1 ـ كيف تقرأ قرار محكمة الجنايات الدولية بشأن الرئيس البشير من الناحية القانونية؟

قرار المحكمة من الناحية القانونية قوي ويعكس قراءة نقدية لمذكرة أوكامبو، وهو يتضمن أكثر من عنصر لفتح المجال لمحاكمة عادلة ومتوازنة للسببين التاليين:

أولا اعتباره أركان جريمة الإبادة الجماعية غير متوفرة. الأمر الذي يعني التعامل مع جرائم ارتكبت وشاركت فيها ميليشيات مناهضة للحكومة وأخرى موالية لها وقوات نظامية سودانية.

ثانيا فتحه الباب للتحقيق في  الجرائم قامت بها قوات متمردة وليس فقط قوات حكومية أو شبه حكومية تقع ممارساتها ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
- هل تريد القول أن إلغاء تهمة الإبادة الجماعية في قرار المحكمة يعكس موضوعية المحكمة؟

لقد اعترضت منذ اليوم الأول على تهمة الإبادة الجماعية، وكتبت مذكرة من أربع نقاط حول ذلك، مخالفا رأي مجلس النواب الأمريكي و Save Darfour والفدرالية الدولية ومركز استقلال القضاء والمحاماة. أعطاني القضاة الحق في وجهة نظري. أما بشأن الموضوعية، أريد التذكير بنسيان متعمد لمرحلة أساسية من تاريخ ملف دارفور. لقد طلبت عدة منظمات غير حكومية من المدعي العام استعمال صلاحياته ومباشرة التحقيق من تلقاء نفسه قبل تدخل مجلس الأمن، خاصة وأن لجنة التحقيق التي شكلها كوفي عنان قبل خمسة أشهر قرار مجلس الأمن برئاسة القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيسي تحدثت عن انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان. وقد رفض أوكامبو القيام بذلك، فهو بطبعه وطريقة عمله محافظ وغير مقدام. وعندما طلب منه مجلس الأمن في 31/3/2005 تقدم بحذر في الموضوع. السلطات السودانية نصبّت أوكامبو عدوا شخصيا منذ اليوم الأول رغم علمها بهذا التفصيل الهام. بل صورته المسؤول عن ملاحقة المسؤولين السودانيين. المسؤول الأساسي بالمعنى السياسي هو حليفي السودان الصين وروسيا اللذين رفضا استعمال حق الفيتو لوقف قرار مجلس الأمن. أي أن الحكومة السودانية خسرت المعركة السياسية قبل خسارتها المعركة القضائية. وأدى عدم تعاون السلطات السودانية مع المحكمة إلى وضع المدعي العام أمام خيار واحد هو الاستماع ومتابعة وجهة نظر المنظمات غير الحكومية والقوات المتمردة. وأصبح بشكل أو بآخر بحاجة لهذا الطرف لاستكمال عناصر الإتهام. نحن لدينا إثباتات مثلا على أن جناح عبد الواحد مثلا يجند أطفال دارفوريين في ميليشياته. ومع هذا لم يصدر بعد مذكرات توقيف بحق من ارتكب جرائم من المسلحين الدارفوريين، لأن عددا من الشهادات والمعلومات الأساسية في ملف دارفور وفرها هذا الفصيل أو ذاك للمحكمة. أظن بأن أول خطأ كان من طرف الحكومة السودانية التي تعاملت بازدراء ورفض مع قضية المحكمة الجنائية الدولية، وللأسف هذا الخطأ لم يتم تداركه حتى اليوم.   
    هل سيساعد القرار على حل قضية دارفور وتحقيق السلام والاستقرار؟
- هذا سؤال أساسي وهام، فالحماس السياسي يمكن أن يتأرجح بين منصف المرزوقي الذي يعتبر كل قرار بحق حاكم عربي يفتقر للشرعية والمصداقية  انتصارا للديمقراطية، وعزمي بشارة الذي يعتبر العدالة الدولية بشكلها السائد إحدى أدوات السلطة التنفيذية الدولية المسماة (مجلس الأمن). أنا أعتقد بأن معركة صيرورة العدالة الدولية طرفا أساسيا في تقرير مصير كوكبنا معركة قاسية وصعبة وطويلة الأمد. المحكمة "ليست أكثر من قطعة من قطع أحجية صنع السلام"، هذه الجملة ليست لي وإنما للسيد أوكامبو. من هنا مشروعية السؤال حول ما يترتب على قرار المحكمة في كل ما يتعلق بالأمن والسلام وإعادة اللاجئين والقدرة على القيام بتحقيقات ميدانية مستقلة جديرة بالتسمية في إقليم دارفور؟ مطلوب من الجماعة الدولية وأطراف الصراع السودانية الرد على هذا السؤال وليس من المحكمة الجنائية الدولية. بالتأكيد العدالة والسلام يتكاملان، ولكن الدول الكبرى أخطأت والدول العربية غابت والدول الإفريقية اضطربت وكانت النتيجة استمرار مأساة أهل دارفور. إن كان من قيمة سياسية لهذا القرار فهو استنفار الحكومة السودانية للبحث الجدي السريع عن حلول تخرج قرابة مليوني إنسان من وضع لا إنساني يعانون منه. وأريد أن أقول للحركة السياسية المتمردة في دارفور، أنتم طرف في الأزمة والجرائم، تركيز المدعي العام على الحكومة لا يعني أنكم أبرياء، وفي حال حدوث محاكمة عادلة، لن تكونوا خارج المحاسبة. من هنا دوركم وواجبكم  في التعامل مع قضية إنقاذ دارفور بحكمة جماعية وبعد نظر لم نره من مختلف أطرافكم حتى اليوم. ولكي تكونوا طرفا مقبولا من المجتمع السوداني، عليكم الخروج من منطق الاستكبار والاستقواء بالخارج الذي دفع أهلكم ثمنه غاليا حتى اليوم.


 السودان يتحدث عن أنه ليس عضوا موقعا عن المحكمة وأنه لن يلتزم بها، هل هذا القرار مشروع؟

هذا القرار سابقة، ويسمح لنا بمحاكمة أطراف غير مصدقة مثل الدولة العبرية، ليس في ميثاق روما ما يمنع ذلك، هناك قراءة مختزلة تقول بأن فضاء المحكمة هو فضاء التصديق، وقراءة دينامية تقول بأنه لا يوجد مناطق خارجة عن القانون الدولي لأنها خارجة عن نطاق التصديق، فالجريمة هي الجريمة والاختصاص عالمي لا حدود له. إدارة بوش وقعت أكثر من 72 اتفاق ثنائي لعدم تسليم الأمريكيين للمحكمة الجنائية الدولية، بل وهدد رامسفيلد بإرسال فرقاطة للإفراج عن أي معتقل أمريكي في لاهاي، لكنه نفسه هرب من باريس عندما طالبت منظمات حقوق الإنسان باعتقاله لتوزيعه مذكرة تبيح التعذيب أثناء ممارسته مهمته كوزير دفاع.  اليوم هناك نقاش واسع حول المحكمة الجنائية والاختصاص الجنائي العالمي وعلى أساس التقدم الكبير لأهمية العدالة الدولية ودورها في عالم أقل همجية نحتفظ بحصة من الأمل في العديد من التحركات.
بعض المهتمين بشأن المحكمة يعتقدون أن مذكرة البشير هي الخطوة الأولى لإصدار مذكرة بشأن القيادة في سورية في محاكمة المتهمين باعتقال الحريري التي بدأت هذا الشهر، هل ترى ذلك، وكيف تنظر لمصير محكمة الحريري؟

-هناك فارق كبير بين المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الخاصة. المحاكم الخاصة لها نقاط ضعفها وقوتها ويصعب المقارنة. لقد بدأت محكمة الحريري في حفلة محاصرة السلطة السورية، ولم تكن تسمية ديتليف ميليس بريئة، فهذا المحقق الذي شيد رصيده الشخصي على نظرية "الدولة هي الحارس الفعلي لكل إرهاب" لم يفهم أن العولمة جعلت من الإرهاب ظاهرة دول وجماعات، بل وأفراد، وأن التحقيق الأدق هو التحقيق الذي ينطلق من الصفر ولا يبدأ من حيث انتهت التصريحات السياسية. لم يكن ميليس حذراً وغاص في المقبلات اللبنانية، فتم إبعاده بهدوء لتحجيم الخسائر. وكان تسلم البلجيكي سيرجي براميرتس نقلة لتصرفات أكثر جدية وأقل تسيسا. لكن في موضوع الحريري نحن أمام قضية سياسية قضائية. أولاً، لأنها في يد مجلس الأمن، أي المؤسسة السياسية في الأمم المتحدة بامتياز. وثانياً، لأن من السذاجة الحديث عن الاغتيال السياسي والقتل خارج القضاء دون الوقوف عند الأبعاد السياسية للجريمة التي تشكل عنصراً مركزياً في التحقيق. إلى أي حد ستنجح المحكمة في تحديد البعد السياسي بعد غياب شيراك وبوش، هذا هو التحدي الأهم أمام تجربة خاصة لا يمكن تعميمها.


هل ستقبل المحكمة الجنائية الدولية فتح التحقيق في غزة، وهل ستتحول غزة إلى وسيلة لإنقاذ مؤسسات العدالة الدولية الدولية؟

-        شئنا أم أبينا، نجحت الحركة المدنية الحقوقية (عبر التحالف الدولي لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين) في تحويل قضية غزة من موضوع يتبناه المجتمعان العربي والإسلامي إلى قضية دولية. اليوم أكثر من ست ملايين عضو في 460 منظمة غير حكومية ونقابة يطالبون المدعي العام أوكامبو بفتح التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي. ولأول مرة، المجتمع المدني والسياسي في بلد (فلسطين) يقبل باختصاص المحكمة الجنائية ويطالب أوكامبو بالتحرك. رسائل من كل وزراء العدل الفلسطينيين والمجلس التشريعي ورسالة تكليف رئاسية للدكتور علي خشان وزير العدل الفلسطيني لمتابعة الملف مع أوكامبو وتسجيل طلب التصديق الفلسطيني عند موثق المحكمة. ولقد كنت حاضرا في لقاء المدعي العام والدكتور علي الذي دام لساعتين ونصف وتم تناول كل جوانب الموضوع. المحكمة الجنائية الدولية اليوم أمام مفترق طرق، بل لنقل المدعي العام أمام مفترق طرق: إما أن تصدر بحقه مذكرة تسريح معنوية من المنظمات المدنية المناضل من أجل عدالة واحدة، وليس فقط من المجتمعات العربية والإسلامية أو أن تتحرك المحكمة وتباشر التحقيق في جرائم الإسرائيليين. أركان الجريمة موجودة، عناصر الاختصاص كلها متوفرة، التوثيق يجري على قدم وساق، ولا أبالغ إن قلت أن ما يتوفر من أدلة وشهادات يفوق ما في ملفات إفريقية يعمل عليها المدعي العام منذ أكثر من عام . هذه هي المعركة التي نخوضها من أجل إنقاذ المحكمة الجنائية الدولية أولا وإقامة العدل ثانيا. وأظن بأن عدد كبير من القضاة والعاملين في المحكمة والدول المصدقة تعي أهمية خطوة كهذه تثبت بالملموس أن المحكمة الجنائية ليست خاصة بالسود والعرب؟
القدس برس 5/3/2009