إدانة تيسير علوني ، انتقام صغير و إنذار أصغر

الدكتور منصف المرزوقي

 

 

لا أعرف المتهمين الذين حكمت عليهم محكمة  مدريد  يوم 26 سبتمبر بعدد كبير من السنين في السجن لا شخصيا ولا عبر ملفات لم أطلع عليها . لكنني أعرف جيدا تيسير علوني كشخص  كما أعرف  التهم الموجهة ضدّه والحجج التي يقدمها لتبرئة نفسه وذلك  بحكم وجودي في اللجنة الدولية لمساندته التي يديرها بكثير من التفاني هيثم مناع .

وقناعتي التي لا دخل فيها لأي عاطفة أن إدانته  بسبع سنوات سجن حكم سياسي يشكّل  وصمة عار في جبين القضاء الأسباني وضربا لصورة أسبانيا في كل العالم العربي  وأنه عامل خطورة   لن يؤدي إلا لتوسيع الفجوة بين العرب والغرب، هذه الفجوة  التي أحاول أنا وأمثالي من الديمقراطيين والحقوقيين العرب  تضييقها حتى لا ننخرط جميعا يوما في هذيان ذلك المجنون الذي دعا بطريقة بالغة الخبث  لصراع الحضارات.

وعوض أن ندخل في نقاش ملفّ يعرف كل الذين اطلعوا عليه فراغه من الناحية القانونية ، فإن المهمّ فهم مغزى هذا الحكم وذلك حتى يتسنى الآن استنفار كل قوى الحقوقيين والمثقفين والإعلاميين العرب ...لأنهم هم أوّل  من يستهدفهم هذا الحكم الجائر.

وفي البداية لنضع الإدانة في إطارها  العام أي الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وبقية أنحاء العالم ضدّ الإرهاب والمنعطف فيها كما تراه  أحداث 11-9.

وهذه الحرب ليست فقط عسكرية ومخابراتية ومالية وإنما هي أيضا إعلامية وحتى ايدولوجية .

وإذا صح التعبير بأن هناك '' فكر '' معادي للإرهاب فما من شك بأنه يتميّز بضحالته حيث يقتصر تعريفه للإرهاب  على ثلاثة أفكار- بل قل على ثلاثة  شعارات –  بل قل ثلاثة كليشيهات ،هي :

الإرهاب الوحيد الذي يجب التركيز عليه  في العالم هو الإرهاب الإسلامي-1

2-أي محاولة لتفسير ظهوره ووضعه  في إطار عام ، قد يظهر قدم الإرهاب و تعدد أشكاله، هي بمثابة تبرير له  قد يكون حتى نوعا من التحريض عليه  ومن ثمة يمكن أن يقع تحت طائلة العقاب.

3-الحل الوحيد  للقضاء عليه  هو مواجهته بسياسة إرهاب الإرهاب، لا يهم أن تتقلص الحريات الفردية والعامة في كل أنحاء العالم وأن تضرب الديمقراطية المؤسسة على مثل هذه الحريات ،لأن الحرب على الإرهاب هي القضية التي تهون أمامها كل القضايا.

ولو طالبنا هذا '' الفكر'' ومن هم  ورائه من سياسيين وإعلاميين  متلهفين على استعمال الورقة الجديدة لاقتصر التعريف على بداهة وبلاهة هي أن الإرهاب هو عنف الآخر.

لكن الإرهاب كما يراه تيسير علوني، بما هو عضو في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، وحسب المنظومة الفكرية الأخلاقية التي تتحرك على ضوئها في كل القضايا، هو أنه ترويع وارتهان و قتل المدنيين  العزل الأبرياء من قبل طرف مسلّح  خارج ساحة معركة عسكرية محددة  لتحقيق نصر سياسي رخيص الثمن على طرف مسلّح آخر.

ومن هذا المنظار أدان تيسير، مثلما فعلت اللجنة وجل أعضائها ومنهم كاتب هذه السطور  ،بكل وضوح  قتل الإرهابيين لمئات المواطنين العزل الأبرياء في مدريد . وهو نفس الموقف الذي اتخذناه بخصوص إدانة قتل المدنيين العزل الأبرياء في لندن ونيويورك .

لكن هذا الموقف لم يبدو كافيا لتبرئة تيسير بل قد يكون عنصرا إضافيا في ثقل ملفه وربما غدا في ملف كل الحقوقيين والديمقراطيين العرب وغير العرب. فما معنى مثل هذا الموقف ؟ أنه يشكل خطرا على تجانس وتماسك سياسة تريد أن يكون هناك شرّ مطلق  في مقابل خير مطلق و تبسيط وتسطيح للظواهر.

إذا بدأ الديمقراطيون والحقوقيون العرب  التنديد بالإرهاب دون أن يكونوا في صف الحرب الصليبية ومن موقع الاستقلالية والتركيز على الأصناف الأخرى للإرهاب، فكيف يمكن تحقيق الغايات الخفية من السياسة الحمقاء التي تريد إشعال فتيل العنف  بين الأمم والأديان والحضارات.

نأتي هنا إلى  '' جريمة '' تيسير الحقيقية والتي انجرت عن فهمه وفهمنا جميعا للإرهاب. فإذا كان هذا الأخير أكثر من  عنف الآخر... وإذا قبلنا أنه كل أشكال الترويع والارتهان والقتل الذي يستهدف المدنيين العزّل من طرف عنصر مسلح لتحقيق نصر سياسي رخيص الثمن على طرف سياسي آخر..... فإن كل المدنيين العزل الأبرياء الذين قتلوا في الغارات الجوية المكثفة في أفغانستان – ثم لاحقا في العراق- هم ضحايا عمليات إرهابية .

ها قد بدأت تتضح معالم المعادلة التي يجب أن تبقى في الظل وهو أنه بجانب إرهاب الأشخاص مثل كارلوس،  وإرهاب الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل مجموعة بن لادن والظواهري  ، ثمة إرهاب الأنظمة الاستبدادية التي تروع شعوبها بالقتل تحت التعذيب وثمة إرهاب السياسة الأمريكية التي سمحت للطيران الأمريكي( الذي لا يزال يعيش على نظرية وممارسة  الجنرال Curtis le May   في الحرب العالمية الثانية القائلة  بضرورة تدمير مدن العدو احتوت على أهداف عسكرية أم لا )

بقتل عدد مجهول لكنه كبير من المدنيين الأفغان ومائة ألف مدني عراقي كما أظهر ذلك عالم الإحصائيات الأمريكي Les Roberts في  محاضرة قدمها هذا الأسبوع في مؤتمر نظمته المدرسة الفرنسية العليا بباريس  عن العلماء والحرب.

من كان الشاهد الأول والمؤثر  على إرهاب الدولة في أفغانستان وأعطى عنه  كل المعلومات الفاضحة  ؟ تيسير علوني طبعا . هذا بخصوص الانتقام الرخيص.

ماذا الآن عن الرسالة الأرخص ؟ ليس من الصعب فهم فحواها . لتنتبه الجزيرة . لتنتبه الصحافة المستقلة . لينتبه الجميع لكوننا  لا فقط في عصر فكر الإرهاب ولكن أيضا في عصر إرهاب الفكر.

لكننا نقول لكل باعثي هذه الرسالة أنها مرفوضة جملة وتفصيلا. ففي أمريكا عبر رجال شرفاء مثل Les Roberts ونساء شريفات مثل Cindy Sheehan  وفي العالم العربي الإسلامي عبر اللجنة العربية لحقوق الإنسان وعضوها الصحفي الشجاع تيسير علوني ، وفي كل مكان يتواجد فيه ناس يرفضون العنف ويكافحون من أجل عالم يسوده السلام ، ستتواصل إدانة كل أصناف الإرهاب ولن يرهبنا أحد حتى  لا نرى إلا إرهاب الآخر ونعمى عن إرهابه هو ...قناعة منا أن سياسية الكيل بمكيالين ورفض اعتبار الأسباب  التي ولدت الظاهرة هي أهم عوامل تفاقمها .

أما وقد انتقم المنتقمون من تيسير علوني فأنه لا يبقى علينا جميعا سوى التجنّد لإطلاق سراحه ليفهم من كان وراء الحكم أنهم لم ولن يرهبوننا وأنهم  بحاجة لإعادة التفكير في كل حساباتهم التي تظهر الأيام يوما بعد يوم أنها كانت ولا تزال  خطأ وخطيئة.