يشهد النصف الثاني من شهر أبريل/نيسان 2009 في جنيف، أكبر تظاهرة دولية ضد العنصرية منذ مؤتمر ديربان الذي سبق أحداث 11 سبتمبر 2001 وكادت نتائجه الهامة تضيع تحت أنقاض عولمة الحالة الاستثنائية وما سمي بالحرب على الإرهاب، مع كل ما حمله من إجراءات معادية للعرب والمسلمين في الغرب فيما صار يعرف بتصاعد الإسلاموفوبيا.
ورغم أن اللجان التحضيرية في المؤتمر الرسمي تغطي خارطة الأمم المتحدة، وفي المؤتمر غير الحكومي الذي يسبقه الفضاء الرحب لكل من يريد بما في ذلك المنظمات الحكومية غير الحكوميةGNGO الصهيونية المولد والتمويل والدعم، إلا أن دربان الأول، الذي حاولت فيه الدول الغربية إبعاد موضوع إدانة إسرائيل، بل ونجحت في تحييد حفنة من "عرب الخدمات" في الوسط غير الحكومي وشراء ذمم مراكز الشخص الواحد من العالم الثالث الممولة حتى النخاع من مؤسسات قريبة من الأيباك وغيره، رغم كل الاحتياطات فشلت مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل في حماية الممارسات العنصرية للدولة العبرية، وبدت المنظمات الشمالية الدولية الأربع وهي تحتج على البيان الختامي وكأن موظفيها في باريس ولندن لا علاقة لهم بمن يعطيهم كلمة الدولي (أي المنظمات العضو في هذه المنظمات من بلدان الجنوب التي شاركت في الصياغة والقرار). لم تنجح الستارة الاصطناعية في تغطية ضوء الشمس وفشلت جماعات الضغط والتمويل في تزوير واقعة أن دولة إسرائيل تجسد آخر شكل من أشكال الأبارتايد على سطح البسيطة.
هذه المرة السياسة الصهيونية واضحة: لا يمكن القبول بتكرار السيناريو في قلب أوربة، خاصة بعد كل الاستثمار الصهيوني للحرب على الإرهاب الذي همش إلى حد كبير تعبيرات المقاومة المختلفة في العالم وفلسطين. والحل المضمون الوحيد يكمن في مقاطعة مؤتمر مراجعة ديربان في جنيف. من أجل ذلك جرت شيطنة اللجنة التحضيرية لوجود ليبي وإيراني على رأسها، وتصوير ما ينتظر الجماعة الدولية باعتباره انتصار لدين يعتبر نفسه فوق الأديان وفوق النقد. هذه التوصيفات من بيان للمنظمات الماسونية الرئيسية الثلاث في فرنسافي 6 مارس 2009 (الفدرالية الفرنسية لحقوق الإنسانFFDH، المحفل الماسوني Grand Orientومحفل Grande Loge النسائي) التي نادرا ما وقعت على بيان مشترك في تاريخها. طبعا برنار هنري ليفي يستنفر قلمه ضد الأمم المتحدة ومؤسساتها التي تحولت لعدو لدولة واحدة هي إسرائيل. ويصف ديربان الأول بكل الموبقات ويعتبر المشاركة في مراجعة جنيف القادمة خدمة للظلامية والتطرف ومعمر القذافي وأحمدي نجاد.
في كل بلد أوربي، تم تكليف مكتب محاماة محترف لتوجيه رسائل بالاسم لكل مسؤول أوربي شارك في ديربان أو يمكن أن يشارك في مؤتمر جنيف القادم، كل منهم يصور الحدث مؤامرة مفبركة من الألف إلى الياء من منظمة المؤتمر الإسلامي والدول الإسلامية والمنظمات الإسلامية المتطرفة. بل وصل الأمر بمكتب محاماة شانسي فيلموت في بروكسل للحديث عن "خطر جسيم سيترك آثاره على القوانين الجنائية في أوربة". (هذا المكتب لم نسمع له صوتا عندما أبعد عشرات العرب والسود من بلجيكا تحت طائلة محاربة الإرهاب ولم يقل كلمة عن تراجع الحريات أو حقوق الإنسان في أوربة). وليم داروف، الناطق بلسان اتحاد المنظمات اليهودية في واشنطن، لا يمتنع، في دفاعه عن المقاطعة عن القول: "أميركا رفضت وترفض تلطيخ اسمها بقرارات معادية لليهود". ناطق باسم الخارجية الأمريكية يتحدث عن ضرورة تلقين منظمي المؤتمر درسا في الموضوعية والنزاهة في تعاملهم مع إسرائيل، طبعا طبيب جراحة تجميل الوجه الرئيس باراك أوباما قرر مقاطعة بلاده للمؤتمر لإرضاء اللوبي الموالي لإسرائيل. وقد رحبت المجموعات اليهودية الموحدة بهذا القرار وأكدت أن "الرئيس اوباما على حق لرفضه المشاركة في هذه المهزلة". وقالت "العصبة اليهودية ضد التحقير" أن أوباما صد المحاولات للعودة إلى عهد إدانة الصهيونية كحركة عنصرية، في حين أصدرت منظمة "ايباك" بيانا قالت فيه إن هذا المؤتمر يثبت أن منظمة الأمم المتحدة تفتقد للموضوعية عندما يتعلق الأمر بدولة إسرائيل. كان النائب من حزب الليكود اليميني سيلفان شالوم أكثر دقة في بيان له حين قال: "أهنئ الولايات المتحدة على هذا القرار الذي يثبت أن الحكومة الأميركية تحترم التزاماتها حيال إسرائيل".
القائمة طويلة والاستنفار الصهيوني على أشده من أجل إفشال هذا المؤتمر. فهل هناك إدراك في العالمين العربي والإسلامي لأهمية هذا الحدث ولضرورة استنفار مضاد لتكون "مراجعة ديربان" (التي تتزامن مع موعد تقديم أول دعوى قضائية أوربية ضد العدوان على غزة)، فرصة لمحاكمة أخلاقية وحقوقية للسياسة العدوانية الإسرائيلية بحق شعب فلسطين؟