أيها الغربيون نحن المذبوحون أعلاه، أطفال غزة نخاطبكم من خلف الركام، من فوق أكوام مدارس قصفت فوق رؤوسنا نحن الأطفال الذين لا نملك سوى دفاتر رسم، وكراسات ملوّنة بلون التفاح، بلون شجر الليمون والبرتقال، نحن الصغار الذين لا نملك سوى طباشير وأقلام، وبعض اللعب المحلية التي عجناها بأيدينا من الأرض والتراب في ظل التجويع والحصار، نخاطبكم من مدارسنا التي صارت حطام، امتزج فيه الاسمنت بلحم الطفولة بالأجساد الغضّة بالدماء، نحدثكم من شوارع مخرّبة وأحياء مهدّمة، من ساحات مبعثرة يتسكع فيها الحزن وأنين الغبار، نخاطبكم من مجاري المياه المنتفخة بفتاة اللحم البشري وبقايا أشلاء من أجساد، نخاطبكم من غزة مدينة المليون ساكن، الذين حوصروا أمام صمت العالم، وجوّعوا أمام عرب المقابر، فاختاروا الوقوف بدل الجثوّ على المرافق، نخاطبكم من البيوت المفتتة، من المساجد المحطمة، من المعابر المخرّبة، من الأسواق المعطلة، من المستشفيات المعطوبة، من الثنايا والمسارب والطرقات وبيوت العطش التي انقطع عنها الكهرباء منذ أكثر من عام، نخاطبكم من غزة مدينة الشموع، لنقول لكم ببراءة الأطفال وبلكنة الصغار، الأحياء منا أو الجرحى الموزعين في المستشفيات، أو من فقدوا الأهل والجيران والخلان والآباء والأمهات، أو من طحنتهم الدبابات والمدرعات، نقول لكم نيابة عنا، ونيابة عن أطفال تحت الأنقاض وتحت تراب المقابر، الذين مزقت أجسادهم طائرات وأسلحة العدوان، نقول لكم انه زارنا " بابا نوال " مبكرا قبل الموعد بثلاثة أيام، ووزّع علينا نحن الصغار ألعابا تشبه فيما تشبه قنابل الموت والتشويه والدمار، وقدّم لنا بمناسبة أعياد الميلاد أطنانا من الصواريخ والقذائف، وقنابل فسفورية تجزّر الأجساد وتقطع الأطراف، وتزرع الحروق وتثير الغثيان، فشكرا لكم أيها الغربيون، ومن خلالكم الشكر موصول " لبابا نوال "...
نحن المشوّهون أعلاه
أيها الغربيون نحن المشوّهون أعلاه أطفال غزة الباقون على قيد الحياة، نيابة عنّا ونيابة عن أقراننا ممّن دفنوا في التراب وهم أحياء، ونيابة عن زملائنا الذين انظمّوا إلى معسكرات الأيتام، نقول لكم أنه كان لنا فيما مضى بيوتا وعائلات وأهالي وأمهات وأدوات مدرسية وآباء، ننتظر قدومهم كل مساء، لنقبلهم لنمازحهم لنلعب معهم لعبة الذئب والخراف، أو لعبة الثعلب والغراب، أو لعبة السمكة والصياد، أو لعبة القط والفئران والعديد من الألعاب، كنا وكانت لنا أمهات يغطيننا بالعطف والحنان، كنا وكانت لنا بيوتا تختزن الدفء والفرح والذكريات وتحكي أقاصيص كي ينام الصغار، كنا وكانت لنا فيما مضى أعراس وحفلات مدرسية وأزقة ومساجد وبراري ومزارع وحقول، وأفران تبيع الرغيف، ودكاكين نشتري منها الحلوى والفواكه والخضار فحوّلها الغزاة إلى دمار...
نحن الطفولة المختلسة أعلاه
أيها الغربيون نحن الطفولة المذبوحة أعلاه، نحن الطفولة المختلسة أعلاه، نحن الطفولة التي أثارت ذعر الاحتلال، فجاءونا بعدة فيالق وجمعوا لنا 30 ألف محارب بين جنود وضبّاط ، وقاموا بقصفنا من البر والبحر والسماء، فسالت دمائنا البريئة وتوزعت في كل مكان، بين الطرقات في البيوت على ضفاف الجدران بين حنفيات العطش وعلى أرصفة الأزقة والشوارع وتدفقت تسيل في كل مكان...
أيها الغربيون لعلكم شاهدتم وسمعتم ورأيتم عبر الفضائيات، وعبر الجرائد والمواقع صورنا المخرّبة، وأجسادنا المهشمة المتناثرة هنا وهناك، في المستشفيات، في سيارات الإسعاف، في المدارس، في المعاهد، في الملاجئ، في السهول في المنازل، وكل أحزان المساءات...
نحن ذاك الرضيع الذي قصف وهو بين أحضان أمه
أيها الغربيون، نحن المذبوحون أعلاه أطفال غزة، نحن ذاك الرضيع الذي يبلغ من العمر عامين، فقصف بطائرات " الأباطشي " وهو بين أحضان أمه، تلك التي انتظرته 21 سنة وهي تحلم كما يحلم الصبية بلعبة العيد، تحلم كما يحلم الغريب بالعودة إلى الأرض ومعانقة الديار، تحلم كما تحلم الأرض الظمأى باستقبال المطر وقدوم الربيع، تحلم كما يحلم الأطفال باقتناص الفراش وأسراب الطيور، تحلم كما يحلم الغريق التائه في البحر باحتضان الشاطئ والتيمم بالتراب وسماع صياح الديكة ونباح الكلاب، لتستفيق في المستشفى وهي ممّدة على جرح عميق، سوف لن تضمده السنون ولا الأيام، لتفقد وليدها التي انتظرته مدة 21 عام، وتصيبه شظايا القنابل المنهمرة كالشقاء، وكالحقد الموزّع في كل مكان...
نحن الطفولة مع وخز الضمير
أيها الغربيون، نحن المذبوحون أعلاه أطفال غزة، نحن تلك الطفلة التي بترت قنابل الاحتلال ساقيها إلى حد الركبتين، وهي تروي بابتسامة تتحدّى بشاعة الصمت ورداءة الخطب وهزال الكلام، حكاية طفلة تحلم أن تواصل المشوار، تحلم أن تكتب للجرح مليون حكاية، وترسم للوطن ألف قصة، ذلك لأنها تؤمن أن الإعاقة الحقيقية، هي إعاقة الإرادة والضمير، لا إعاقة الأبدان...
نحن المذبوحون أعلاه أطفال غزة، نحن ذاك الطفل الذي فقد عينيه الاثنين بفعل العدوان، وشاهده الملايين عبر الشاشات، وهو يتحدث إلى وسائل الاعلام في صبر وثبات، وكأنه يقول لمعسكر الهزيمة والخذلان، أن العمى هو عمى الوعي والقلوب، لا عمى العيون والأبصار، وأن الأشجار لكي تثمر تحتاج للرياح، وأن الأرض كي تنتعش تحتاج للسّماد، وان الفجر يبزغ من خلف الظلام، وأن شدّة القهر والظلم تنجب الأوطان..
نحن المذبوحون أعلاه، نحن أطفال غزة، نحن تلك الطفلة التي تبلغ من العمر حوالي ثلاث سنوات وعلى وجهها أوسمة من الجراحات، وبين ذراعيها الصغيرتين أختها الرضيعة، وهي تربط على كتفيها، وتغني لها سيمفونية جريحة، لا تبكي "ماما" وتتقمص دور الكبار " نامي ماما "، لا تبكي ماما وتأرجحها بين سواعدها الغضّة في مشهد يمزق القلوب، ويرجّ ركام الصمت، لتعلن للعالم أنها تنتمي للجيل القادم، وأنها ستصرع اليتم وتنتصر على الأحزان...
نحن المذبوحون أعلاه أطفال غزة، نحن تلك البنت التي فني أهلها وإخوتها، وأعمامها وجيرانها، وأبناء أعمامها أمام عينيها، وبقيت وحيدة ولم تفقد لغتها، وظلت تحكي حكاية شعب يستيقظ من خلف سعال القنابل، وتروي بصلابة الطفل الفلسطيني المقاتل، لحظات " المنشر والمحشر"
أمام منظمات حقوق الإنسان يباد الأطفال
أيها الغربيون، نحن المذبوحون أعلاه أطفال غزة، ذبحنا من البر والبحر والجو والسماء وأنتم تتفرجون، وبينكم منظمات تملأ الأرض والفضاء ثغاء، من أجل قطة أو عصفور أو قنفد أو كلب أو قرد تعرّض لأبسط حادث سوء غذاء، بينكم منظمات وإعلام وتشريعات ومؤسسات تخترق جدران الصمت، عندما يختلس طفلا ويتيه عن الديار، بينكم مرشدون ومرشدات، ومراكز حقوق الطفل ورعاية الطفولة وحق الأمومة وأكداس من منظمات، وقوائم طويلة من الجمعيات المدافعة عن تسلية الحيوان...
لكم ولأبنائكم الأعياد ولنا القتل والأحزان
أيها الغربيون، ففي الوقت الذي كنتم تحتفلون فيه بأعياد الميلاد، وزيّنت شوارعكم ومدنكم بالأنوار والأعلام، والفوانيس وشجر الصنوبر ودقت الأجراس، وانتصبت حفلات الرقص والطرب والموسيقى والغناء، وولائم الأطعمة والمرطبات، وزينت مغازاتكم بهدايا الأطفال وأنواع الشكلاطة، ففي هذا الوقت الذي كانت فيه سمائكم تتلألأ بالفرح وفوانيس العيد، كانت سمائنا نحن أطفال غزة تمطر قنابل الموت وتحجبها طائرات الرعب، ويغطيها ظلام القصف في كل اتجاه، لتشتعل من تحتنا الأرض ويحترق الفضاء، ويأتينا الموت من كل مكان، ونظل رهائن الرصاص المسكوب، والقصف المسعور، المنصبّ علينا في البيوت في الشوارع في الملاجئ في المدارس في الجامعات في المعاهد في المستشفيات في المقابر في الملاعب، لتحترق الأرض والتراب، ويشتعل الشجر والحجر والطيور والقطط والفراش والأزهار، وتتهاوى المباني والصخور والاسمنت والجدران، ويبتلعنا الدخان والضباب، ويمضغنا الغبار ويطوينا الركام..
هنا ولدنا.. وهنا باقون..
أيها الغربيون، نحن المذبوحون أعلاه أطفال فلسطين، أطفال التغريبة الفلسطينية، وسرديات مذابح كفر قاسم ودير ياسين وغزة وجنين والملاجئ والمخيمات، نحن المذبوحون أعلاه، أطفال حيفا والخليل والقدس وأريحا وبيت لحم والقطاع ونابلس وطولكرم، وكل تلك المدن والبقاع الموشومة بلون ذاكرة الأرض المرصّعة بفوانيس الصبر والرفض والتحدي والقهر والدماء، وتاريخ طويل من بصمات الزرع والحصاد، ومرويات عناوين ذاكرة جماعية تأبى الأفول، وترفض الذبول، لنقول لكم وللعالم أننا هنا ولدنا وهنا باقون، هنا سجنا وجعنا وهنا باقون، هنا ذبحنا وقصفنا وهنا باقون، وأننا نذكّركم أيها الصامتون، تذكّركم يا كل المتفرجين، أن أجدادنا وآبائنا تعرضوا لأبشع المجازر ومع ذلك لم تحذف فلسطين من فصول الذاكرة ولم تسقط من شرايين الضمائر، ونحن قصفنا عبر كل المعابر فلم تبد فلسطين ولم يطوها الزمن ولم يختزلها التاريخ ولم تشطب من قواميس الخرائط، وستظل محفورة في الوجدان وعناوين الجيل القادم، ونبض الانتفاضة والرفض الذي لا يمكن أن يحال إلى المتاحف..
/ صحفي وكاتب تونسي مقيم بباريس