستبدادي الذي ساد منذ 1939 ، و في ظل أزمة اجتماعية و اقتصادية أخذت تتجه نحو التفاقم ابتداء من سنة 1973 ، مترافقة مع ازدياد حدة العنف الدموي في الأقاليم الطامحة إلى الحكم الذاتي ، حتى وجدت مختلف القوى السياسية نفسها أمام مأزق الاختيار بين " الإصلاح و القطيعة " ، أي الاختيار بين موقف القطيعة الجذرية مع نظام الحكم المطلق و تنظيماته السياسية و بناه الاقتصادية و الاجتماعية ، و الموقف الإصلاحي الذي يؤكد على أهمية تفعيل الحياة العامة      و تطويرها في اتجاه ديمقراطية تعدد الأحزاب ، و لكن عن طريق استثمار نفس الطرق و الإجراءات التي يقرها الإطار القانوني السائد .

و قد أصبح الآن معروفا ، و بعد النجاحات التي حققتها التجربة الديمقراطية الإسبانية في تجاوز العقبات التي ظلت تصادفها بين الحين و الآخر ، أن الفضل في التغلب على ذلك المأزق إنما يعزا إلى تبني فرقاء العمل السياسي ، سواء داخل التيارات المحافظة أو داخل و بين الاتجاهات التقدمية ، لأسلوب توافق الآراء ، كما يعزا إلى المهارة التي تم بها إعمال آليات هذا الأسلوب على المستوى العمودي داخل مكونات كل من القطبين ، و على المستوى الأفقي بين تيارات كل قطب ، من جهة ، و بين اتجاهات القطب الآخر ، من جهة ثانية ، حيث ساهم موقف الملك المتوازن و الإيجابي ، في تتويج هذه الحركية بالتلاقي الشفاف و الهادئ لقطبي " المجلس الديمقراطي " الذي يضم أحزابا و تنظيمات شملت شخصيات ليبرالية و شخصيات اشتراكية مستقلة و أخرى أوروشيوعية و غيرها قيادية في " اللجان العمالية " ، و " برنامج التجمع الديمقراطي " الذي تألفت قيادته من مسيحيين ديمقراطيين و اشتراكيين ديمقراطيين ، و انضمت إليه عديد من التنظيمات الماركسية اللينينية          و ممثلون عن " الاتحاد العام للعمال " ، و ذلك حول اختيار ثالث ، من سماته أنه حينما ضمن حفاظ الجميع على خصوصيات تصوراته النظرية ، مع التشطيب على كل التطلعات المتطرفة التي قد تكون تخللت تلك التصورات إثر تصدع البلاد إلى إسبانيا المنهزمة و إسبانيا المنتصرة في الحرب الأهلية ، فإنه أحدث نوعا من المزج بين اختياري القطيعة و الإصلاح ، كانت نتيجته ، إضافة إلى تحقيق المصالحة الوطنية ، التدرج الحثيث الذي شاهده الشأن العام الإسباني ، على مدى الربع الأخير من القرن العشرين ، نحو " إحلال نظم ديمقراطية لا مركزية ، و استقلالية ، محل نظم استبدادية أحادية و مركزية " ، و ذلك بدون العنف الثوري الذي واصل هو بدوره ، و على أيدي مقاتلي إيتا ، حصد ما جاوز في مجموعه 800 روح إلى الآن ، بينما واصل الشعب الإسباني من جانبه أيضا التعبير الحضاري عن تمسك المجتمعين السياسي و المدني بمبادئ الحوار و التفاهم المبنية على الحق في الاختلاف و في المساواة و الاحترام المتبادل بخصوصه ، و عن شجب الجميع لمختلف مظاهر التعصب و التطرف ، عموما ، و لكل أشكال العنف و العنف المضاد ، خصوصا .

و لاشك أن ذاكرة النخب الثقافية المغربية ستبقى تستحضر دائما تلك المشاعر الميلودرامية التي هزت الكورتيس الإسباني حين جاء إليه الملك الأب ليعلن تنازله عن العرش لولي عهده المنصب رئيسا ، كما ستبقى تتأمل بكثير من العبر تلك النقلة التي مست مستوى الحوار الذي دار بين رئيس الحكومة الإسبانية و الأمين العام للحزب الشيوعي الإسباني في المرحلة الأولى من مواجهة البلاد لمأزق الاختيار بين القطيعة أو الإصلاح، حول الشأن العام الداخلي ، حين رد كاريو على مكالمة  أدلفو سواريس الهاتفية ، و التي يطلب منه فيها الاعتراف بالملكية ، بأن دعاه إلى أن تعلن الحكومة أولا اعترافها بالحزب الشيوعي ، مردفا كتعقيب على تبريرات مخاطبه التي ترد عدم إمكانية ذلك حاليا إلى الحساسيات التي قد يستثيرها الأمر لدى الأوساط المحافظة المتنفذة في النظام ، و لدى قيادات مؤسسة الجيش المناهضة للتحول الديمقراطي ، بأنه هو أيضا لا يسمح له الماضي النضالي المجيد للحزب و لا الموقف السائد داخل أجهزته بالقيام حاليا بذلك ،،، و بين المستوى الذي بلغه هذا الحوار في المرحلة التي واكبت التقدم في معالجة المأزق وفق توافق الآراء و آلياته ؛ إذ سرعان ما تتوج بموافقة الأمين العام للحزب الشيوعي على اقتراح رئيس الحكومة بأن يعلن الطرفان اعترافهما المتبادل في وقت متزامن من يوم السبت الموالي ، حيث يستمتع الجميع بعطلة نهاية الأسبوع .

و لأن الديمقراطية تفسح المجال أمام الكاميرا لتكون دائما على موعد و بالضبط مع التاريخ ، فإن الفرصة ستستمر سانحة أمام الذاكرة البصرية لكي تخلد صورة مشهد ذلك الظرف العصيب الذي اقتحم فيه الجيش ، شاهرا سلاحه ، قاعة الكورتيس ، و حيث فيما التجأ معظم ممثلي الشعب إلى الانحناء إما هلعا ، أو في محاولة لتفادي طلقات رصاص انقلابي غادر ، فإن شخصين فقط هما اللذان حافظا على جأشهما و ظل كل منهما رافعا رأسه ، صامدا في أريكته ، يتحدى محاولة العودة اليائسة للديكتاتورية ، و قد كان هذان الشخصان هما : أدلفو سواريس و سانتياغو كاريو .

أما في فرنسا ، كما في بلدان غربية شبيهة أخرى ، و حيث من جهة تتحول المؤسسات التمثيلية الديمقراطية و تدريجيا من منبع للمشاريع و لمختلف المقترحات الكبرى في شتى المجالات الأساسية ، إلى مجرد أدوات لأجرأة تشريعات و للتصويت عليها ، أو لاتخاذ قرارات بشأن أهداف مجتمعية محلية ، بناء على خطاطات             و توجيهات جاهزة ، مصدرها بالإضافة إلى مراكز الدراسات المتخصصة ، شبكة معقدة من الدوائر و المصالح المالية الإقليمية و العالمية العملاقة القليلة العدد ، و لوبياتها المتنفذة و المتعددة الوجوه و المواقع ، و حيث من جهة ثانية أصبحت أهم الآليات الداخلية للديمقراطية نفسها في هذا البلد ، تختزل الحد الفاصل بين الأغلبية و الأقلية ، بصدد تصويت أو استفتاء عام حول قضية تهم الجميع و قد تلزمه باختيارات أو بتكاليف جديدة في نسبة لم تعد تتعدى 1% إلى 2%   من المجموع المعبر عنه من أصوات الهيئة الناخبة المعنية ، بحيث فيما يتحقق الفوز لأحد الأطراف بفضل حصوله على 51%  إلى 52% من الأصوات ، فإن آمال و اختيارات 48% إلى 49% من المصوتين تبقى ، لمجرد فارق عددي ضئيل ، مرهونة بآماد قد لا تسمح مهما طالت بتذويبه ، بله و قد تزيد من حدة الخلافات المطروحة ، و تحد من الإمكانات التي كانت متاحة لتيسيرها لو تمت في راهنيتها . لذلك ، فإن الفرنسيين الذين لم يكتشفوا إلا حوالي سنة 1976 أن عبارة " توافق الآراء " التي سبق لكل من كونت و دوركايم أن استخدماها في علم الاجتماع ، خلال القرن 19 ، قد أضحت فعلا و في غفلة منهم إحدى العبارات الشائعة ضمن مجال الخطاب السياسي ، رغم الإهمال الذي لقيته من قبل كتب جرد                و إحصاء الكلمات الجديدة ، و بالتالي من القواميس و غيرها من المنشورات المختصة ، و لأن هذا الاكتشاف تزامن مع تشبع أنفس زعامات النخب المتنافسة على السلطة ، بقلق ديكارتي على مآل ديمقراطية ما عاد بإمكانها أن تحقق لأغلبيتهم التفافا واسع النطاق ، يضمن الوصول إلى عتبة 60% على الأقل من القبول              و الضمانة و الدعم ، فإن مفهوم " توافق الآراء " قد لقي اهتماما بالغا لدى هذه الزعامات ، و سواء تعلق الأمر بمكونات اليسار أو اليمين في رؤية كل منهما للمجالين الاجتماعي و السياسي ، أو تعلق بدواعي مبدئية أو إستراتيجية ، فباستثناء التحذير من الإعمال الإداري للمفهوم بغرض طمس قيم الاختلاف و المجابهة الفكرية المميزة للديمقراطية ، أو بغرض استغلال تعدد أبعاده و دلالاته اللغوية و الأخلاقية و الثقافية للالتفاف على المشاكل الأساسية و إغراقها في خضم لا متناه من الجدال و اللجاج اللفظي ، و باستثناء التحذير من اختزاله في مجرد إجراء تقنوقراطي بدل اعتماده سلوكا سياسيا عاما يعكس ، و على أوسع نطاق ، التعدد المطابق للواقع المعيش لآراء الفرنسيين حول القضايا و الانشغالات الكبرى المعتبرة رئيسية من قبل الجميع ، فإن القناعات قد سارت ، و كما يتبين من التصريح بها ، نحو ترسيخ الاعتزاز بأن الجمهورية هي رمز للوحدة الوطنية . و غدا رؤساء الجمهورية أنفسهم يسارعون منذ الولاية الأولى لجيسكار ديستانغ إلى التأكيد على أنهم رؤساء لكامل فرنسا . و اتجهت مؤتمرات و أجهزة التشكيلات السياسية المضبوطة و المتقاربة المواعيد، إلى تبني توافق الآراء في اختيار قادتها و منسقيها ، و ذلك انطلاقا من مبادرة روكار في 1980 إلى اقتراح صيغة أن يكون مرشح الحزب ، و دون حاجة إلى انتخابات أولية ، هو بالضبط ذلك الشخص الذي يجسد ، من خلال توافق الآراء حوله ، أنه الأكثر قدرة على زعامة و توجيه تجمع لوجهات النظر من قبيل تنظيم سياسي كالحزب الاشتراكي . و على نفس الطراز لم تتخلف عن الاقتداء بهذا المثال عديد من المؤسسات الإعلامية ،  و في مقدمتها جريدة لوموند الذائعة الصيت .

و هكذا ، فبالنظر إلى سياق و طبيعة كل من التجربة الإسبانية التي يعزا الفضل في التأسيس لمسارها الديمقراطي الناجح إلى توافق الآراء ، و التجربة الفرنسية العريقة التي يعود إليها هي أيضا فضل إدراك السبب في الأزمة الحالية لديمقراطيتها ، من جهة ، و المفتاح الممكن لتيسير هذه الأزمة في أفق حلها ، من جهة ثانية . و كذا بالنظر إلى المساق العام الداخلي و الدولي الذي يؤطر التجربة المغربية التي ما انفكت تبارح مكانها رغم انفراجها و مباهاتها بين عدد من الدول الأخرى بميزة تعدد الأحزاب التي طبعت الحياة العامة خلال أطول مراحل الفترة التي أعقبت استقلال البلاد ، و باعتبار حالة الدعة الممزوجة بالكثير من القلق التي أصبحت تهيمن على المشهد السياسي بعد أن حدث ما حدث و قيل ما قيل حول الطريقة التي وقع بها وصول خمسة من أحزاب المعارضة ، و لأول مرة بمثل ذلك الثقل و الكثافة ، إلى المشاركة سنة 1997 في حكومة مكوناتها سواء منها تلك المنتمية إلى الكتلة الديمقراطية أو إلى حليفيها الجديدين ، أو تلك المنتمية إلى الوسط،، هي نفسها غير متفقة على طبيعتها فبالأحرى أن يكون بمقدور المواطنين التخمين ثم الجزم بخصوص ما إذا كانت هي بالذات حكومة التناوب المنشود ، أم هي الحكومة التي عليها ، إلى جانب تسيير الشأن العام إلى غاية 2002 ، أن تهيئ شروط الانتقال إلى التأسيس الفعلي لحكومة هذا التناوب ؟ و ذلك خاصة و أن الأمر هنا لا يتعلق بتلاعب بالألفاظ كما تدعي بعض التعليقات المراوغة ، بقدر ما يحيل على إستراتيجيتين و نوعيتين من الأهداف و التدابير و الإجراءات المرحلية تختلفان باختلاف منطلقات كل من الحالتين و كل من وضعياتهما .

ألا يكون قمينا الآن بالاهتمام ، خاصة و أن عبارة " التوافق " التي كانت إلى أمد قصير تضفي على قائلها الكثير من الأحكام و النعوت المشينة ، لم يعد يخلو منها خطاب أي من أطراف الفعل السياسي التقليدي                و المدني في المغرب ، و من أي من مراتب المواقع و المناصب التي يصدر عنها هذا الخطاب . و ألا يكون جديرا بالمراعاة التأكيد على تصحيح أن مفهوم " توافق الآراء " المعني ليست له نهائيا أية علاقة تماثلية بتوافق الآراء اللاحق المخادع و المناقض له تماما ؟

ففي شأن المسألة الدستورية عموما ، و مكانة الوزير الأول و مؤسسة الحكومة خصوصا ، و في شأن المسألة التعليمية و العدالة و على رأسها ما يهم ضمان الاستقلالية الفعلية ، المادية و القانونية و التنظيمية للقضاء ، و ما يخص التحصين التشريعي للمواطن من كل أسباب الحط من الكرامة الإنسانية و من مجموعة أشكال الشطط في استعمال السلطة ، و كل علل و مظاهر التطرف و التعصب ، أو في شأن الاختلالات البيئية المتفاقمة و الفساد العام ، و الاختلافات البيئية الاجتماعية و الثقافية و اللغوية ، المعبر عنها سلميا و إلى الآن على الصعيد الجهوي ، كما في شأن الفضاء السمعي البصري المغربي ، و في شأن الحريات العامة و باقي ملفات حقوق الإنسان التي ما تزال عالقة تخفي بقتامة سوادها عديدا من المكتسبات و الإيجابيات في هذا المجال ، و كذا في شأن التصورات التي قد يقع عليها اختيار التوجيه النظري لكامل هذه المتغيرات ، و في علاقتها بمجمل التحديات و الرهانات التنموية الداخلية و الترابطية الجهوية و العالمية المطروح مجابهتها على المدى القصير و إلى حدود نهاية العقد الأول من هذا القرن ،،، شتان بين أن تتخذ القرارات بلا حوار و لا مشاركة ثم تفرض في ما بعد لتقبل على أساس التسليم بها كما لو كانت فعلا قرارات توافقية ، و ذلك على نفس القياس السائد ، و الذي فيما استهدف دوما تركيز السمة الشخصية للسلطة ، فإنه لم يعمل سوى على مواصلة تعميق الهوة بين بناء الأمة و بناء الدولة ، و بين أن تتخذ القرارات تجاه أي من تلك الشؤون و غيرها على أساس الإنصات إلى الغير باعتباره معنيا ، شريكا ، مؤثرا و متأثرا بصفة مباشرة أو غير مباشرة ، و توجيه الانتباه بصدق ليطال حقائقه المميزة له ؛ أي بمعنى التسامح المبني على الحرية في التعبير عن الرأي تجاه القرار المقترح ، و على الحق في الاختلاف حوله و المساواة و الاحترام المتبادل تجاه القيم و المصالح المشروعة التي تحكمت في أصل التباين في الآراء بصدده ، و بمعنى التقصي و الضبط المتفهمين للقواسم المشتركة بين مكونات الإطار الحضاري للمجتمع و التي تتمثل في مجموع القيم المشتركة التي تشكلت عبر التاريخ و تستمر عملية إعادة إنتاجها و تحديثها و توارثها و ترسيخ المتنور منها بواسطة التربية و الإعلام ، و بمعنى أيضا الإقرار غير المخادع بأنه لا شيء تم حسمه بالمطلق أو أصبح مفروغا منه بصفة نهائية .

و في كل هذه المعاني الجزئية ، لا يصبح توافق الآراء مكتملا في معناه العام و حقيقيا إلا إذا استند إلى الحوار المغتني بتجربة الماضي و المدرك لكونه حين يجري في الحاضر إنما يروم في جانب منه تحقيق الاتفاق على ما هو جوهري ضمن المشكلات الحقيقية في آنيتها و يسعى في جانبه الآخر إلى تنظيم المستقبل المشترك              و تطويعه . 

و لأن توافق الآراء إذا كانت آلياته ، و كما سبقت الإشارة سابقا ، تتخذ صورا و مظاهر تتعدد تبعا لتعدد نوعية القرار المقترح و الوضعية أو الموقع الذي يحتله الجهاز أو المؤسسة أو الشخص أو الإطار الثقافي المبادر إلى إصداره في هرم السلطة أو في بنية المجتمع ، و بحيث لا يكون الشرط سوى توفر عملية الديمقراطية التي تضمن إمكانية الإشراك الحقيقي للجميع و أخذ مصالحهم المشروعة بعين الاعتبار ، و من ضمنها مصالح الفئات المحرومة ، و بما لا يخنق أصوات الأقليات السياسية أو الثقافية المضطهدة أو تلك التي لم تسعفها إمكاناتها ، بعد ، في التعبير عن نفسها ، فإن كنه توافق الآراء يبقى واحدا في كل من هذه السياقات و العمليات المتغايرة .

غير أنه ، و بالنظر إلى وضعية الركود التنظيمي و العتمة الفكرية التي تطبع عددا من الهيئات المعنية بتأطير المواطنين في مختلف المجالات ، أو بتسيير الشأن العام للوطن مقابل الحركية المكبوحة التي يبديها المجتمع ، و بالنظر إلى أن الوصول إلى توافق الآراء في صيغته المنوه عنها تلك ، يبقى بعيد المنال ما لم يتمكن كل طرف من أن يكون ملما بما يفكر فيه ، و متأكدا من أن ما يفكر فيه حقا هو ما يقصده فعلا ، و هو نفسه ما يعلنه على الملإ و بكامل الجرأة و الشفافية ، و أنه إلى ذلك ، نظيف من التطرف و يستجيب للمعايير الإنسانية الدولية و الوطنية ، و كذا الحال ما لم يتمكن كل طرف من أن يكون أيضا قادرا على تصنيف ما هو جوهري و لا محيد عنه ، و ما هو ثانوي في منظومة تصوره ، و يمكن تعديله ، و على جدولة المواقف و الاختيارات بحسب قابليتها الذاتية للتحقق في الزمان أولا و بحسب التحالفات الممكنة و درجة نضج الظرفية التي يدور فيها النقاش حولها ثانيا ، فإن الحاجة تصير اليوم ماسة أكثر من مما مضى ، إن على مستوى تأكيد التبني الفعلي للديمقراطية أو على مستوى التدليل العملي على الرغبة في إحلال ثقافة السلم بدل ثقافة الصدام و اللاتسامح ، إلى التفعيل الملموس لمفهوم توافق الآراء ، ضمن إستراتيجية تولي الموضوع أهميته المركزية في كل مشروع للتربية على مبادئ حقوق الإنسان ، و تشمل التقدم بشكل ملموس في تحقيق توافق حزبي للآراء ، و في التوسيع من دائرة الإقرار بتوافق قطبي للآراء ، و في الإعمال لتوافق وطني للآراء . و ذلك بطبيعة الحال كلما كان الاقتناع بالجدارة المستحقة ، من خلال التجارب الإنسانية ، لإشاعة مبادئ توافق الآراء و العمل وفق قيمها و الاحتكام إلى معاييرها ، حقيقيا و أكيدا ، تجاه الشأن العام الداخلي و كذا تجاه قضايا الشأن الخارجي الجهوي و العالمي ، و أيضا كلما كان التوازن بين التضامن و الحق في الاختلاف في كل ذلك حاضرا و غير ملتبس .

 

المصطفى صولــــيح El Mostafa Soulaih

elmostafa.soulaih@menara.ma

 

من المغرب :كاتب ، باحث ، و مؤطر ، في مجال التربية على حقوق الإنسان و المواطنة .

من كوادر اللجنة العربية لحقوق الإنسان

 

٭ يمكن العودة في هذا الموضوع إلى مداخلات الخبراء ،، و خلاصات مناقشة المشاركين في ندوة أوسلو المنظمة من قبل اليونسكو حول الموضوع خلال الفترة الممتدة من 31 مارس إلى 2 أبريل 1980 : كتاب             " توافق الآراء و السلام " ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، بيروت ، الطبعة الأولى 1984 ,