كنا في متابعاتنا للأفلام الأجنبية ولا سيما الأمريكية نلاحظ أن أول كلمة ينطق بها الشرطي عندما يلقي القبض على متهم حتى ولو كان متلبسا بالجريمة يأمره بالصمت ويذكره بقاعدة قانونية بأن أية كلمة يتفوه بها قد لا تصب في مصلحته, كما إن معظم المتهمين يرفضون الكلام إلا بوجود محامي يتسلم منهم الكلام على عواهنه وسقطاته ليهذبه ويسلمه للسلطة القضائية بالشكل الذي ينعكس في مصلحة المتهم, وفقا لنظرية القانون الجنائي فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته وقد كفلت معظم دساتير دول العالم هذه الحق الوقائي لمواطنيها بما فيها الدساتير العراقية منذ أول دستور رسم في العهد الملكي إلى آخر دستور وضعه اليهود الألماني نوح فليدمان في العراق الجديد في ظل خيمة الأمريكان وحكومات الاحتلال المتتالية.
من المؤكد إن هذه القواعد القانونية ليست وليدة اللحظة ولا علم واحد من العلوم الاجتماعية فحسب- رغم أن القوانين تفرعت إلى قانون دولي وقانون دستوري وقانون جنائي وغيرها -وإنما اشترك في صياغتها علماء القانون علاوة على علماء الاجتماع والنفس والمنطق والفلسفة والدين وعلوم أخرى, فهي خلاصة فكر جمعي الغرض منه تدجين الغرائز البشرية وتطوعيها بما يكبح جماحها ويصب في خدمة المجتمع, فحسب نظرية فرويد في علم النفس هناك صراع بين الفرد والمجتمع وهذا الصراع ناجم عن الدوافع الغريزية التي تحفز المرء على إطفائها بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة باعتبار الإنسان حيوان غير عاقل, ولكن المجتمع من خلال الضوابط والقوانين التي يصوغها يهذب هذه الغرائز ويوجهها بطريقة العقاب والثواب لكي تخدم المجتمع وهذه هي النظرة ذاتها التي أعتمد عليها الفلاسفة منذ فجر التأريخ وكذلك علماء الاجتماع رغم إنهم أعطوها زخما أكبر عن طريق الصراع بين البداوة والحضارة, ولسنا بصدد استعراض تطور العلاقة بين الفرد والمجتمع ودور القانون في كبح لجام النوازع البشرية بقدر ما يهمنا الأمر من ناحية إمكانية الاستفادة من القوانين في حياتنا اليومية سيما إننا نشهد منذ خمس سنوات عجاف مرحلة انتقالية تأريخية كبرى كما سماها الاحتلال وجوقة العملاء ونحن على أعتاب الألفية الثالثة.
المرحلة الديمقراطية للعراق الجديدة كما هو واضح لا تحتاج إلى شرح وتفاصيل فهي لم تأتي وفق السياقات التأريخية كما هو عليه الأمر في تجارب الأمم التي سبقتنا, ولا جاءت عبر سلسلة من التغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي سبقت هذه الممارسة أو ما يسمى بالثورة الثقافية, ولا كمرحلة فرضتها الحتمية التأريخية أسوة ببقية الدول التي وجدت ذاتها أمام حقيقة ثابتة وهي إذا أحكمت غلق الباب بوجه الديمقراطية فإنها ستدخل إليها من الشباك وستكون بهذه الطريقة ضيفة غير مرغوب فيها,عابثة أكثر منها منتظمة وهمجية أكثر منها متحضرة , وسلبية أكثر منها إيجابية, ويصعب السيطرة عليها في ظل مجتمع غير واعي أو غير متحضر أو غير مهيأ على أقل تقدير لاستقبالها وهكذا كان الوضع في العراق, لذلك كانت إفرازات الممارسة الديمقراطية كما سماها البعض رغم تحفظنا الكبير على هذه التسمية سامة بل قاتلة كما تبين للجميع.
ولأن أضابير مساوئ الاحتلال عديدة ولا يمكن حصرها بصنف واحد رغم إنها تدخل في خانة ما يسمى بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي جاء المحتل يحمل لوائها بعد أن فشلت أسطورة أسلحة الدمار الشامل وعلاقة النظام السابق بالإرهاب, فأننا سنفتح إضارة العراقيين الموزعين في متنزهات الديمقراطية الجديدة من سجون أفتتحها قوات الاحتلال والحكومة العراقية في ربوع العراق كافة, فالسجون في العراق ذو السيادة الكاملة موزعة بين السيادة العراقية والسيادة الأمريكية والسيادة البريطانية ولا يحق لأي جهة عراقية أن تنتهك سيادة الأطراف الشريكة في الوطن, فالسجون الأمريكية تخضع لسيادة المحتل وليس من صلاحية رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة العراقية أن يتجاسر في مجرد استفسار عن عدد المساجين العراقيين في سجون الاحتلال أو تهمهم أو أي أمر يتعلق بهم فذلك يعتبر انتهاك صارخ لسيادة قوات الاحتلال في وطننا.
السجون في العراق سجون بأطباق متعددة ونكهة خاصة فالسجون الخاضعة لسلطة المحتل الأمريكي مع أنها تقع في العراق وإن السجناء عراقيين والسجانين عراقيين ونفقات السجن وأدوات التعذيب المستخدمة كلها من أموال عراقية لكن السجان غير عراقي فهو أمريكي وإجراءات وضوابط السجن أمريكية بالنتيجة, وهذه الضوابط ليست الأمريكية المعروفة لدينا من خلال وسائل الأعلام الأمريكية كما تحدثنا لأن تلك الضوابط خاصة بالمواطن الأمريكي وليس العراقي وشتان بين الاثنين من وجهة نظر الحكومة الأمريكية رغم وحدة السجان.
السجن ليس على الطراز الأمريكي فلا خدمات ستلايت ولا انترنيت ولا موبايل لا تكييف ولا محامون لا قضايا معلنة, لا مذكرات توقيف, لا مدد موقوفية محددة, ولا حكم قضائي لاشيء من هذا القبيل, فالسجون العراقية خارج نظام العولمة الأمريكية, إنها صورة طبق الأصل من نظام محاكم التفتيش وسجن الباستيل, وربما سجن أبو غريب شهد من الجرائم والقسوة والهمجية ما يجعل الباستيل أكثر رحمة وشفقة, وحتى فضائح سجن أبو غريب التي يندى لها جبين الإنسانية تكاد تحمر خجلا من الفضائح التي حصلت في بقية السجون كما صرحت المحامية المختصة السيدة سحر الياسري علما أن ما نشر من جرائم جرت في أبو غريب رغم بشاعتها تعد لا شيء فما خفي منها كان أعظم مما جعل الرئيس الأمريكي يوجه الأعلام الأمريكي بأوامر مشددة بعيدة عن الديمقراطية بالتوقف عن نشر مسلسل فضائح هذا لتأثيره السلبي علي الرأي العام الأمريكي والدولي. فالسلوك الأمريكي في الأفلام والإعلام ليس كما يجري في الحقيقة أن لم يكن داخل الولايات المتحدة ففي خارجها على الأقل.
رغم إن عشرات الآلاف من العراقيين يقبعون في السجون المتعددة الإدارات لكن الملاحظ أن معظمهم غير معلن عن أسمائهم وتهمهم ومدد موقوفياتهم ولا يعرف ذويهم فيما إذا كانوا على قيد الحياة من عدمه, ولم يسمح لهم حتى الاتصال بمحامي, وحتى المنظمات العالمية المعنية بالسجناء ومنها منظمة الصليب الأحمر ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية منعت من زيارة السجون والتعرف على أحوال السجناء وهذه من الممارسات الديمقراطية التي لم تعهدها الدول التي سبقتنا في تجربتها الديمقراطية! من نافلة القول إن هذه الأوضاع الشاذة لا تتناسب مع الشرائع السماوية ولا القوانين الوضعية النافذة ولا الدستور ولا الأخلاق ولا القيم البشرية أنها جريمة بحق الإنسان والحضارة والإنسانية.
كما إن الممارسات التي تجري داخل السجون ممارسات يندى لها جبين المجرمين وليس الشرفاء فحسب, ففنون التعذيب وصلت إلى حدود أيقظت محاكم التفتيش من سباتها لتقف مصعوقة مذهولة من الابتكارات في هذه المجال غير الإنساني الخصب من قتل واغتصاب للنساء والرجال والأطفال بالطريقة الأسدية المنسوبة إلى (عدنان الأسدي) وكيل وزارة الداخلية, وثقب الأجساد بالطريقة الصولاغية (باقري صولاغي) وقطع الأطراف بالطريقة البولانية (جواد البولاني) وممارسات منحرفة يصعب تصديقها حتى أن عضو في الكونغرس الأمريكي وصف قتل خمسة نساء عراقيات رفضن التعري أمام احد كلاب الاحتلال في سجن أبو غريب بأنه أقل المواقف بشاعة عما شاهده!
ولكن من هم المسجونين؟ هنا تكمن العبرات كما يقال! فلسنا بصدد الحديث عن المجرمين والإرهابيين وعناصر الميليشيات المجرمة فأولئك السجن هو مكانهم المناسب ولسنا معنيين بالدفاع عنهم. لكننا نتحدث عن سجناء آخرين منهم كبار المسئولين الحكوميين والقادة والضباط العسكريين والسياسيين والعلماء ومنتسبين الأجهزة الأمنية والذين أسروا خلال معارك الغزو, وهم أسرى حرب حسب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة كما نصت اتفاقية جنيف الخاصة بشأن أسرى الحرب.
ومن السجناء نوع خاص من الرجال أنهم إبطال التحرير, أسود الرافدين, حملة راية النصر, وعنوان كرامة العراق ومجده وحضارته, الشرفاء الغيارى الأماجد, رجال المقاومة الباسلة الذين نذروا أنفسهم للذود عن حياض الوطن وسيادته وكرامته وعروبته, كتمت أصواتهم العاصفة الهمجية الشرسة ولا أحد يعرف شيئا عن مصائرهم, ولا يعرفن نسائهم هل أصبحن أرامل أم بعد؟ ويتساءل أطفالهم فيما إذا كانوا أيتاما من عدمه! ولم تنفع الأصوات الشريفة التي تطالب بالكشف عن مصائرهم فكابوس المحتل والعملاء كما هو معروف هم المجاهدون فلا غرابة في ذلك!
النوع الآخر من السجناء هم زوجات وأمهات وآباء وأبناء رجال المقاومة الذين اعتقلوا بغية الضغط على الأبطال وابتزازهم بطرق تغضب السماء والأرض لبشاعتها وللمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى تصريحات السيدة المحامية سحر الياسري بهذا الشأن حيث يشيب شعر الرأس لما حدث لبعض الناس من فضائع وفضائح.
والنوع الأخر من السجناء هم الناس الأبرياء الذين وقعوا في فخ الوشايات الطائفية والعنصرية والدسائس التي تخدم إغراض المحتل والعملاء أو اعتقلوا لغايات خاصة وتصفية عداءات شخصية أو لمجرد الشبهة لا غيرها, وهؤلاء ضاعوا في متاهات السجون كبقية المجرمين رغم براءتهم من أية جرائم.
من المؤسف حقا أن تتخذ وزارة الداخلية نفس المنهج الأحتلالي في تعاملها مع السجناء حيث بدأت تمتنع عن تقديم القوائم بمعتقلاتها وعددها وأماكنها وأسمائها وكذلك أسماء المعتقلين وتقديم مذكرات بإلقاء القبض عليهم وبقية الأوراق التحقيقية, دون مراعاة أو اعتبارات حتى لنظيراتها من وزارات كوزارة حقوق الإنسان والعدل التي سبق أن اشتكتا من إهمال طلباتها من قبل وزارة الداخلية, وكلنا ثقة بأن وزارة الداخلية العراقية ليست سوى مديرية تابعة لوزارة الداخلية الإيرانية وشعارها الجديد" أنا أعذب إذن أنا موجود" وهذا ما تؤكده الوقائع يوم بعد آخر.
مما لاشك فيه إن هذه الأوضاع البائسة التي تتناسب وديمقراطية المحتل تستدعي تحرك المؤسسات الناشطة في مجال حقوق الإنسان, والمنظمات الدولية والأمم المتحدة- التي شرعنت الغزو الأمريكي للعراق وتتحمل جزء غير يسير تجاه هذه الإبادة الجامعية- والصليب الأحمر والمنظمات غير الحكومية ومنها منظمتي العفو الدولية والمنظمة العربية لحقوق الإنسان لكي ترفع عقيرتها لتفضح الأساليب غير الإنسانية التي تنتهجها قوات الاحتلال والحكومة العراقية بمؤسساتها الأمنية المختلفة لتوجيه الرأي العام العربي والدولي نحو إنقاذ ما تبقى من السجناء والضغط على إدارة الاحتلال وحكومة الاحتلال لإطلاق سراحهم, ونهيب بعوائلهم عدم السكوت وتوجيهه الرسائل التي تفضح هذه الممارسات إلى الهيئات والمنظمات الدولية, وكلنا نستذكر ما قامت به الكويت من نشاطات الدعائية حول الأسرى الكويتيين الذين زعمت بأنهم موجودين في العراق وتبين بعد الغزو إن القصة ليست سوى فبركة واختلاق أكاذيب لا تقل عن فبركة حاضنات الأطفال التي جعلت الرئيس بوش يبكي بكاء التماسيح على أطفال الكويت ويعتبرها ذريعة للعدوان على العراق. فما بالك ونحن نعيش مأساة حقيقية اعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء ومنهم الأمريكان والبريطانيون! وما فضائح سجن أبو غريب وسجون الجادرية والكاظمية وبراثا والأقبية السرية لوزارة الداخلية وجلاوزتها الذين تلقوا أفضل تدريبات التعذيب البشري في إيران وبقية وميليشيات الاحزاب الحاكمة سوى فصل واحد من تراجيديا طويلة.
شبكة البصرة 1 تشرين الثاني 2008