خلال الأسبوع الماضي شاءت الظروف والأحداث والاجتماعات التي شاركت بها، أن تضعني أمام الصورة السوداء لحالة الحريات في الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد قرأت تقارير واستمعت مباشرة الى كم هائل وفظيع من الحكايا التي تقشعر لها الأبدان، حول القتل وإطلاق الرصاص على الركب والاقامات الجبرية التي تطال المئات، وعن الاعتقالات اليومية والتي طالت المئات والتعذيب الذي يشمل شبح العشرات يوميا، وخلع الأظافر، وتحويل العديد من المعتقلين الى غرف العناية المشددة جراء التعذيب، الذي أدى الى عدة حالات قتل أو "انتحار" داخل المعتقلات الفلسطينية.
كأن الفلسطينيين لا تكفيهم المجازر وأعمال القتل والتعذيب والاعتقال التي يقوم بها الاحتلال، والتي وصلت الى حد استشهاد عشرات الآلاف، وجرح أ ضعافهم، والى اعتقال حوالي مليون فلسطيني منذ عام 1967 وحتى الآن، لا يزال أكثر من 11 ألف منهم يرزحون وراء القضبان.
ورغم أن الاحتلال لم يميز ولا يميز حتى الآن في اعتداءاته ضد الفلسطينيين بين فلسطيني وآخر، بين معتدل ومتطرف، بين "فتح" و"حماس" ومستقل، بين رجل وامرأة، طفل وشيخ، رجل علم ودين وقانون وثقافة، بين مسيحي ومسلم، إلا أن الفلسطينيين دخلوا منذ سنوات في حلقة جهنمية من الاحتراب الداخلي، بدأت بحالة الفوضى والفلتان الأمني، ومرت بمراحل ازدواجية السلطة، والسلطة برأسين، الى أن وصلت الى حد الحسم العسكري والانقلاب وإقامة سلطتين واحدة في الضفة، والأخرى في غزة.
صحيح أنه بعد اتفاق أوسلو شنت السلطة حملة اعتقالات واسعة ضد معارضي اتفاق أوسلو من الذين استخدموا العمليات المسلحة ضد الأهداف الإسرائيلية خصوصا ضد اسرائيل طريقا لإسقاط السلطة أو على الأقل إضعافها وإفشال طريقها لحل الصراع عبر المفاوضات، إلا أن هذه الاعتقالات، لم تؤد الى تفاقم الموقف لأن هناك قيادة واحدة، "وأمل" بالسلام، وكانت السلطة تعتمد سياسة الباب الدوار، أي أن الاعتقالات لم تستمر طويلا وطوي ملفها بسرعة.
أما عشية الانقسام وما بعده فقد تفاقمت الحالة الى حد الاقتتال الذي سقط ضحيته المئات وجرح أضعافهم بعضهم أصيب بإعاقات دائمة، وتفاقمت الأمور الى حد أن الاعتداءات على الحقوق والحريات أصبحت سلوكا يوميا، وليست أحداثاً عابرة، بحيث نافس الفلسطينيون بأعمالهم القمعية الاحتلال، لدرجة أن بعض المعتقلين الذين سبق وأن اعتقلتهم قوات الاحتلال يقولون "رزق الله على أيام سجون الاحتلال". وما يدمي القلب، أن في الأسرة الواحدة يوجد معتقلون في سجون الاحتلال والأب أو الأخ في سجون السلطة.
لا يمكن الهرب من مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، التي طالت الشجر والحجر والمؤسسات وتقييد الحريات، بحيث شملت الاعتقالات صحافيين والتهديدات طالت مؤسسات صحافية، بالقول إن ثقافة العنف، أو ضعف التقاليد والتجربة الديمقراطية، وغياب أو ضعف القضاء وسيادة القانون، هي الأسباب المسؤولة عما جرى ويجري حتى الآن. ورغم أن هذه الأسباب تلعب دورا كبيرا في وجود هذه الظاهرة، إلا ان حماية حياة وحقوق وحريات الإنسان لم ت عد حكرا على البلدان المتقدمة، البلدان الديمقراطية، وإنما هي قيم وأخلاق وأنظمة تغلغلت في أرجاء مختلف أنحاء المعمورة. لذا لا بد من الدخول في الجذور والبحث في بقية الأسباب التي تبرر كل هذا العنف وكل هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان.
أولا وقبل كل شيء، هناك الصراع على السلطة والقيادة والتمثيل الفلسطيني، وما يعنيه ذلك من مصالح ومواقع ومكاسب ومناصب ونفوذ، ومن خلافات برامجية وعقائدية ومن تأثير للعامل الإسرائيلي الحاسم. ففلسطين تحت الاحتلال، وكذلك تأثير العوامل العربية والإقليمية والدولية، فهناك انقسام عربي - إقليمي يترك آثاره الحادة على ما يجري في فلسطين بوصفها حلقة ضعيفة وورقة يمكن استخدامها وقضية مقدسة يمكن أن تجذب الاهتمام على مختلف المستويات والأصعدة.
ثانياً: إن وجود انقسام يعني وجود رأسين وسلطتين ومجموعات تدافع عن كل منهما، وخشية من كل سلطة أن تنجح غريمتها بإسقاطها أو إضعافها سلماً أو حرباً لذلك تسعى لتثبيت ركائز سلطتها. وبدلا من تركيز التنافس على تقديم النموذج الأفضل في كل المجالات بما فيها احترام حياة وحق وق وحريات الإنسان، يتم التنافس الشديد من خلال القمع.
فالسلطة في رام الله تقول إن الانقلاب الذي نفذ في غزة له امتدادات في الضفة، وإذا لم يتم القمع سيمتد الانقلاب الى الضفة. ووجدنا كيف أن هذه الخشية أصبحت "بعبعاً" للسلطة أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير لدرجة الإقدام على تقييد التحركات الشعبية ضد العدوان خشية من الانزلاق نحو الفوضى والفلتان الأمني، وتحول المظاهرات من مجراها الطبيعي وهو إدانة العدوان والمساهمة في الكفاح الفلسطيني لوقفه ودحره، الى استهداف السلطة بحجة أنها مدانة أو متواطئة أو لم ترتق الى مستوى التحديات والمسؤوليات المترتبة على العدوان.
وما تحاول أن تخفيه السلطة أن ما تقوم به من اعتقالات وسحب السلاح وفرض سلاحها الشرعي كسلاح وحيد، يندرج في سياق تطبيق الالتزامات الفلسطينية في خارطة الطريق والتي تقضي بمحاربة العنف والإرهاب (أي المقاومة) حرباً لا هوادة فيها وتصفية بنيتها التحتية وسحب سلاحها واعتقال المقاومين أو الذين يمكن أن يمارسوا المقاومة في المستقبل. إن هذه النقطة هي نقطة الضعف القاتلة التي وضعت الكثير من علامات السؤال على ممارسات السلطة، ولم تظهرها كمجرد رد فعل طبيعية على الانقلاب، وإنما لها حسابات أخرى وتصب في مجرى آخر، وما أضعف السلطة كثيرا أنها تقوم بتنفيذ التزاماتها بخارطة الطريق بكل جدية بينما اسرائيل لا تنفذ أيا من التزاماتها بل تواصل العدوان والاستيطان والحصار والجدار وتقطيع الأوصال بما في ذلك الاغتيالات والاقتحامات والاعتقالات اليومية في مختلف مناطق السلطة، ما جعل السلطة تبدو كمتعاون مع الاحتلال. هذا الأمر كان يوجب على السلطة أن تفكر مليون مرة قبل أن تعتقل أي شخص لم يثبت أنه متورط بأعمال أو بالتخطيط لأعمال للمساس بالسلطة. كما يتوجب على السلطة أن تعود الى مكانها الطبيعي كمرحلة على طريق إقامة الدولة الفلسطينية وذراع من أذرعة "م.ت.ف" وأداة لخدمة البرنامج الوطني.
فلا يمكن قبول انتهاك حقوق الإنسان وحرياته في الضفة تحت عنوان منع امتداد الانقلاب، من خلال اعتبار كل حمساوي مداناً حتى تثبت إدانته. فلا يكفي إلقاء التهم جزافاً على أي شخص واعتبار أنه يسعى للانقلاب أو لتمويل الانقلاب لمجرد أنه يملك سلاحاً أو يتلقى أموالاً، أو ل مجرد الشبهة بهذا أو ذاك. فرغم آلاف المعتقلين خلال ما بعد الانقلاب حتى الآن لم يتم إدانة أحد قضائياً، وكل الذين عرضوا أمام محكمة العدل العليا أصدرت قرارات بالإفراج عنهم ، والباقي ترفض الأجهزة الأمنية عرضهم على محكمة العدل العليا. وبعد ذلك نسمع قيادات السلطة تقول إنه لا يوجد معتقلون سياسيون. أن كل معتقل لم يحول الى القضاء ولم يصدر حكم من المحكمة ضده، أو اعتقل بشكل غير قانوني هو معتقل سياسي ويجب الإفراج عنه ومحاسبة الجهة أو الفرد أو الأفراد الذين أصدروا أو نفذوا الأوامر باعتقاله، كما أن السلطة تتحمل المسؤولية الأساسية بوصفها صاحبة الصلاحيات والولاية القانونية. فلا يعقل أن تكون لدينا انتهاكات بهذا الاتساع، ولا تعرف السلطة من الذي يتحمل المسؤولية عنها. فإن تبدو السلطة عاجزة لا يعفيها من المسؤولية، فهي تتحمل المسؤولية عن كل ما يجري من انتهاكات من أفراد ينتمون إليها ومفترض أن يخضعوا للسياسات والأوامر الصادرة منها.
أما في غزة، فالوضع على صعيد حياة وحقوق وحريات الإنسان أسوأ، لأن الانتهاكات وصلت الى حد القتل وإطلاق الرصاص على الأرجل وفرض الإقامة الجبرية، ولا يوجد هناك محكمة عدل عليا يمكن اللجوء لها. والتهمة التي تستخدم في غزة أخطر من مثيلتها في الضفة، وهي أن القتلى من العملاء. السؤال هو: إذا كان الذين قتلوا أثناء العدوان من العملاء، والوضع الحربي لم يسمح بالتحقيق، وهذا بحاجة الى تدقيق ومحاسبة فلا يمكن إعدام كل من يتهم بأنه عميل بدون تحقيق ولا قضاء ولا لجان وطنية أو ثورية أو دينية تتحمل المسؤولية، فما الداعي لقتل العديدين بعد العدوان وإطلاق الرصاص على الأرجل وفرض الاقامات الجبرية. فلا يمكن إتهام المناضلين بالعمالة واعتبار كل فتحاوي عميلاً الى أن يثبت العكس.
إن استمرار حملات التحريض الإعلامية والانتهاكات حتى بعد الشروع في اللقاءات الفتحوية الحمساوية ومع اقتراب الشروع في الحوار الوطني الشامل، وتزايد الفرص بالاتفاق وإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، يعكس أن هناك أفراداً وشرائح هنا وهناك لا تريد انجاح الحوار، وتريد استمرار الانقسام، وإذا كان لا مفر من الوحدة، يسعى هؤلاء، لكي تكون وحدة شكلية من فوق فقط، أي لا تؤدي الى إنهاء وتغيير واقع الانقسام، بحيث يبقى كل شيء على حاله، ويتغطى بحكومة واحدة، تسمى حكومة وحدة وطنية، أو حكومة وفاق وطني، يتم الاتفاق عليها، لكي يتم التوصل الى تهدئة ورفع الحصار وفتح الحدود والمعابر، وإبقاء طريق المفاوضات مفتوحا على الأقل من الجانب الفلسطيني، فالجانب الإسرائيلي أصبح بعيدا جدا عن السلام وأكثر مما كان في أي وقت مضى.
إن إنهاء الانتهاكات بحاجة الى جهود فلسطينية متعاظمة لإدانتها ولمحاسبة مرتكبيها ونشر الثقافة الوطنية والديمقراطية، ويقتضي أيضا بناء قضاء مستقل وفاعل، وخضوع الجميع لسيادة القانون، وقيام المؤسسات التشريعية بدورها الرقابي والمحاسبة، ووسائل الإعلام بدورها الرقابي، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بإنهاء الانقسام. فالانقسام هو جذر الصراع، وبدون إنهائه ستكون أية خطوات للتهدئة الداخلية مؤقتة وقابلة للانهيار.