منذ أن قدمت إلى السويد، قبل 29 عاما، كان جل اهتمامي متابعة الموضوع الفلسطيني هناك من خلال وسائل الإعلام والكتب الحديث منها والقديم، فتعرفت على كل بائعي الكتب القديمة في المدينة التي أعيش فيها، أوبسالا، إلى أن فاجأني أحدهم بكتاب سويدي قديم وقع بيده مصادفة وهو وثيقة نادرة جدا في المكتبة السويدية لكنها لا تلفت انتباه القارئ العادي، فهو مجرد سيرة ذاتية لإنسان كان عاديا في المجتمع السويدي، ولم يترجم الكتاب إلى أية لغة أخرى. إلا أنه مهم جدا في تاريخ قضية فلسطين لم يتم الكشف عنه سابقا.

 ولأهميته أقوم بمراجعة الجزء الخاص بالقضية الفلسطينية لإطلاع المؤرخ والباحث والمثقف العربي والفلسطيني بمناسبة مرور واحد وستين عاما على قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين الصادر بتاريخ 29/11/1947 مع الأمل بتوفر الوقت لترجمة هذا الجزء الذي يلقي الضوء على جانب تفصيلي ومهم جدا لدور مؤلفه السويدي باول مون (1898 ـ 1957) في عملية تقسيم فلسطين. صدر الكتاب عن دار نورستت وأولاده عام 1961.

«طرفا النزاع»

يقول المؤلف: كنت في باريس عندما حصلت على خبر من الوطن بأن الحكومة اختارتني لأكون عضوا احتياطيا في لجنة الأمم المتحدة ـ لجنة لاندكوب التي اقترحت تقسيم فلسطين ـ التي تم تشكيلها لتقترح حلا للمسألة الفلسطينية حيث كان العضو العامل السويدي في اللجنة القاضي ـ الذي أصبح رئيسا للجنة ـ إميل ساندستروم»... «خلال الحرب، في باريس وبعدها أيضا في أثينا وبخارست تعرف على اليهود أكثر بكثير مما فعله أي سويدي آخر»... «ولا أنكر بأنني أعرف عن اليهود أكثر مما أعرف عن العرب وحتى أوازن معرفتي فقد قرأت كتاب النهضة العربية لجورج أنطونيوس» (صفحة 240 و241).

إذا معرفته بالعرب كانت نظرية واستقاها من كتاب كان قد قرأه، بينما معرفته باليهود جاءت عبر صداقات شخصية وهو يرى بأن المشكلة القائمة هي بين اليهود والعرب بشكل عام. فيشرح بأن العرب ـ وليس الكنعانيون لأنهم ربما بنظره ليسوا عربا ـ قد حلوا مكان اليهود في فلسطين عندما طرد اليهود منها في عام 70 بعد الميلاد. وقد كانت الصورة التي يحملها عن العرب مستقاة من موقف الأتراك منهم، حيث عمل عندهم في الباب العالي كموظف في السفارة السويدية. أي أنه لم يأخذ صورة حسنة عن العرب الذين قاموا بالثورة ضد الأتراك حسب تفسيره في مكان آخر في الكتاب.

ويضيف «أدت نتائج الحرب العالمية الأولى إلى تحول جذري في المنطقة... صدر تصريح بلفور ليقول أن «الحكومة البريطانية ستعمل على خلق وطن قومي لليهود في فلسطين... وقد أعطيت مهمة تطبيق الوعد رسميا لحكومة الانتداب البريطاني من قبل عصبة الأمم.. لذا فعندما يوجه العرب جام غضبتهم على الصهيونية فهم بذلك يوجهونه لعنوان خاطئ. فاليهود قد هاجروا إلى فلسطين تحت غطاء دولي قانوني» صفحة (242) وفي مكان آخر يعطي رأيه بمفتي فلسطين قائلا «إن المفتي الأكبر هو بشكل أو بآخر النكبة الأفجع التي أصابت الشعب الفلسطيني، لقد امتد أثره السلبي لأوسع من حدود البلد بكثير»( صفحة 243).

تشكيل اللجنة

يقول الكاتب «تشكلت اللجنة من ما يزيد عن مائة إنسان ـ منهم عدد من النسوة ـ أعضاء السكرتاريا زاد عددهم عن الستين، ممثلين لحوالي عشرين دولة وقد جمعت اللجنة سياسيين وقضاة واقتصاديين وخبراء إضافة إلى 9 مترجمين واثني عشر ستينوغرافيين متمكنين من لغتين.. إن الأعضاء الأساسين في اللجنة هم أحد عشر يمثلون دولا صغيرة من القارات الأربع. خمسة منهم دبلوماسيون وخمسة آخرون من القضاة أما الأخير اليوغوسلافي فوصف بالسياسي... لم يكن أحد منهم يعرف شيئا مسبقا عن قضية فلسطين، ما عدا ربما المحمديين ـ إشارة للمسلمين ـ لم يحصل أي إشارة لكراهية اليهود عند أعضاء اللجنة لكن نمت مع الزمن حالة انزعاج من اليهود عند العديد من الأعضاء».

ثم يتابع مون تعليق على أعضاء اللجنة فردا فردا فيقول «لقد وجد العضو الهولندي، الدكتور نيكولاس بلوم، عددا من أبناء بلده وهم يهود وصلوا فلسطين مما سهل له الحصول على الكثير من المعلومات.. أما الدكتور خورخيه جارسيا جرانادوس ممثل غواتيمالا الذي تعاطف منذ وجوده في بلده مع اليهود... وهكذا كان ممثل أوروغواي الدكتور إنريكو رودريجوس فابريجات... ولم يكن يعارض هذه التوجهات، كالثور الهائج، سوى العضو الهندي المحمدي».

وعن ضباط الاتصال يشرح الكاتب شرحا مفصلا عن شخوصهم ولم يأت على ذكر أن اللجنة قد تعاونت مع أي ضابط اتصال فلسطيني فيقول «وقد شغل مهمة ضابط الاتصال مع الانتداب البريطاني الاسكتلندي دونالد سي ماك جيليفري... وكان يعرف عن سكان البلد من القرية العربية وحتى الكيبوتز اليهودي وكان يتمتع بثقة الجميع»... «وتم إيجاد حلقة وصل مع الوكالة اليهودية من خلال شخصين الأول آوبري إيبان ودافيد هوروفيتش» (صفحات 245 حتى 251).

ويضيف «سكن أعضاء اللجنة في مبنى يهودي جديد يدعى بيت كاديما، وكأنه بني خصيصا لتلك المهمة، يقع في القسم الغربي من مدينة القدس، وبعد أن يذكر الكاتب بأن على اللجنة أن تكون حيادية يتابع «لقد كان نصف السائقين عربا ونصفهم من اليهود... ولم يكن من المعقول أن توظف البنات العربيات كخادمات تنظيف مما سمح لإشغال هذه المهمة لبنات يهوديات، الأمر الذي رجح الكفة اليهودية وتبين أن الخادمات اليهوديات أكاديميات وكن يتمتعن بأشكال مريحة للنظر. وكن يأتين بآذان صاغية وعيون مفتوحة، الأمر الذي رشح المعلومات المفيدة بالاتجاهين بما يخص عمل اللجنة» ويقول «لقد تعرقلت دراسات اللجنة منذ البدء بسبب مقاطعة الفلسطينيين العرب للجنة.. ولم يكن لكل من المفتي الأكبر وأمين الجامعة العربية عزام باشا مانعا في الدخول بلعبة موازين القوة... الأمر المؤسف وخاصة أنه لم يكن لدى معظم العاملين في اللجنة معلومات مسبقة عن القضية الفلسطينية.. وبهذا ترك العرب الساحة لليهود الذين ملؤوها بل أغرقوها بالمعومات والدعاية» (صفحة 252).

ثم يتابع مون الحديث عن نفسه في هذه النقطة قائلا «كنت متحفظا لقبول المعلومات وأردت بكل حماسة الحصول على المعلومات بنفسي لأكون موقفا شخصيا... الأمر الذي جعل اليهود متخوفين من دوري وأخبرني دافيد هوروفيش بأن قادتهم قد وصفوني بالمعادي».

زيارات ميدانية

اعتمدت اللجنة الزيارات الميدانية، وكان عددها إحدى عشرة جولة في طول البلد وعرضه يقول الكاتب بأن الرحلات تلك أخذت الجانب السياحي الديني أكثر مما شغلته وظيفيا، كما واعتمدت أسلوب المقابلات والاجتماعات ويعود الكاتب ليؤكد مرة أخرى أن مقاطعة العرب للزيارات والمقابلات سهلت على اليهود التعبير عن رغباتهم وطموحاتهم.

ثم يعرض باول مون لطريقة تفكيره وعمله ـ فيقول مثلا في الصفحة 255 «لم يكن لي دور كبير كعضو احتياط في اللجنة، فبدأت أفكر مطولا بماهية الحلول المناسبة لقضية فلسطين. وكان أقربها التفكير بتقسيم البلد، لكن كيف سيتم ذلك وأين لنا أن نرسم حدود التقسيم, وقد شغلني هذا الأمر لمدة أسابيع وأشهر. وتعاملت مع الموضوع كهواية والذي كان ينقصني من حيث الأهلية هو الشروط الفنية والعلمية.. لقد كان ينقصنا في لجنتنا الكبيرة مثل تلك الخبرات» ويفسر مون بأن فكرة التقسيم التي طرحت قبل حوالي عقد سابق من الزمن على يد لجنة بيل كانت هي الأقرب لأفكاره في الحل.

ويتابع المؤلف «مع إيراد أرقام إحصائية تفيد بأن العرب كانوا مليون ومائتي ألف بينما اليهود 650 ألف فإن أول ما فكرت به هو الحصول على معلومات عن التوزع السكاني في فلسطين لذا توجهت للسلطات البريطانية التي زودتني بثلاثة أوراق تحتوي على الخرائط، مرسوم عليها حدود كل منطقة، وتوزع السكان حسب فئاتها الأربع، مدونة أرقامها بخط اليد وقد تم تمثيل أرقام المحمديين باللون الأسود واليهود باللون الأحمر أما المسيحيين، وهم بمجموعهم عرب فباللون الأزرق وما تبقى فبالأخضر.

وكانت الإحصاءات تلك تمثل شهر 12 من عام 1946 للنظرة الأولى يجد المرء أن البلد بأكملها مغطاة باللون الأسود أي أنها عربية» (صفحة 256). وفي الصفحة 257 يقول «لقد كانت فلسطين مقسمة إلى ستة عشر منطقة إدارية، واحدة منها فقط شكلت أكثرية يهودية. وكان ذلك يعني مؤشرا سلبيا لليهود فما كان علي سوى رمي الألوان في سلة المهملات لكن ورغم ذلك تابعت الرسم والتلوين دون كلل أو ملل إلى أن أنجزت ما يزيد عن ثلاثين خطة تقسيم، كان أكثرها يتميز بالجرأة وليس بالعقلانية والمنطق.

وتابعت مجربا كافة الاحتمالات وكان ينتابني أحيانا مشاعر مفزعة من عملي هذا فإذا جررت القلم مليمتر واحدا بأي اتجاه فإن ذلك يعني تغييرا دراماتيكيا لحياة آلاف الناس الأبرياء» (صفحة 259).

ويتابع مؤلف الكتاب وصفه وتبريراته للكيفية التي اعتمدها في رسم حدود كل منطقة في فلسطين ويظهر من خلال حساباته بأنه هو والإنجليز والإسرائيليين يعتبرون أن بدو فلسطين ليسوا عربا، فهم يدرجون وحتى الساعة في إحصاءات لوحدهم، وهي سياسة غربية مقصودة للتقليل من حجم الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني. ويصل مثلا الكاتب في رسم الإحصاء النهائي بعد تقسيماته الديمغرافية البعيدة عن العقلانية والمنطق، في الصفحتين 264 و265 إلى القول:

«إذا أضفنا للأرقام المنقحة عدد السكان البدو فتصبح النتيجة النهائية كما يلي:

يكون سكان الدولة العربية 827000 من العرب و10000 من اليهود

ويكون سكان الدولة اليهودية 425000 من العرب و498000 من اليهود

أما سكان القدس 105000 من العرب و100000 من اليهود

وإلى حد كبير فالدولتان متساويتان من حيث عدد السكان، مع العلم بأن الدولة اليهودية تحتوي على نسبة عربية كبيرة جدا. هذا ومن المعروف بأن الازدياد السكاني في الولادات عند العرب أكثر بكثير مما هي عند اليهود، الأمر الذي يسبب مع الزمن زيادة عدد العرب عن اليهود، إلا إذا تعادلت الأعداد من خلال هجرة اليهود، أو فاق هذه الزيادات.

أما من وجهة النظر الاقتصادية فإن التقسيم هذا هو ليس لمصلحة العرب، وهذا ما يمكن شفاؤه من خلال اتحاد اقتصادي بين الدولتين... إن تقسيم فلسطين كان مشكلة من نفس نوع مشكلة الدائرة والمربع، وكانت من الأفضل البحث لحل المشكلة اليهودية من خلال خطط أخرى ففي بدايات القرن عرضت بريطانيا على اليهود وطنا قوميا في كينيا» ويعود الكاتب باقتراحات أخرى لمنح اليهود أراض في مناطق أخرى من العالم.

وبما يخص العرب يقول، باول مون في معرض كتابه بعد الانتهاء من مهمته في الرسم والتقسيم، ومهمة اللجنة بشكل عام «إن اللقاء مع القادة العرب في بيروت لم يؤد سوى إلى لا شيء ولم نحصل هنا سوى على الطعام اللذيذ ليس هناك أكثر نحسا من أن تجتمع مع العرب بشكل جماعي، إنهم يحاولون دائماً المزايدة على بعضهم البعض في عدم المساومة، وبالصدفة فقط يمكنك الحصول على شيء مفيد وعقلاني منهم. ولايمكن أن تقرر شيئاً مع واحد منهم منفرداً، وعندما يبدأ المرء بالحديث معهم، يبدأون فوراً بالتمثيل على بعضهم (صفحة 267) وأتى الكاتب بمثال عن لقائه بالملك الأردني عبد الله.

ربما بالغ مون بتقديراته، لكن مرور 60 عاماً على كلماته تلك والخبرات المتواصلة لما وصل إليه العرب في هذه الأيام يجعل كلام هذا الرجل قريباً من الحقيقة إن لم يكن مطابقا لها.