اللجنة العربية لحقوق الإنسان

الصحافة السورية واقع بلا أمل

    أسامة المصري

 

 

     ربما خبأ السوريون طموحاتهم وآمالهم لعدة عقود وانتظروا طويلاَ، مقاومين بشجاعة وصمت الكآبة ــ مرض العصر السياسي العربي ــ  لكن الثلاث سنوات الماضية كانت كافية لترتفع حالات الكآبة إلى درجة عالية في المجتمع السوري، فبقدر ما لدى الشعب السوري من طموح بقدر ما لاقى و يلاقي من خيبات وانكسارات.

    منذ أربعين عاماَ وهذا الشعب محكوم بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية بحجة التهديد الخارجي، وتحّمل هذا الشعب الكثير لقاء ذلك وتبين أن قانون الطوارئ وسوء توزيع الثروة والفساد قد حولت الإنسان السوري إلى إنسان يعيش على هامش الحياة السياسية بل إنسان مدجن عليه تنفيذ ما يرسم له دون اعتراض أو تذمر وأي اعتراض يكون ثمنه غاليا،َ وقد دفع الآلاف من أبناء الشعب السوري ثمن اعتراضهم سنوات طويلة في السجون جراء ذلك، و تراجعت المشاركة السياسية الشعبية لتصل إلى حدود الصفر.

    ومع مجيء الرئيس بشار الأسد إلى السلطة، انتعشت الآمال لدى المواطن السوري، وخاصة بعد خطاب القسم،  وبدأت حركة أشبه بأن تكون سياسية لدى المثقفين وقوى المعارضة السياسية، وكان ما عرف بالمنتديات، وبدأ الحديث عن الانفتاح السياسي، والحوار الديموقراطي واحترام الرأي الآخر ومحاربة الفساد وقانون الأحزاب والتعددية الحزبية، إلا أنه وبعد حوالي الثلاث سنوات تبددت الآمال إثر انتخابات مجلس الشعب و الطريقة التي تم فيها الترشيح والانتخاب، وتجلى ذلك في  تراجع المشاركة الشعبية، وسجلت أدنى نسبة في تاريخ الانتخابات السورية، وجاءت الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية في الجلسة الأولى لمجلس الشعب حيث فسر خطاب القسم كما يجب أن يفهم، واضعاَ النقاط على الحروف تماماَ حتى لا يساور أحداً أي شك أن هناك تغييراً سيحصل ، وبع ذلك دار الحديث عن التغيير الحكومي الذي سرت شائعات كثيرة حوله وأنه سيكون جوهريا، وشكلت الحكومة لكنها حكومة لا تختلف عن سابقاتها إلا باسمها كحكومة إصلاح إداري، مغيبة الإصلاح بشقيه السياسي والاقتصادي، وما لبث المواطن السوري أن انكفأ على نفسه مرة أخرى وربما مع جرعات إضافية من العقاقير المهدئة.

       الصحافة هي  السلطة الرابعة في البلدان الديموقراطية نظراَ لدورها الهام في الرقابة على السلطات ومساهمتها في تحقيق الاستقرار الاجتماعي و في التعبير عن التيارات الفكرية والسياسية وتشكيل الرأي العام ونشر الأخبار والمعلومات وتعميمها، فإذا كانت السلطة التشريعية في سوريا شكلية وتابعة للسلطة التنفيذية وتحت هيمنة الحزب الحاكم، والسلطة القضائية فاسدة وغير مستقلة، فكيف سيكون واقع الصحافة والإعلام التي تكتسب سلطتها عادة من كونها سلطة رقابة على السلطات الثلاث السابقة، والمادة الثامنة والثلاثون من الدستور السوري تقول: ( لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى ... وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر وفقاً للقانون).

     في الحقيقة إن ما نص عليه الدستور شيء والواقع شيء آخر، فالدستور جاء في ظل حالة الطوارئ التي استمر العمل بها منذ إعلانها في العام 1963، واليوم وبعد أربعين عاماَ ونيف على إعلان حالة الطوارئ التي أطلقت رصاصة الرحمة على ما تبقى من الصحافة إثر القانون الجائر بحقها في بداية عهد الوحدة التي جعلت من سوريا الإقليم الشمالي ، حيث جاء في القانون رقم 195 تاريخ 23 تشرين الثاني عام 1958 : أن لصاحب أي صحيفة يومية أو دورية تصدر في الإقليم الشمالي أن يتنازل عن امتيازه بطلب يقدمه إلى مديرية الدعاية والأنباء خلال خمسة عشر يوماَ من تاريخ العمل بهذا القانون. ومن ثم القرار الصادر بتاريخ 21 كانون الثاني لعام 1959 الذي تم بموجبه إلغاء اثنتين وعشرين صحيفة بحجة توقفها عن الصدور.وبذلك يكون قد توقف عن الصدور ثمان وخمسون صحيفة و مجلة.

      وجاء في البلاغ رقم / 4 / الصادر عن مجلس قيادة الثورة يوم / 8 / آذار عام 1963 ما نص عليه بالحرف " اعتبارا من 8 / 3 /1963 وحتى إشعار آخر يوقف إصدار الصحف في جميع أنحاء البلاد ما عدا الصحف التالية : الوحدة العربية ، بردى والبعث وتصدر بقية الصحف بإذن من المرجع المختص في وزارة الإعلام". ومنذ ذلك التاريخ لم يعد في سوريا سوى الصحافة الرسمية التابعة للدولة والتي دأبت الدولة ووزارات الإعلام المتعاقبة حتى اليوم على جعلها فارغة من أي محتوى. وحيث تعاملت السلطة دائماَ مع وسائل الإعلام كمجرد بوق أو وسيلة من وسائلها في ممارسة الحكم متغافلة عن دور الإعلام في  التعبير عن الرأي والرقابة وتشكيل الرأي العام ، وأن للمجتمع حقاًٍ فيه وهوليس ملكاَ للسلطة الحاكمة وحدها، ويجب أن يعكس ويعبر عن مصالح أفراد المجتمع وفئاته السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية.

     إن واقع الصحافة في أي بلد لا ينفصل عن الواقع السياسي لهذا لبلد فلا يمكن الحديث عن صحافة حرة أو إعلام حر أو حرية تعبير في بلد مازال محكوماً بعقلية وصاية الحزب والدولة على المجتمع ومحكوماً بقوانين الطوارئ والأحكام الاستثنائية، و أي تطوير للخطاب الإعلامي لا يتم إلا بتطوير الخطاب السياسي وإحداث تغييرات جوهرية في طبيعة النظام السياسي، إن غياب الإعلام والصحافة الحرة في سوريا ارتبط بمجيء حزب البعث إلى السلطة وسيطرته على وسائل الإعلام التي ستلعب دوراَ رئيسياَ في تعبئة الشعب خلف برنامجه السياسي للوصول إلى أهدافه، و سارعلى نفس خطى الأحزاب الماركسية التي كانت تحكم بلدان شرق أوروبا مستفيداَ من خبرات تلك الأنظمة الشمولية في السيطرة على وسائل الإعلام والتحكم بها وإعادة بناء المجتمع بالشكل الذي تريده هذه السلطات، وقد جاء في البرنامج المرحلي لحزب البعث أن " للإعلام دور مهم في دفع عجلة الثورة إلى الأمام فهو يسعى إلى تصفية أفكار المجتمع القديم وتعبئة الشعب وراء الأهداف القومية وحفزه إلى المزيد من العمل لأجل إنجاح برامج الإنماء ". ولذلك فإن الحزب لم يكتف بالسيطرة على وسائل الإعلام من إذاعة وتلفزيون، وحظر أي صحافة أخرى بل خلق إعلاماً خاصاً يتناسب والعقلية الشمولية حيث أنشئ لكل نقابة أو اتحاد مجلته الخاصة بعد أن سيطر الحزب على كافة النقابات والاتحادات المهنية والطلابية، ابتداء من مجلة الطليعي،الشبيبة، جيل الثورة، إلى المهندسين والمحامين....الخ، ولن أطيل في تعداد هذه المجلات فهي تشكل قائمة طويلة، إضافة إلى الصحف الرئيسية الثلاث الثورة والبعث وتشرين وأربعة صحف في المحافظات لكنها ذات لون واحد وخطاب واحد وأخبار واحدة وتؤكد على ما يراه الحزب والدولة أنه مناسب لهذا المجتمع بكافة فئاته.

      إن تاريخ سوريا عريق في الصحافة فقد تأسست أوائل الصحف في منتصف القرن التاسع عشر وصدرت المئات من الصحف والمجلات، ففي سوريا وأثناء الحكم العربي ما بين عامي 1918-1920 صدرت  أربع وخمسون دورية، أما في عهد الانتداب الفرنسي الذي دام 26 عاماَ فقد صدرت 183 دورية منها 114 في دمشق، أما بعد الاستقلال فقد حدد المرسوم التشريعي رقم 50 الصادر بتاريخ 17/ 10 / 1946 بأن تصدر الصحف السياسية بمعدل صحيفة واحدة لكل 50 ألف شخص، و نستنتج أنه كان يصدر أكثر من ذلك طالما حدد المرسوم ذلك، وإذا طبقنا المرسوم  اليوم على سكان دمشق التي يقدر عدد سكانها بـ 5 مليون نسمة فهذا يعني أنه سيكون لدينا 100 صحيفة في حين أننا لا نملك ربما أقل من 10 صحف ومجلات بعد إصدار قانون المطبوعات الجديد.   

       والآن بعد صدور قانون المطبوعات أصبح في سوريا ثلاثة أنواع من الصحافة َ

أولاَ -  الصحافة الرسمية :

    وهي الصحف الرئيسية الثلاث إضافة إلى الصحف الأربع التي تصدر في المحافظات، وهذه الصحف تعبر عن وجهة نظر الحكومة والدولة والحزب، وتستقي أخبارها بشكل رئيسي من وكالة الأنباء الوطنية سانا وبالتالي نقرأ فيها نفس الأخبار السياسية والثقافية وحتى أخبار المنوعات أو الحوادث علماَ أن هذه الصحف تمتلك مطابع  ومعدات تقنية لا بأس بها، وقد قدمت كلية الصحافة وقسم النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد الإعلامي التابع لوزارة الإعلام، لهذه الصحف كادرا إعلامياً كان من الممكن أن يكون مفيداَ في ظل سياسة إعلامية أخرى، ويدير  هذه الصحف كادر ليس لديه المؤهلات الصحفية غالباَ ويتسم بضيق أفق مهني و محدودية في الرؤيا السياسية وليس لديه خلفية فكرية أو ثقافية وإنما ما يتمتع به فقط هو حفظ جملة من  الشعارات غيباَ وخير مثال هو التالي: يقول الصحفي ماهر عزام: ( في إحدى اجتماعات التحرير افتخر المدير العام بممارسته الرقابية الفظة مدعياَ أنها لحماية أخلاق الناس وقال: حذفت مقالة من صفحة المجتمع والجريمة بعد أن شعرت بالنفور والاشمئزاز من عبارة وردت على لسان أحد المجرمين غير الأخلاقيين وهي أنه قام بأفعال منافية للحشمة والأخلاق مع إحدى اللواتي غرر بهن وأضاف المدير برأيكم ماذا سأقول لابنتي إذا سألتني وهي تقرأ هذه المقالة ما معنى أعمال منافية للحشمة والأخلاق ؟ ) وسأكتفي بذلك دون تعليق.

     وبتقاليد بيروقراطية إدارية تحول الصحفي إلى موظف يكتب من وراء مكتبه مفروض عليه عدد من المقالات الشهرية وعدد الكلمات لكل مادة وبأجر لا يكاد يمنعه من العوز، فغابت عن هذه الصحف التحليلات ما عدا السطحية منها، وكذلك تحول الصحفيون إلى ناطقين  باسم المسؤولين ومدافعين عنهم وتحولت الكتابة الصحفية إلى الكتابة بقرار تنفيذاَ لسياسة الدولة والحكومة حتى أن الصحفي يمكنه أن يكتب رأياَ ويخالفه غداَ بعد صدور توجهات جديدة وهذا ما حدث عشية سقوط بغداد، فبين ليلة وضحاها تبدل الخطاب الإعلامي.

      وكمؤشر على إدراك المسؤولين السوريين للواقع البائس للإعلام والصحافة السورية  قول للسيد فاروق الشرع  رداَ على سؤال في لقاء له مع الصحفيين السوريين:  / هل تعتبرون أنفسكم صحفيين يمكنني أن أحذف نصف المقال من صحيفة محلية ولا يتغير مضمون هذا المقال لكن لا يمكن لأي كان أن يحذف كلمة من مقال في صحيفة الوشنطن بوست أو نيويورك تايمز إلا وسيتغير المعنى /. ومع ذلك ومنذ أيام قليلة يشيد الصحفي أيمن الحرفي في مقال له في صحيفة الثورة تاريخ 17 / 11 /2003  فيقول : ... لذلك فقد شهدت سوريا الحديثة .. ثورة إعلامية حقيقية واكبت التسارع العلمي والتقني الإعلامي والعالمي شكلاَ ومضموناَ مساهماَ في بناء الإنسان الواعي القادر على بناء المجتمع مستنداَ على دعائم إعلام حديث متطور يمتلك تقنيات حديثة ومتطورة فانطلقت وزارة الإعلام بكافة هيئاتها ومؤسساتها لتواكب وتساير هذا التطور الإعلامي الهائل ... فطورت مؤسساتها الإعلامية المختلفة ونال الإعلام العربي في سوريا ثقة الجماهير العربية داخل سوريا وخارجها بما امتاز به من صدق وموضوعية ... ومن اجل الاستمرار في تأدية هذا الدور الرائد بأفضل صورة وضعت وزارة الإعلام الخطط الكفيلة بتحديث الوسائل الإعلامية مواكبة بذلك وسائل الاتصال الجماهيرية والدولية وتطورت أجهزة الإعلام المختلفة إذاعة تلفزيون صحافة) وسأكتفي بهذا القدر ولن أطيل عليكم فبقية المقالة كما هي أولها جمل رنانة وشعارات ليس أكثر ودون أن يوضح لنا هذا الموظف أين مكمن الإبداع في الإعلام والصحافة السورية التي انتقدها زملاؤه بشدة على صفحات الصحف العربية والمحلية ومن بينهم مسؤولون كبار في الإعلام .

     في الخطط الإعلامية لوزارة الإعلام التي يتحدث عنها كل شيء يحسب حسابه ما عدا نوعية ما يكتب وكذلك القارئ فهو لا يعني المؤسسات الإعلامية وكأن ما يكتب يكتب حتى يقرأه الصحفيون أنفسهم وفي معظم الأحيان هم لا يقرؤون ما يكتبون وكذلك المسؤولون أنفسهم لا يقرأون الصحافة الرسمية وكلهم يقرأون الصحف العربية الأخرى، ومن هنا نرى موقف   القارئ الذي لا يستطيع التعبير عن رأيه تجاه ما يكتب إلا في مقاطعته لهذه الصحف التي تعتمد على التلفيق والتزوير، و الأرقام المتواضعة في توزيع الصحف السورية يفسر موقف القارئ السلبي ، و تؤكد ذلك إحصائيات مؤسسة توزيع المطبوعات السورية التابعة لوزارة الإعلام ، و بحسب ما ذكر الصحفي حكم البابا،وزعت صحيفة تشرين عام 2000 عشرين ألف نسخة أما صحيفة البعث فوزعت سبعة آلاف نسخة،  ووزعت الثورة عشرين ألف نسخة. وتعتبر هذه الأرقام مخجلة إذا ما أخذنا في اعتبارنا أن عدد سكان سورية 16 مليون نسمة ، بينهم 10 قارئ حسب إحصائيات مؤسسة توزيع المطبوعات، و تدني سعر الصحيفة السورية  بالمقارنة مع الصحف العربية الأخرى التي يباع اقلها سعراً بضعف ثمن الصحيفة السورية ، ومع ذلك تنفذ هذه الصحف من الأسواق ، في حين تتكدس الصحف السورية في منافذ البيع و تعاد إلى مصادرها).

 

ثانياَ - صحافة أحزاب الجبهة الوطنية:

     فبعد أن كانت صحافة أحزاب الجبهة الوطنية غائبة على مدى ثلاثين عاما،َ جاء قرار القيادة السياسية  بالسماح بإصدار صحف علنية لهذه الأحزاب التي تشارك حزب البعث بالحكم، وقبل ذلك  كانت تصدر نشرات حزبية تحولت إلى صحف علنية إلا أنها بقيت في مضمونها وشكلها نشرات حزبية ليس أكثر، وتحاول بعض هذه الصحف منافسة الصحف الحكومية لكنه من الواضح أنها متخلفة إلى حد كبير عن الصحف الحكومية، وبعد مرور أكثر من سنتين على صدور هذه الصحف يلاحظ المتابع أنها تفتقر إلى أبسط معايير الصحافة السياسية، وعلى سبيل المثال فإن صحف الوحدوي والميثاق وآفاق، ليست سوى نشرات حزبية ترصد أخبار الأمين العام وحركته وخطاباته دون الاهتمام بالقضايا التي تهم المواطن أو حتى العضو المنتسب لهذه الأحزاب.

     أما صحيفة النور التي يمتلكها الحزب الشيوعي السوري جناح يوسف فيصل فإننا نستطيع تسميتها صحيفة لكنها لا تختلف عن الصحف الرسمية شكلاَ ومضموناَ، أما صحيفة صوت الشعب الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري جناح بكداش فهي مازالت بخطابها السياسي كما لو أنها في عصر الستالينية السوفيتية، وعلى الرغم من أنها تسمي نفسها صوت الشعب لكنها ليس لها علاقة بهذا الشعب، وعدد من الصحفيين الذين يكتبون فيها هم من يكتبون في الصحف الرسمية وأغلب الكادر الصحفي هم من المنتمين لهذه الأحزاب وليس لهم علاقة بمهنة الصحافة، على أية حال فإن بؤس هذه صحافة إنما يعكس واقع هذه الأحزاب وضآلة دورها السياسي على مدى تاريخ وجودها ولا أقول في الساحة السياسية فهي غائبة تماماَ ماعدا حضورها في اجتماعات الجبهة لتصادق على ما يقره الحزب الحاكم.   

ثالثاَ – الصحافة المستقلة:

    في الواقع لا يمكن الحديث عن صحافة مستقلة في سوريا فهي تجربة مازالت في طورها الجنيني ، فسوريا محرومة منذ عقود من هذه المهنة وأهلها وربما ستمر سنوات طويلة قبل أن نمتلك صحافة حرة ومستقلة وكادراً صحفياً لديه الخبرة والمؤهلات، ومأساة صحيفة الدومري  مازالت ماثلة في الأذهان حيث أجهضت قبل أن تأخذ مداها وعانت طوال فترة صدورها من غياب الكادر الصحفي ومن تغيير مستمر لكادرها. فهي الصحيفة الأولى التي صدرت  بموجب قانون المطبوعات ولم تستمر اكثر من سنتين وطبعاَ أغلقت بغير وجه حق لأن صدر الحكومة قد ضاق بانتقاداتها على الرغم أنها لم تمس الجوهر في مجمل تعليقاتها وأخبارها والتي لم تكن أكثر من ثرثرات كلامية ولا ترقى إلى مستوى النقد الفعلي ولا بد لي من القول أن هذه الصحيفة ومنذ انطلاقتها كانت محسوبة على النظام ولم تقدم شيئاَ ذا معنى إلا في عددها الأخير الذي كان على إثره قرار إغلاقها، وهناك صحف أخرى صدرت تباعاَ كالاقتصادية التي تعتبر ناطقة باسم رجال الأعمال الجدد تهتم بالشأن الاقتصادي وهي على العموم صحيفة وسطية وممالئة للسلطة، وقد صدرت مجلة أبيض وأسود كمجلة أسبوعية سياسية يملكها نجل العماد حسن تركماني ( وقد توقفت الآن عن الصدور ولا نعرف حقيقة سبب توقفها) وصحف أخرى غير سياسية كالرياضية والرقميات وغيرها بالإضافة للصحف الإعلانية التي شكلت مع وسائل الإعلان الأخرى فائضاَ عن حاجة السوق السورية إعلانياَ، ومعظم هذه الوسائل الإعلانية والإعلامية هي مملوكة لأبناء المسؤولين في سوريا وحتى الآن لم تمتلك أية شخصية مستقلة وسياسية أية صحيفة في سوريا، وبالتالي فإنه من المبكر الحديث عن صحافة مستقلة في سوريا.

صحافة المعارضة:

لا يوجد في سوريا صحافة للمعارضة فالمعارضة ضعيفة ومهمشة وعاشت سنوات طويلة من الإقصاء و القمع ولم تكن فاعلة سياسياً في الشارع السوري على مدى تاريخ وجودها،  وما تنشره من مطبوعات لا يمكن اعتباره صحفاً وإنما نشرات حزبية لا يتعدى انتشارها أعضاء و أوساط هذه الأحزاب، لكن مؤخراً أنشأت بعض أحزاب وقوى المعارضة مواقع صحفية على شبكة الإنترنت، و نظراً لمحدودية انتشار الإنترنت ستبقى هذه الصحافة غير مقروءة لدى أغلبية فئات الشعب، لكن مع ذلك فهي خطوة مهمة نحو وجود صحافة للمعارضة.

 الصحفيون :

إن علاقة التبعية بين الصحافة والسلطة وغياب روح المبادرة بل الخوف منها حتى لدى رؤساء التحرير والمديرين العامين وكل أصحاب المواقع التراتبية الوظيفية إضافة للأوامرية الهرمية وسياسة التوجيهات حتى بأصغر الأمور وأدق التفاصيل وإدارة المؤسسات الإعلامية من قبل مدراء من خارج المختصين في الإعلام لاعتبارات حزبية واعتبارات المولاة والمحسوبية والعلاقات الشخصية، قد جعل من الصحفيين السوريين موظفين يجلسون وراء مكاتبهم ينتظرون الأوامر والتوجيهات أو الأخبار ليعيدوا صياغتها ليس أكثر وفي أحيان كثيرة نقلها كما هي عن مصدرها، فكثيراً ما نقرأ الخبر منقولاً عن صحيفة مصرية وبنفس الصياغة المصرية، ولا يكلف الصحفي نفسه قراءة المادة المنقولة، أما السبق الصحفي فهذه لا تعني الصحفي السوري لا من قريب أو من بعيد فعلى سبيل المثال نشر في ملحق الثورة الثقافي بتاريخ 9 / 11 / 2003  مقابلة أجراها الناقد الصحفي عبد الناصر حسو مع الباحث الجزائري أحمد حيدوش على هامش الندوة التي أقامتها جامعة دمشق حول الأدب و حوار الحضارات متأخرة أكثر من سنة على انعقاد الندوة، وهذه مسألة صغيرة إذا ما نظرنا إلى أخبار سورية الهامة التي تتصدر الصحف العربية في حين لا تشير إليها الصحف السورية.

      وفي غياب شروط العمل الصحفي السليمة والصحية، حيث أهمية الصحافة تنبع فقط من تنفيذ التوجيهات والأوامر والزام الصحفيين بعدد الكلمات و المواد الشهرية تكون أهمية المادة الصحفية بالنسبة للصحفي ليس من مضمونها بل من عدد كلماتها وعلاقة الصحفي بالمدير أو رئيس التحرير إلخ. وتقول الكاتبة الصحفية السيدة سلمى كركوتلي في مقال لها في مجلة المحاور اللبنانية: ( لم أكتب في جريدتي منذ أكثر من سنتين أي مقال, وبالمقابل لا تطالبني الجريدة بأكثر من تسجيل بطاقة الدخول والخروج... وإذا أردت أن أكتب مقالا  ما أو أن أنشر خبرا  فعلي تكبد عناء الانتظار في مكتب سكرتير المدير العام كي أستطيع أن أقابله لدقائق.. أنا ببساطة لا أستطيع الكتابة في الجريدة التي أعمل بها تحت تسمية محرر منذ حوالي ربع قرن!!!

وتقول:لا أكتب في جريدتي كسلا  ... أنا لا أكتب ببساطة لأن رئيس القسم الذي أعمل به استفرد مع مجموعة محدودة من المحررين الذين استزلموا له واستزلم لهم بالنشر, لكي يستفرد بما يسمى الاستكتاب الذي يتيح له ولجماعته الحصول على مبلغ إضافي فوق الراتب الذي يبلغ ضعفي راتبه, فراتبه كراتب كل منا لا يكفيه لأكثر من أسبوع في أحسن الأحوال.. )   

      وتحول عدد من الصحفيين إلى سماسرة يعقدون الصفقات بين المسؤولين ورجال الأعمال والتجار، نظراً لوجودهم في المكاتب الصحفية للوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى، وحيث العمل في هذه المكاتب ذو مردودية عالية  في السمسرة وتدبيج المقالات المدافعة عن هذه المؤسسات في وجه مغرض أو حسود، والتي تصرف لها المكآفأت والهبات والمنح، ويمكن إطلاق أي صفة على هؤلاء إلا صفة الصحفيين.

     أما عندما يريد أن يسجل أحد الصحفيين سبقاً صحفياً في النقد البنّاء بعد أن تم تقسيم النقد إلى بنّاء وسلبي أو هدّام فإنه يبدأ مقالته بالإطناب والمديح والإسهاب في تعداد المنجزات التي حققها المسؤول الذي يريد أن يمارس النقد البناء عليه قبل أن يصل  إلى بيت القصيد الذي غالباَ ما يرد على شكل عتاب من أخ صغير ليس أكثر أضف إلى ذلك أن هناك الكثيرين من أصحاب النفوذ لا يجرؤ أي صحفي على انتقادهم.

معظم الصحفيين السوريين ليس لديهم أجهزة كومبيوتر ولا يتقنون العمل عليه ولا يهم الكثير منهم الاتصال بشبكة المعلومات الدولية الإنترنت وغالباً ما يستقون معلوماتهم بطرق بدائية أو عبر الإذاعات والمحطات التلفزيونية، وبالتأكيد فإن وكالة سانا هي المصدر الأهم للأنباء حتى الآن، حيث يومياَ  نقرأ نفس الأخبار على الصفحات الأولى لجريدة تشرين والثورة و بدون أي فارق وأنا لا أقصد بالطبع الأخبار السياسية فهذا أمر طبيعي بل أخبار المنوعات التي ترد في الصفحات الأخرى والأخيرة.

ويذكر الصحفي محمد منصور في مجلة المحاور اللبنانية  تحت عنوان ( عشرة نصائح ذهبية كيف تصبح صحفياً مرموقاً ) سأوردها باختصار

1-   عليك أن تبدأ من الصفر وقد يكون الصفر هذا.. أية وظيفة في مؤسسة إعلامية لا علاقة لها بجوهر العمل الصحفي.. وهكذا فقد تبدأ حارسا , أو سائقا..

2-       يجب أن تكون محسوبا  على أحد.. مرئيا  من فوق, وأهلا  للصعود.. !

3-         عليك أن تبلي بلاء  حسنا  في المناسبات.. فهذه بوابة العبور- ليس إلى قلب القارئ أو المشاهد بل إلى قلب المسؤول والمدير..!

4-   عليك أن تجيد التملق لمديرك المباشر وغير المباشر, وأن تنفذ بلا مناقشة, وتكتب بلا تحفظ, وتفكر برضا المسؤول عنك, لا برضا القارئ أو المشاهد..!

5-    في اجتماعات هيئة التحرير أو لجنة البرامج... انتظر ما يقوله المدير, وأثني عليه فورا .. وإذا حدث أن طرح المدير فكرة ثم تراجع عنها, فتراجع عنها وراءه على الفور!

6-   - ابتعد عن تسمية الأشياء بمسمياتها ما لم يطلب منك ذلك... واكتب عن القضايا الساخنة والحارة, على طريقة الكلمات المتقاطعة..  فتحدث عن فساد حكومي دون ذكر أسماء!

7-        عليك ألا تكون مع أو ضد أية قضية ثقافية أو فنية أو سياحية أو خدمية......!

8-   إذا حدث ودفعت من قبل مديرك لكي تتخذ موقفا  ما بإيحاء أنه (توجيهات عليا) فعبر عن الموقف بحماس بالغ في حالة الإيجاب, وعدوانية خرقاء في حالة السلب.. وخير مثال على ذلك كتابات الصحافة السورية عن حكومة محمود الزعبي قبل انتحار رئيس الحكومة وبعدها!

9-        اقبل  أي منصب صغير يعرض عليك أو ترشح له بغض النظر عن اعتقادك الشخصي بأهليتك!

10-  عندما تصبح رئيس دائرة, أو مديرا  لمديرية, وحتى لو لم تكن تلك الدائرة لها علاقة بالمجال الذي أتيح لك العمل فيه.. فكن رقيبا  على محرريك, وعونا  للإدارة ضدهم.. كن سيفا  مسلطا  عليهم لا سيفا  لهم, وأثبت كل مرة تتاح الفرصة فيها.. أنك ضد أية مبادرة لا تنسجم مع الهامش المتاح...!

لكن ورغم مرارة ما ذكر إلا أنه اصدق تعبير عن الواقع.

     أما القسم الآخر من الصحفيين الذين رفضوا العمل بهذه الشروط فقد نقلوا إلى الأقسام الفنية أو الأرشيف كما حدث مع عدد من الصحفيين و مع المدير العام السابق للإذاعة والتلفزيون، حيث نفي إلى قسم الأرشيف في جريدة الثورة لمدة ستة أشهر قبل أن يعود ليكون معاون لوزير آخر، وهذا لممارسته النقد تجاه وزير الإعلام، وقسم آخر آثر الصمت، أو العمل في مجال الكتابات الأخرى غير الصحفية أو الكتابة في الصحف العربية،  التي مارس بعض مدراء مكاتبها المعتمدين في دمشق فسادهم بطريقة أخرى، فساد سرقة الأجور وأحياناً المادة الصحفية نفسها بعد إجراء تغييرات فيها.

    وهناك نوع آخر من الصحفيين في سوريا وهم في معظمهم أتوا من مواقع حزبية وأكاديمية وخلفيات سياسية وفكرية متنوعة وهؤلاء لا يمتهنون العمل الصحفي، لكنهم نشيطون بالكتابات الفكرية  والتحليلات السياسية في الصحف العربية.

الرقابة:

     تطورت الرقابة على العمل الصحفي من رقابة الأجهزة الحكومية والأمنية التي تراجعت نسبياً بعد تقدم وحضور الرقابة الذاتية والرقابة الشبه رسمية، فبعد تحديد المحرمات والمحظورات في الإعلام والصحافة السورية أصبحت الرقابة الذاتية هي أشد أنواع الرقابة فمثلاً موضوعات الجنس والدين والسياسة ممنوع معالجتها أو التطرق لها أو حتى ذكرها ولو عرضاً في الصحافة السورية أو وسائل الإعلام الأخرى حتى يخيل للمرء أننا لسنا على سطح هذا الكوكب ولا يوجد جنس أو دين أو سياسة في المجتمع السوري، إذاً تحولت الرقابة إلى ذاتية وأصبح الصحفي خير رقيب على ذاته ويعرف تماماً حدود الممنوع والمسموح وما يمكن أن يصيبه جراء خرق المحرمات والمحظورات،أما الرقابة الشبه رسمية فقد أصبح حضورها قوياً بعد أن جندت السلطة الكثير من الأكاديميين والصحفيين والمثقفين ليكونوا لسان حالها من جهة ورقباء من جهة أخرى وهذه الرقابة بدت فاعلة بشكل خاص خلال السنوات الثلاث الماضية بعد تراجع عمل ونشاط الأجهزة الأمنية نسبياً وخير مثال على الرقيب الذي يمثل هذا النوع من الرقابة هو البرلماني السابق منذر الموصلي الذي دأب على كيل الاتهامات بحق مثقفين وكتاب سوريين وطالب بمحاكمة هؤلاء متهماً إياهم بالخيانة كما حدث في مطالبته بمحاكمة الكاتب عبد الرزاق عيد، منصباً نفسه مدعياً عاماً لما يشبه قانون الحسبة الإسلامي. أما الرقابة الرسمية وهي تضم قائمة طويلة من مدراء عامين الصحف  ورؤساء التحرير والأقسام والصحفي على زميله الآخر ويدخل ضمن هؤلاء ذوو المصالح الشخصية بعلاقاتهم مع المسؤولين والأجهزة، فكلهم يشكلون عائقاَ بل حاجزاً كبيراً أما طرح أي رأي قد يكون فيه شيء من الاستقلالية هذا دون الحديث عن تعبير  حر عن الرأي، أما فيما يخص انتشار الإنترنت على نطاق واسع فيقول وزير المواصلات السوري ( عندما تكتمل لدينا وسائل تعامل الرقابة مع الإنترنت والتي هي غير موجودة في سوريا حالياً ستكون هناك شبكة إنترنت مفتوحة وشفافة ) وهذا بالطبع كلام يحمل نقيضه، و يؤكد استمرار العقلية الوصائية من قبل الحكومة حيث نصبت نفسها دائماً وصية على المجتمع السوري، وحددت الممنوع والمسموح تعبيراَ عن عدم الثقة الدائمة بالمواطن السوري وحرمانه من أبسط حقوقه كمواطن وإنسان. أما الرقابة الأمنية فلا تتدخل إلا في الحالات الخاصة حيث تأتي أهمية المساءلة و المحاسبة والعقاب.

     أما عن الجهة المسؤولة عن حماية الصحفي والوقوف إلى جانبه في ظروف عمله ومشاكله المهنية وما يتعرض له من مضايقات فهذه ليست من مسؤولية اتحاد الصحفيين في سوريا، حيث معيار العضو الجيد في هذا الاتحاد هو الانضباط والسلوك الحسن في تنفيذ التوجيهات والأوامر  الصادرة عن الجهات المختصة والتي في كثير من الأحيان تكون توجيهات شفوية ومن الصعب معرفة مصدرها، وحيث لا يحقق هذا الاتحاد إلا مزيداً من الامتيازات للمتنفذين فيه، وقانون نقابة الصحفيين يلزم العاملين في مجال الصحافة بالانتساب إليها ويلزمهم بالعمل على تحقيق أهداف حزب البعث في الوحدة والحرية الاشتراكية وقانون النقابة يحدد الشروط وأهداف النقابة التي تستطيع من خلالها حجب حق العمل الصحفي عن صحفي يخرج عن الحدود المرسومة له، أو يخالف توجهات السلطة، تقول الكاتبة الصحفية سلمى كركوتلي في نفس المقال المشار اليه: (رغم كوني عضوة عاملة في اتحاد الصحفيين السوريين منذ سنوات طويلة جدا  تتجاوز العشرين عاما  تقريبا , إلا أنني لا أستطيع أن أقول إن هذا الاتحاد كان نصيري أو ممثلي لمرة واحدة في أية مشكلة مهنية أو غبن تعرضت له). ويقول أحد الصحفيين:  في حال فكر أحدنا أن يذهب للاتحاد لتقديم شكوى أو تظلم ضد مديره فإنه سيجد أمامه نفس المدير الذي يجب أن يتقدم له بالشكوى أي سيشكوه إلى نفسه، لأن اللجنة التنفيذية في اتحاد الصحفيين تضم في عضويتها المدراء العامين للصحف وأعتقد أن هذا إنجاز سوري فريد.

حول قانون المطبوعات:   

     انتظر العاملون في مجال الصحافة والإعلام والطباعة والنشر هذا القانون طويلاً على أمل أن يضع حداً لتجاوزات قانون الطوارئ والتعدي على حقوق أساسية أقرتها المواثيق الدولية التي منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تقر حرية الرأي والتعبير ونشر وتبادل المعلومات بأي وسيلة كانت، وعلى الرغم من أنه و قبل صدور قانون المطبوعات الجديد كان هناك قانون للمطبوعات صادر في العام 1949 لكن لم يعمل به منذ إعلان حالة الطوارئ، و قد صدر القانون الجديد بالمرسوم التشريعي رقم 50 لعام 2001  ليأتي متراجعاً ومتشدداً في العقوبات عن قانون المطبوعات لعام 1949 كما يفسح المجال للدولة في أن تمارس سلطتها على الصحف المستقلة التي يمكن أن تصدر، وأعطى صلاحية واسعة لمجلس الوزراء في رفض الترخيص لصحف جديدة دون تبيان الأسباب وبالتالي بالترخيص لمن تشاء أو لا تشاء وشدد عقوبات السجن لتصل إلى ثلاث سنوات ورفع الغرامات لتصل إلى مليون ليرة سورية بعد أن كانت ألف ليرة، كما جاء في المادة ( 52 أ ) التي ربما تعتبر من أكثرَ المواد خطورة إذ من شأنها أن تفسح المجال أمام مقاضاة الصحفيين والكتاب والمفكرين وغيرهم وحبسهم إذا ما نشروا أو كتبوا شيئا تعتبره الدولة ذا صلة بالتحريض على الجرائم مما يؤدي إلى الشروع في ارتكابها أو امتداحها على نحو يحرض على الإجرام أو يدفع إلى ارتكاب هذه الجرائم. وجاء في المادة ( 51 أ ) التي تجرم نقل الأخبار  غير الصحيحة ونشر أوراق مختلقة أو مزورة، وتنص على معاقبة من يفعل ذلك بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، وبالغرامة من خمسمائة ألف ليرة سورية إلى مليون ليرة سورية". وتنص المادة بتنفيذ الحد الأقصى من العقوبتين معا إذا كان النشر أو النقل قد تم عن سوء نية أو سبّب إقلاقا للراحة العامة أو تعكيراً للصلات الدولية، أو نال من هيبة الدولة، أو مسّ كرامتها، أو مسّ الوحدة الوطنية أو معنويات الجيش والقوات المسلحة، أو ألحق ضرراً بالاقتصاد الوطني وسلامة النقد.
    ونلاحظ هنا أن تحديد سوء النية أو عدمه  سيعود بالضرورة إلى جهة الإدعاء،
أي الجهات الحكومية  واستخدم القانون هذه التعبيرات دون أن يضع تفسيرات أو تعريفاً لها مما يفسح المجال للحكومة بإعطاء التفسيرات لأي جملة أو عبارة صحفية قد لا تروق لها عند تفسير هذه التعبيرات الواردة في القانون .              ولا بد لي في هذا السياق من التطرق إلى المؤسسة العامة لتوزيع المطبوعات والتي احتكرت التوزيع منذ إنشائها في العام 1975 بموجب المرسوم التشريعي رقم 14 الذي  حصر توزيع المطبوعات بهذه المؤسسة ويمنع أية صحيفة من أن تقوم بالتوزيع، وأعطت لنفسها الحق في تحديد عدد النسخ الموزعة وكذلك النسبة التي تتقاضاها لقاء ذلك والتي تصل إلى 30% ، ولو التزمت المؤسسة بنظامها الداخلي ربما كانت الأمور أفضل بالنسبة لأصحاب الصحف العربية والمحلية، وما حدث مع صحيفة الدومري التي كانت تطبع 50.000 نسخة وألزمتها المؤسسة بتوزيع 14.000 نسخة وهذا العدد  من النسخ قد لا يسدد تكاليف صدور الصحيفة  هذا ما ورد في نفس الصحيفة في عددها الأخير، لكن العمل في هذه المؤسسة يخضع في أغلب الأحيان لآلية عمل الفساد كبقية مؤسسات الدولة الأخرى ويتحكم الموظفون وحتى السائقين فيها وما يبتغون من مكاسب في أرقام التوزيع وشروطها، وذكر لي السيد محمد سعيد حمّاده وهو رئيس تحرير مجلة رؤى ثقافية أنه بالإضافة لما تلاقيه مجلته من صعوبات في ظل الأوضاع القائمة إلا أن المؤسسة العامة لتوزيع المطبوعات ستكون السبب في إغلاق مجلته في حال أُغلقت، حيث يواجه فساداً مستشرياً ضمن هذه المؤسسة و لا تصل المجلة إلى معظم منافذ البيع أو تصل متأخرة رغم أنها مجلة نصف شهرية، وبالضرورة نستطيع تقدير المعاناة لدى الصحف اليومية أو الأسبوعية مع مسؤولي هذه المؤسسة.                             

أخيراَ إن واقع الصحافة والإعلام الرسمي  مرتبط بشكل وثيق بالواقع السياسي وآليات عمل النظام الشمولي والفساد في المؤسسات الرسمية. ووسائل الإعلام و الصحافة ما تزال محكومةً – منذ أربعة عقود - بالنهج الأحادي الذي ينتهجه الحزب الواحد، القائد للدولة والمجتمع، والذي لا يفسح مجالا لحرية التعبير خارج إطار السلطة وفلكها. وإن أي حديث عن إصلاحات سياسية واقتصادية وقضائية وإدارية لا يمكن تحقيقه إلا في جو من الانفتاح والديموقراطية، تكون مؤسسة على التعددية السياسية، وحرية الرأي و التعبير في صحافة حرة ومستقلة.

    ندوة حرية التعبير في سورية مالاكوف 13 ديسمبر 2003                                                                        

                                                                         أسامة المصري