" تمر الأمة في مرحلة استعصاء تاريخي ما بين فقيه غائب عن العصر ومواطن تائه ومثقف مُدجن يخاف حتى من ظله من جهة وحكام مؤلهون يكادون يقولون ما نريكم إلا ما نرى. إن كل أمم الأرض سواء كانت كافرة أو مسلمة لها حاجات فطرية ومن أهم هذه الحاجات أن الشعوب يجب أن تعبر عن آرائها بدون قمع، فإذا قُمعت الشعوب لابد أن تخترع أساليب أخرى للتعبير ليس أقلها التفجير والتكفير والتفحيط في الشوارع وحتى الكتابة على الجدران".. بعد التلفظ بهذه الكلمات في دفاعه عن معتقلي اللجنة العربية لحقوق الإنسان (علي الدميني، متروك الفالح وعبد الله الحامد) في 5/3/2005 على فضائية عربية، اعتقل خالد العمير لأول مرة ولمدة ستة أشهر. يومها سمع فريق العمل الخاص بالاعتقال التعسفي باسمه لأول مرة، أما أنا فكنت قد سمعت صوته في عدة مكالمات هاتفية تبادلنا فيها شجون البلاد والعباد. طبعا ركبت أربع تهم في التحقيق تشمل الحديث على فضائية أجنبية والتعلرض لهيئة العلماء والدفاع عن عبد الله الحامد (هكذا بالاسم) والعثور على بيانات إصلاح في بيت المتهم. لعل هذا المنطق الأصم هو الذي جعل الشاب يكتب وقتها: " إن تجربتي في السجن أثبتت لي بأن سجون وزارة الداخلية هي المحاضن المثلى لتخريج الإرهابين والمتطرفين والحاقدين على المجتمع. كيف لا ونحن نعلم بأن الضغط يولد الإنفجار وبأن لكل فعل ردة فعل"مساوية" له في المقدار و"معاكسة" له في الاتجاه ؟".
كان خالد غير نمطي في نضاله ودفاعه عن الإصلاح، اتهمه البعض بالتهور والبعض الآخر بالانتقال السريع من خطاب صارم لخطاب مساوم، لكنه في الحقيقة كان صادقا وصريحا بشكل كبير، يقول ما عنده ولا يتورع عن نقل رأيه للبريد الالكتروني مهما كانت النتائج. من هنا تحفظ زملاء له عليه واضطرابه في لحظة اعتقال الدكتور الحامد للمرة الثانية بعد عفو ملكي، ثم اعتقال متروك الفالح من جديد. إلا أن الحدث الذي هز وجدان خالد كان تحرك العالم (من شماله لجنوبه وشرقه وغربه للتضامن مع شعب فلسطين في غزة، والحظر على أي شكل من أشكال المناصرة في المملكة العربية السعودية. فطالب بتجمع علني، بندوة، بتظاهرة، كما قال لي قبل اعتقاله: "نحن بشر يا دكتور هيثم كرمنا الله لذا لا نستحق إهانة فرض الصمت علينا والجثث في غزة في الشوارع". وعندما رفضت السلطات السعودية طلب الحركة الإصلاحية تنظيم اعتصام تضامن، وصدر بيان من الإصلاحيين باحترام هذا الطلب تفاديا لمعارك جانبية في وقت صعب، خرجت تظاهرة تضامن في المنطقة الشرقية تبعها اعتقالات لأكثر من عشرين ناشطا وجرى اعتقال خالد العمير وزميل له في الرياض لتصريحه للإعلام برفض الانصياع لمنع التعبير عن الاستنكار لجريمة الجيش الإسرائيلي.
طبعا خالد العمير بقي أولا دون اتصال بالعالم الخارجي، حاول الإضراب عن الطعام فطلب أكثر من صديق من زوجته أن لا يفعل ذلك أثناء العدوان على غزة لأن أحدا لن يسمع بإضرابه، اتصلت زوجته بالمسؤولين، تواصل هو برسالة مفتوحة للملك، ومازال في المعتقل. أحيل في الأسبوع الماضي إلى المحكمة الصغرى فرفض القاضي الدعوى المقامة من هيئة التحقيق الإدعاء العام لعدم الاختصاص وأحالها إلى المحكمة الأمنية هذا الأسبوع. علما بأن هذه المحكمة أعدت لمحاكمة الإرهابيين.
في أشباه المحاكم عند أشباه القضاة في شبه الزمان الأصغر وغيبة المكان الكبرى، في زاوية موحشة من زوايا التاريخ العربي المعاصر الردئ، ما زال الاعتقال التعسفي ينخر في جسد هذه الأمة كفيروس الإيدز، باعتباره القاتل اليومي لإمكانية المواطنة المقدامة أو المقاومة المدنية. يحرم المجتمع والشخص من أهم عناصر المناعة الذاتية الضرورية للمشاركة في الشأن العام وخدمة الذات والآخر. ينسى الأشخاص ميشيل كيلو فيعد سنوات سجنه وحيدا، يعتاد الجميع على بقاء فداء الحوراني ثلاث سنوات في السجن وعلى فكرة أن الحرية لعبد الكريم الخيواني هي ابنة مكرمة رئاسية في وجه قضاء قاس، وأن قدر الصادق الشورو التعايش مع زنازين السجون التونسية وقدر عبد الهادي الخواجة التنقل بين المحاكم وأقبية الداخلية البحرينية. اعتقال طويل لهذا وتهديد حياة لذاك ومنع سفر لثالث وتحرش واعتداء على رابع في رسم تراجيدي لمعالم غياب العلاقة بين الحاكم والناس، غياب يجعله يمارس كل أشكال العسف لعزل القادرين على المبادرة المجتمعية المدنية والسياسية عن محيطهم.
في مجتمع المواطن الصالح فيه هو الرعية الطائعة والاحتجاج بأبسط أشكاله على عدوان إسرائيلي ينال أخوة في القومية والدين والإنسانية لا يعفي من العقاب، تضيع كلمة التنوير وفكرة التغيير في ملفات المباحث العامة.