جاء في التقارير الاخبارية مطلع هذا الشهر أن رئيس غينيا بيساو جواو برناردو فييرا (الذي أطاح بالرئيس لويس كابرال في 1980 أي شقيق أميلكار كابرال الذي اغتيل عشية استقلال بلاده في 1973) لقي حتفه على أيدي جنود، وذلك بعد ساعات من ورود أنباء عن مقتل رئيس أركان جيش غينيا بيساو باتيستا تاجمي نا واي في هجوم استهدف مقر قيادة الجيش في العاصمة بيساو. وكان الصراع بين رئيس الأركان ورئيس الدولة قد أبعد الأخير عن الرئاسة ليعود قبل ثلاث أعوام بانتخابات عامة. وإن كان المرء يذكر هذه التفاصيل فليختصر حقبة ما بعد الاستعمار البرتغالي في صراع كان للإنقلاب العسكري والاغتيال السياسي دورهما في وشم الحياة السياسية لتختصر هذه الدولة الصغيرة أزمة قارة بأكملها.
وإن كان الموت قد أخرج قطبي الرحى في غينيا بيساو من الملعب السياسي دون غالب أو مغلوب، فوجود أكثر من رئيس في بلد مثل موريتانيا، أحدهما انتخب في حفلة خروج من الدكتاتورية، والثاني تنصب في عملية مصادرة لانتقال أصبح مكلفا لضباط ولد الطايع، هو الذي حوّل هذا البلد بضربة غضب لجنرال حديث العهد بالرتبة، من معقد آمال إلى مصدر قلق وأرق عند كل الديمقراطيين من عودة القارة الأفقر والأكثر هشاشة في تركيب دولها وهياكل اقتصادها والتماسك الاجتماعي والثقافي إلى مستنقع الإنقلابات العسكرية باعتبارها الطريق الأقصر للتداول على السلطة.
ومن مساخر الأقدار، تضافر عوامل متباعدة ومتنافرة في عملية عودة الاعتبار للمؤسسة العسكرية بعد أن فقدت بريق "الإنقلابات الثورية والتصحيحية" التي جعلت القارة السوداء تشهد 276 إنقلابا في أقل من ربع قرن من معارك التحرر الوطني ونزع الاستعمار. فإذا بانتهاء المواجهة بين "الشرق والغرب" التي كانت عاملا قويا في تحديد معالم البنية الجيوسياسية الافريقية، وتراجع الدفاع الشمالي عن الديمقراطية منذ تراجع الخوف الغربي من اليسار وبدء ما يسمى الحرب على الإرهاب، انفلات عقال البرنامج الاقتصادي الليبرالي الجديد، وأعمال الخصخصة المتوحشة وبرامج الاصلاح البنيوي المتفككة المتسارعة، البرامج الاجتماعية المقنعة واستغلال اليد العالمة بشكل وقح وأسعار المواد الأولية الزهيدة والاحتيال والاجراءات التجارية التي لا مصلحة للبلاد فيها الخ، إنفجار أزمة الديون وفشل مشاريع التنمية وفساد الموظفين صغاراً وكباراً. إلا أن عاملين بارزين فتحا المجال لهكذا عودة، رغم الوعي الإفريقي لمخاطر استبدال الشرعية السياسية بالشرعية العسكرية:
الأول: التجهيل العام، وضحالة الثقافة السياسية والمدنية لدى القيادات السياسية والمثقفين المحليين،
والثاني: التدخلات الوحشية للشركات الغربية المتعددة الجنسية. والتي يختصرها سؤال الخبير الإفريقي ألفونس بوي: "من يستطيع أن يوقف توتال في الكونغو وأنغولا؟
المؤسسة العسكرية تعود بدون برنامج تنموي وفي غياب كامل لأفق سياسي ومشروع نهضوي وتنموي. تعود باعتبارها الحزب المسلح الأكثر تنظيما في المجتمع، القادر على الجمع بين خطاب الثورة وفساد الثروة، والمهمِّش الطبيعي للقوى المدنية والحياة السياسية باعتبارهما عوامل خطر على مشروع يلغي الحقوق الأولية لأي مجتمع في أن يبتكر ويطمح ويحلم ويفكر بمستقبل أفضل لأطفال بلاده. هذه العودة القوية للجيش تحمل معها عودة موازية للميليشيات المسلحة (الليبرالية بالمصلحة والديكور، الموالية للولايات المتحدة أو إسرائيل باعتبار ذلك شرطا واجب الوجوب لعدم تصنيفها على لوائح الإرهاب). ولا ضير في وضع كهذا، من أن يصبح التسليح العسكري أهم من التأهيل العلمي، والسيطرة على الوحدات والفرق الهاجس الأول للحاكم. ضوابط اللعبة السياسية تنقلب رأسا على عقب، ويصبح إفساد الضباط، وليس كسب المواطن، السبيل لاستقرار الضابط الأقوى على مقعد الرئاسة.
زرت موريتانيا في الشهر الثاني من 2008، كان الخطاب السياسي المشترك لأهم أحزاب البلاد يتلخص في DDD، أي الديمقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية الاجتماعية والكرامة (في حل مشكلة المهجرين وجريمة العبودية). كانت المشكلات كبيرة وجسيمة ولكن هناك روح مقاومة لها ورغبة في تحجيمها وحلها. زرت نواكشوط في ديسمبر 2008 بعد الإنقلاب العسكري، رأيت الضباب يخفي شروق الشمس، والخوف من المستقبل يسيطر على النفوس، والأمل يصاحب السراب.. ورغم اختلاط العديد من الأوراق وارتباك الرؤية السياسية عند أطراف حزبية عدة، وغلبة الذاتي على الموضوعي في مواقف أكثر من طرف، كان هناك في أعماق الجميع، حالة عدم اطمئنان لمصير البلاد. هذا هو المعنى الأقوى والأعمق لاختزال الوطن في مؤسسة واحدة من مؤسساته، أحسن ما يعطيها الاحترام والتقدير المجتمعيين، ليس خوف المواطنين منها، بل خوف أعداء البلاد من أن يتجاسروا على سيادتها.
------------
مفكر وحقوقي عربي