• ستون عاما على النكبة.. وهل يحيي الإنسان ذكرى آلام مازال السابق منها لم يلد اللاحق، واللاحق منها يحيل على السابق؟ وهل تَجُبّ المظالم الراهنة المظالم المتقادمة التي هي جذر الراهن وأصله؟

  • ستون عاما.. والماضي هو الآن، وإذ يبحث الشاهد والشهيد في عمق وجدانه النازف عن كلمات تروي حزنه وغضبه وملحمته، لا يجد الآن بعد ستين عاما أصدق وأحسن من كلمات المعجم الأول... معجم السنوات الأولى العجاف.. النكبة.. نعم بكل محمولها الدلالي والوجداني والتاريخي الذي شكل وعينا المبكر ورشح في أحلامنا وأغانينا وقصائدنا، وحتى في لغونا وشتائمنا وفوران غضبنا الجامح.. نعم النكبة والوطن السليب وحلم العودة والتحرير، وكل ما أعقب ذلك على مدى ستين سنة، تفاصيل وفروع. ستون عاما.. وليس أفظع من اغتصاب الأرض إلا محاولات اغتصاب التاريخ والرواية.. ولا أشد من التهجير القسري من الوطن، إلا محاولات تهجير الوطن من الذاكرة.. وليس أخطر من الصراع على الأرض إلا الصراع على المعاني.

  •  

    الأسماء والأشياء
    تحريف الكلم عن مواضعه
    الثابت الإسرائيلي والمتغير الفلسطيني!
    الفلسطينيون "أيضا" لهم حقوق؟
    حتمية تاريخية جديدة!
    سياسة تفويت الفرص!
    التحرير ممكن إلا.. في فلسطين!
    دعوة صريحة إلى الاستسلام!
    المعجم الليبرالي العربي الجديد!
    في الديمقراطية: الشرق شرق والغرب غرب!
    تحرير المعاني
    إعادة الاعتبار للثوابت الفلسطينية

  • الأسماء والأشياء

  •  

  • بالمعاني والمفاهيم يتمثل العالم في وعينا.. والتفاعل الاجتماعي والإنساني ليس ممكنا بغير منظومات المعاني والمفاهيم المشتركة التي نُعرّف بها الأشياء والوقائع، ونُؤوّّل بها المواقف، ونبني بها روايتنا عما جرى ويجري. فالعالم الموضوعي الخارجي لا ينعكس في وعينا بصورة آلية مباشرة، وبغير وساطة المعاني والرموز الثقافية التي تبتدعها الذات الاجتماعية لتمثيل الموضوع وتعقله. فلو كان الأمر كذلك لما اختلف البشر في فهم الواقع وتأويله وطرق الاستجابة لمؤثراته، ولما تطورت المعارف وتغيرت صورة العالم والأشياء والظواهر في وعينا مع تطور معارفنا ومفاهيمنا وتعريفاتنا، ولما تطور المعجم اللغوي ومحتواه الدلالي الذي يسهم في تشكيل رؤيتنا للعالم والأشياء. ولكن الحاصل أننا في مواقف التفاعل الاجتماعي والإنساني حول الوقائع والأشياء والأغراض نستدعي من مخزون المعاني المشتركة في وعينا ما نسقطه على الموضوع لتأويله وتعريفه وفهمه، وبناء على ذلك تتحدد استجابتنا العملية له في الفضاء الاجتماعي الإنساني. وإذ نصْدر عن نظم المعاني والتعريفات المشتركة في مرجعنا الثقافي العام فإننا نخلق الإحساس الضروري بأننا ننتمي إلى الهوية الثقافية نفسها والنظام الاجتماعي ذاته، وهو شرط ضروري للاجتماع البشري. على أننا في الوقت نفسه نختلف في أغراضنا ومصالحنا ومقاصدنا جماعات أو أفرادا داخل المجتمع الواحد. كما أننا نتفاوت في ذخائرنا المعرفية على الرغم من المساحة المشتركة من المعاني والمفاهيم.

  • ومن ثم فإن تأويلاتنا وتعريفاتنا للأشياء والوقائع يمكن أن تتضارب بتضارب الأغراض والمصالح والمقاصد. إذ يسعى كل طرف من أطراف التفاعل إلى استدعاء المعاني التي تخدم أغراضه لتعريف الوقائع والأشياء وتأويلها، ويفاوض بصورة مضمرة أو معلنة لفرض تعريفاته وتأويلاته. وفي الظروف العادية لا يكون الخلاف هنا حول المعاني والقيم المشتركة على المستوى النظري المجرد. فلا خلاف على القيمة الايجابية للشجاعة والكرم والوفاء مثلا، ولا على القيمة السلبية للجبن والبخل والخيانة.

  • ولكن الخلاف هو في إنزال هذا المعنى أو ذاك على واقعة بعينها وتعريفها به. فما يعرّفه أحد الأطراف بالشجاعة، يعرّفه آخر بالتهور، وما يعرّفه طرف بالكرم، ربما يعرّفه آخر بالإسراف.. وهكذا، وبذلك يتمكن الفاعلون الاجتماعيون من تحقيق هدفين متعارضين معا في آن:

  • - الحفاظ على الحس المشترك بالانتماء إلى نفس النظام الاجتماعي كما يتمثل في نظم المعاني والمفاهيم والقيم المشتركة التي يصدورن عنها، من جهة،

    - وخدمة تنازعهم على المصالح والأغراض من خلال توظيف معان مختلفة من المرجع المشترك نفسه لفرض تعريفات مختلفة للوقائع، من جهة أخرى.

    ولكن التنازع على التعريفات والتأويلات لا يجري بصورة متكافئة. هنا تتدخل علاقات القوة بكل تجلياتها المادية والمعرفية والروحية والسياسية، ليتمكن الطرف الأقوى من فرض تعريفاته وتأويلاته وتوصيفاته على عقول الآخرين. وبذا يتمكن من السيطرة على العقول والأفئدة، وتشكيل نظرتها للعالم وإدارة سلوكها واستجاباتها بناءً على ذلك. هكذا يتشكل خطاب القوة Discourse ورواية القوي Narrative.

    المعاني والخطابات بهذا المفهوم ليست مجرد تمثيل للواقع، بل هي الواقع نفسه كما يتمثل في عالم الوعي والتصورات. وتغيب المسافة بين ثنائية الأسماء والأشياء، أوالدوالّ والمدلولات، لتصير الأسماء هي الأشياء بقدر ما تتعرف الثانية بالأولى. وبذلك يكون الصراع على المعاني والخطاب هو الصراع على العقول والمدركات، وهو في آخر المطاف الصراع على امتلاك الواقع وتشكيله.

    ولكن خطاب القوة والسيطرة يخلق شرط الإمكان لتشكل خطابات المقاومة، في لحظات تاريخية مفصلية، تتمكن فيها الأطراف المقهورة من التحرر من إكراهات الخطاب السائد وكشف آليات التحكم والسيطرة التي يمارسها. وبقدر ما ينطبق هذا على القوى الاجتماعية في داخل المجتمع الواحد، فانه ينطبق على العلاقة بين الثقافات والمجتمعات، وبخاصة في هذا العصر׃ عصر العولمة والمعلومات والاتصالات والاعتمادية المتبادلة والنظام الدولي وهيمنة الإمبراطورية الأمريكية الشاملة.

    تحريف الكلم عن مواضعه 

     

    ستون عاما.. ولم يتحقق حلم التحرير والعودة، ولم تتحقق بعد حزمة الأحلام العربية الأخرى التي تحيط به وتتشابك وتتشارط معه׃ الوحدة والتحرير والنهضة والعدالة والديمقراطية بوجهيها الاجتماعي والسياسي. ولكن الأخطر من عدم تحقق الأحلام في الواقع هو المحاولات المنظمة لمصادرة الأحلام نفسها، وإعادة تعريفها لتعني "الأوهام" غير القابلة للتحقق أصلا بحكم طبيعتها الجوهرية. بل الذهاب أبعد من ذلك إلى اسقاط المسوغات الأخلاقية والتاريخية لتلك الأحلام/الأوهام. فهي - حسب هذا الخطاب- ليست مرفوضة فقط بمعيار الضرورة التي تجعلها غير قابلة للتحقيق، ولكنها مرفوضة بالمعايير المبدئية والعقدية. وإن لم يكن هذا كافيا، جرى تحميلها مسؤولية النكبات والخيبات والانكسارات والانحطاط والعجز عن اللحاق بركب الحضارة العالمية. فبدلا من أن تكون تلك الأحلام مشاريع استجابة حضارية للتحديات التي تستهدف وجود الأمة وهويتها تصبح بهذا المنطق أساس المشكلة وأصل النكبات.

     

    هكذا إذن بعد أن يطمئن العدوُّ إلى تمكنه في الأرض، وتغلبه في معركة السلاح، ينقل الصراع إلى ساحات المعاني والمفاهيم، ليستكمل غزو الأرض واغتصاب الوطن بغزو العقول واغتصاب الأحلام وفرض خطابه ومعانيه وروايته. وهذه المرة يتطوع النظام العربي نفسُه - بعضُه أو كلـُه - وتيارات سياسية عربية تصف نفسها بالليبرالية، لتنهض بالمهمة. ذلك لأن نظام المعاني التحررية لا يواجه الرواية الصهيونية إلا بقدر ما يحرج النظام العربي ويتحدى تيارات الإذعان والخضوع التي تتقنع بدعاوى الاعتدال والواقعية والعقلانية، فضلا عن الليبرالية.

    ألا ترى كيف صرنا نتردد في استعمال صفة " العدوّ الإسرائيلي " خشية أن يحيل ذلك إلى لغة الشعارات الثورية القديمة والإعلام الانفعالي؟ إن لم يكن الاغتصاب والاحتلال والتشريد والإذلال والقتل والبطش أسبابا كافية لتعريف مقترفيها بالعدوّ، فما معنى العدوّ إذن؟ ألا ترى كيف استتبع ذلك أن نتردد في استعمال مفاهيم المقاومة والجهاد ومعاني التحرر والتحرير والشهادة والاستشهاد لأنها تلتبس مع الإرهاب والتطرف، وتطيح بفرص السلام المقدس، وتردنا إلى ماضي التجارب "القومجية" الفاشلة أو إلى حاضر التيارات "الاسلاموية" المتطرفة؟!

    ألا ترى كيف يتجنب الكثيرون استعمال مصطلح "الوطن العربي" والأمة العربية، ويفضلون بدلا منها مصطلح "الشرق الأوسط" و"شعوب المنطقة"؟! ألا ترى أيضا كيف يتجاهل الكثيرون رواية اغتصاب فلسطين عام 1948 ويفضلون أن تبدأ الرواية بحرب حزيران عام 1967 مع التركيز على المسؤولية العربية عن قرار الحرب وأوزارها؟!.

    ألا ترى كيف تحولت القضية الفلسطينية من قضية عربية يقف فيها العرب جميعا طرفا في الصراع، إلى قضية تخص الفلسطينيين، وإن كان للعرب دور فيها فيُختزل في "مساندة الشعب الفلسطيني" في أحسن الأحوال مع التحذير بأن تعطيل الحلول السياسية يمكن أن يهدد أمن المنطقة. وتهديد أمن المنطقة في هذا السياق لا يشير إلى الخطر الإسرائيلي، بقدر ما يشير إلى ردود الفعل الشعبية العربية التي يمكن أن تغذيّ حركات التطرف والعنف.

    الثابت الإسرائيلي والمتغير الفلسطيني 

     

    الصراع على المعاني ليس ظاهرة جديدة في الفضاء السياسي العربي، ولكنه استعلن بصورة شرسة منذ معاهدة كامب ديفيد، وقبل ذلك، تقدم مفهوم "الاحتلال" لا ليضاف إلى مفهوم الاغتصاب والإحلال، ولكن ليصبح بديلا عنه، ومعه حل الحديث عن الأراضي المحتلة مكان الحديث عن الوطن السليب.

     

    كيف يصبح الاحتلال بديلا عن "الاغتصاب"، اغتصاب وطن بكامله؟ ألا يحيل الاحتلال في سياقنا العربي الفلسطيني إلى جزء من الوطن وإلى قوة محتلة لا يطرح السؤال حول شرعية وجودها في حدود دولتها، وإن طرح حول شرعية احتلالها لأراض خارج حدودها؟ حتى إذا استقر هذا المعنى للاحتلال في الوعي الجمعي مكان اغتصاب الوطن برمته، بدأ العمل على تغييب معنى "الاحتلال" نفسه على ما فيه من اللبس والتلبيس وإسقاط السابق باللاحق، ليحل مكانه الحديث عن "النزاع العربي الإسرائيلي" ثم "النزاع الفلسطيني الإسرائيلي". وإذ بالصراع صراع حول حقوق متنازع عليها، بين شعبين حدث اتفاقا أنهما يتجاوران في الإقليم نفسه.

    فلا ثمة وطن مغتصب ولا استعمار صهيوني إحلالي استيطاني فرض بفعل القوة القاهرة، وكأن إسرائيل معطى ثابت قديم قدم الأرض، وما وقع عام 1948 هو -كما تنص الرواية الصهيونية- استقلال الشعب الإسرائيلي من الاستعمار البريطاني الطارئ المؤقت على نحو ما استقلت دول أخرى كمصر والهند وسوريا والجزائر بعد حين. ثم كان على الشعب الإسرائيلي الذي أحرز استقلاله بعد صراع مرير مع الاستعمار (!) أن يتعامل مع تطلعات جماعات قومية أخرى اتفق أنها تعيش معه في الأرض نفسها، وتصر على أنها تمثل هوية وطنية مستقلة وتتطلع إلى الاستقلال بهويتها في دولة خاصة بها على جزء من الوطن الإسرائيلي، تدعي أنه حقها.

    وإذن فهو صراع حول حقوق متداخلة متنازع عليها بين طرفين قد يجور أحدهما على الأخر، ويتبادلان العنف والعنف المضاد فيستويان في المعيار الأخلاقي. هل قلت يستويان في المعيار الأخلاقي؟ لا ليس هذا واقع الحال وفقا للقوى الدولية الغاشمة المتواطئة التي تعتبر العنف الإسرائيلي دفاعا عن أمن إسرائيل في مواجهة عنف الجماعات الإرهابية المتطرفة من الجانب الفلسطيني. وهذه نتيجة منطقية لمقدمات التحريف المنظم للرواية التاريخية.

    فإذا كان ما وقع عام 1948 هو استقلال الشعب الإسرائيلي من القوة الاستعمارية الطارئة على وطنه(!)، ولا ثمة اغتصاب للوطن الفلسطيني، ولا ثمة إحلال لجماعات أجنبية طارئة مكان شعبه، ولاثمة تشريد وتهجير قسري وإلغاء لشعب كامل يسمي نفسه الشعب الفلسطيني، ولا حتى احتلال تالٍ، وإنما هي حقوق متنازع عليها بين دولة شرعية مستقرة ثابتة وجماعات مغايرة تعيش على نفس الأرض وتصر على أنها تمثل شعبا مستقلا يستحق دولة مستقلة، إذا كانت هذه هي مقدمات الرواية التاريخية، فلا بد أن تكون النتيجة المنطقية اعتبار العنف الفلسطيني إرهابا وتطرفا وعدوانا وتهديدا لأمن إسرائيل، يسوغ لها الدفاع والرد بعنف مشروع. فالتنازع على حقوق ملتبسة لا يقتضي الالتجاء إلى السلاح وممارسة العنف بدلا عن العمل السياسي والتفاوض السلمي.

    وإذن فإن أصل الرواية ليس اغتصاب الوطن الفلسطيني واقتلاع الشعب الفلسطيني منه وإحلال الإسرائيليين فيه، وإنما هو تنامي التطلعات الفلسطينية الوطنية نحو الاستقلال والدولة على أراضٍ متنازعٍ عليها بين الثابت الإسرائيلي المفروغ منه، والمتغير الفلسطيني المختلف عليه. وفي سياق هذه الرواية لا بد أن ينسب البدء في دورة العنف إلى الجانب الفلسطيني، ويكون العنف الإسرائيلي هو الرد المشروع. إلى هذا الحد يبلغ تحريف الرواية التاريخية ومعها نظام المعاني. فلا يكفي ظلما أن توضع الضحية والجلاد على صعيد أخلاقي واحد تحت عنوان "الحقوق المتنازع عنها" و"دورة العنف المتبادل بين طرفي النزاع" حتى يُبرأ الجلاد من المسؤولية الأخلاقية، وتدان الضحية لأنها لا تعرف كيف تموت بصمت لا يزعج الجزارين والشهود الصامتين.

    وفي أحسن الظروف والمواقف الموصوفة بالتوازن بل بالتعاطف مع التطلعات الفلسطينية، تصير مهمة الحكماء المعتدلين في الجانبين وفي المحيط الدولي والإقليمي الترويج لثقافة السلام والتعايش والتسامح وقبول الآخر ونبذ الكراهية لبناء عالم أجمل وأنبل للأجيال القادمة. وكأنّ أصل الصراع وحله يكمنان في النظم الثقافية: بين رفض الآخر وقبوله، بين ثقافة التنابذ والتفاصل والإقصاء والكراهية والعنف وثقافة التبادل والتكامل والتعاون والتعارف والحب والسلام. ويجري في هذا السياق تغييب قيم العدل والحق. ومن الطبيعي في هذا الفضاء إلغاء معنى "المقاومة" مع التغييب المنظم لأشراطها׃ اغتصاب الوطن واحتلاله وتشريد شعبه.

     

    الفلسطينيون "أيضا" لهم حقوق؟ 

     

    تحقق المشروع الصهيوني عام 1948 وانتصرت إسرائيل على الجيوش العربية في ذلك الحين، ثم في حزيران 1967. ومع ذلك، كان الخطاب الدولي والإسرائيلي نفسه يتوجه ضمنا إلى إقناع العرب والفلسطينيين، على الرغم من هزائمهم، بأن يتقبلوا أخيرا إسرائيل باعتبارها أمرا واقعا وحقيقة قائمة لا قبل لهم بإلغائها.

     

    فإن لم يتقبلوا ذلك مبدئيا فإن عليهم أن يتقبلوه بحكم موازين القوى التي لا يمكن أن تعتدل لصالح موقفهم. الجلاد، على قوته وشراسته وتفوقه، يحتاج إلى اعتراف الضحية به. حتى إذا تقبل النظام العربي هزيمته المؤبدة، وعجزه النهائي عن تحقيق شعارات التحرير، وأعلن من ثمّ أن السلام هو خياره الإستراتيجي الوحيد، بما يتضمنه ذلك من قبول إسرائيل باعتبارها حقيقة قائمة تَجُبّ معايير العدل والحق، انقلبت المعاني مجددا، فصار المطلب الآن إقرار إسرائيل بوجود شعب فلسطيني له حقوق في تقرير المصير والاستقلال والدولة إلى جانب الثابت الإسرائيلي الذي خرج نهائيا من حيز السؤال عن شرعيته. فإذا كان ذاك، فلا معنى لاستدعاء رواية اغتصاب الوطن الفلسطيني والطرد والإحلال.

    هكذا في زمن العجز والإذعان والخضوع والخنوع، تعيد النهايات والمآلات البائسة كتابة البدايات لتنسجم معها، بدلا من أن تؤسس البدايات للغايات والنهايات والمآلات. حسب نهايات زمن العجز، فإن جذر المشكلة يبدأ ببروز هوية وطنية فلسطينية تطالب بأن يكون لها بعض ما لإسرائيل من الحقوق. وعلى الثابث الإسرائيلي أن يتعامل مع هذا الطارئ الطارق الذي لا يكف عن الإزعاج والإلحاح وتهديد الأمن واللجوء إلى العنف، شأنه في ذلك شأن أي أقلية قومية تطالب بحق تقرير المصير. وهنا يصبح مطلب الدولة الفلسطينية على جزء صغير من الوطن السليب، بديلا عن الوطن. وفي أحسن الأحوال يصيح أحد الحكماء من ذوي الضمائر النزيه: "الفلسطينيون أيضا لهم حقوق" مع التركيز على كلمة "أيضا" التي تضمر أن الحق الإسرائيلي أمر مفروغ منه، وإنما السؤال حول حق فلسطيني هو في ذاته محل اختلاف من حيث تعريفه وحدوده، ويخضع من ثمّ لتغييرات وتأويلات متباينة متضاربة، وتحاصره التحفظات والاعتبارات الأمنية والاشتراطات السياسية وفقا للمرجع الإسرائيلي الثابت. فإن كان كذلك فإن تعريفه النهائي مؤجل حتى تقضي به المفاوضات بين الطرفين المتنازعين.

    وهنا يجري السكوت عن حقيقة أن المفاوضات السياسية تحكمها وتكيف نتائجها موازين القوى على الأرض. ولكي يموه الجانب الأضعف في العملية السياسية على هذه الحقيقة يبتدع مصطلح "الاشتباك السياسي" ليوهم المتشككين، وربما ليوهم نفسه، بأن جهوده التفاوضية شكل من أشكال النضال لا يقل شراسة عن الكفاح المسلح، وأنه سيكون طريقه لانتزاع الحقوق انتزاعا من الخصم العنيد، حتى لو كان الخصم في واقع الحال يتمتع بهيمنة كاملة بكل المعايير العسكرية والسياسية والاقتصادية، ومن خلفه قوى دولية طاغية لا تدعمه فقط، بل هي وصيّه وشريكه وطرف معه.

    كيف يكون التفاوض هنا اشتباكا سياسيا لانتزاع الحقوق من براثن عدوٍّ هو الذي يحدد مواصفات الشريك اللائق في العملية التفاوضية السياسية فيمنح الصفة لمن يشاء وفق معاييره، ويسقطها عمن يشاء، في الوقت الذي يشاء؟! فإن أسقطها كان له أن يحاصر رأس الطرف الأضعف في عقر مقره، ويلزمه المكوث في غرفة واحدة فيه تحت سطوة السلاح والجرافات العسكرية، ولا يسمح له بأن يغادر مكانه إلا إلى قبره، الذي يرجح أنه هو الذي أرسله إليه بصمت مريب؟!

    كيف يمكن أن يكون التفاوض سبيلا إلى انتزاع الحقوق أو شراكة بين طرفين، حين يكون أحدهما غالبا والآخر مغلوبا، ويكون أحدهما حاكما والآخر محكوما؛ حين يكون في وسع أحدهما أن يفرض على الآخر قراره وإرادته دون رادع، فيوسع المستوطنات أو يزيدها متى شاء، ويقتحم المدن والقرى والمخيمات أو يقصفها متى شاء، وينصب الحواجز بالمئات ويتحكم بحركة الناس بين المدن والقرى كيف شاء، بل إنه ليس في وسع القادة الفلسطينيين التنقل داخل أرضهم إلا بأذون خاصة منه؟

     

    حتمية تاريخية جديدة 

     

    كيف يمكن في ظل هذه الموازين المختلة أن ينتزع الضعيف ما قنع بقبوله من حقوق منقوصة أصلا في اشتباك سياسي موهوم؟ ألا يكفي أن الجانب الفلسطيني قد رضي بالجزء الأقل الذي احتلته إسرائيل عام 1967، ورضي بالاحتكام إلى قرارات الشرعية الدولية المتواطئة، حتى يصبح هذا الجزء محل تنازع، لا يجوز تعريف الحق الفلسطيني به مسبقا إلى أن تقضي به المفاوضات مع الطرف المتغلب؟ فإذا أصر الفلسطينيون، أو بعضهم، على تعريف مسبق لا يتجاوز حدود القرارات الدولية ﭐتُهم بالتطرف والتشدد، وسقطت عنه صفة الشريك المقبول، وحُمّل مسؤولية إحباط العملية السياسية؟.

     

    ومن جديد يجري تذكيرنا بطبيعة المفاوضات السياسية وجوهرها القائم على تقديم تنازلات مؤلمة من الطرفين، للتوصل إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف، وأية تنازلات مؤلمة يفترض أن يقدمها الطرف الإسرائيلي المهيمن؟.

    أما تنازلات العدوّ المفترضة فهي من حساب الأراضي التي احتلها عام 1967، الأراضي التي قنع الطرف الآخر باختزال حقوقه التاريخية فيها، وأما التنازلات المطلوبة من الجانب الفلسطيني فمن حساب تلك الأراضي وتلك الحقوق المختزلة أصلا ومعها حق العودة. فأي تكافؤ وأي شراكة في السلام وأي تنازلات متبادلة مؤلمة؟.

    فإن صاح صائحنا׃ "وأين العدل، وأين روايتنا التاريخية؟" قام من بيننا من استدخل المعاني المستحدثة التي أنتجها القوي المتغلب، فذكرنا بالحكمة المسترجعة "كفى بكم شعارات عاطفية وأحلاماً كاذبة"، ولا تعودوا إلى تفويت الفرص التاريخية التي برعتم بها منذ قام المشروع الصهيوني، حتى ألزمتكم الظروف المتغيرة أن تطالبوا أخيرا بأقل مما عرض عليكم أولا، وقياسا بتجارب الماضي، فإنكم إن رفضتم اليوم ما تتنازل لكم عنه إسرائيل، حتى لو بدا لكم مجحفا، فسيكون عليكم في المستقبل أن تقنعوا بما هو دونه׃ حتمية تاريخية من نوع آخر، ونواميس كونية حاكمة لا قبل لنا بتغيير مسارها، فلا مفر من الإذعان لها باعتبارها الأمر الواقع. ونقيضها الأحلام الكاذبة، والأوهام المدمرة والإديولوجيات المضللّة وشعارات الماضي التي لم تنتج إلا الهزائم والانكسارات والخراب.

    أما هذا الأمر الواقع فيبدو في هذا المنطق وكأنه معطى خارجي موضوعي ثابت، ثبات قوانين الطبيعة، تنعدم معه المسؤوليات الإنسانية والخيارات الأخلاقية. الأمر الواقع بهذا المعنى ليس نتاج الفعل الإنساني وعلاقات القوة المتغيرة التي تنتج جلادا وضحية يمكن أن تستسلم ويمكن أن تقاوم، وتنتج الخيانة والتواطؤ وخطابات الإذعان كما تنتج في مقابلها خطابات المواجهة والمقاومة والنهوض.

    العجز العربي قدر مقدور وأبدي كما التفوق الغربي والإسرائيلي، وإن كان لا بد من التماس العوامل والأسباب، فدع عنك الحديث عن الغرب والاستعمار والامبريالية، فهذه مشاجب نعلق عليها خيباتنا، ومعاذير نبرر بها أزماتنا، والتمسها في الذات المجبولة على التخلف والانحطاط، وأمعن في جلدها كما تشاء.

    لا بأس إذن، سنمضي مع هذا المنطق، ونعتبر الغرب والاستعمار والإمبريالية رواية متخيلة اختلقتها الخطابات القومية الفاشلة والاشتراكية الشمولية والإسلامية الرجعية لتسوق برامجها التي ثبت إخفاقها، وسنعتبر إخفاقها دليلا قاطعا على بؤس روايتها عن الاستعمار والامبريالية ودورهما في إخضاع العرب وإحباط مشاريع النهضة العربية وخلق المشروع الصهيوني وإسرائيل، وسنعزو كل تلك التهم الموجهة إلى الغرب ودوره إلى نظرية المؤامرة التي تنتجها ثقافة العجز والخمول، فلا ثمة قوى استعمارية احتلت أوطاننا بقوة الدبابة والطائرة الحربية والبارجة، ولا عملت على تقطيع أوصاله ونهب ثرواته وربطه بالمركز الغربي وتعطيل شروط نهوضه الذاتية. وإن لم يكن مفرٌّ من الإقرار بذلك فإن نجاح الغرب الاستعماري الإمبريالي في مشاريعه ضدنا كان نتيجة طبيعية لتفوقه الحضاري، وانحطاطنا الحضاري والثقافي.

    وإذن فإن تغلبه جائز يستحقه، إذ هو نتاج حضارته العقلانية العلمية الديمقراطية التي تمنح هيمنته براءة أخلاقية، وفي المقابل فإن هزائمنا أمامه عقوبة نستحقها، إذ هي نتاج ثقافتنا الغيبية العاطفية اللفظية البلاغية غير العقلانية، ونتاج عجزنا عن تبني الأسباب التي تفوق بها الغرب وعن احتذاء أنموذجه دون تحفظات.

    القوة والغلبة دليل على الصواب والحق، والضعف والهزيمة دليل الباطل. وعلى ذلك فبدلا من إنتاج خطابات العداء للغرب تحت شعارات معاداة الاستعمار والامبريالية، يجدر بنا أن نروج للقيم الحضارية الغربية باعتبارها القيم الكونية المنتجة للتقدم والتحضر والتطور. ثنائية الصراع، حسب هذه الرواية، ليست بين المستعمِر ﴿بكسر الميم ﴾ والمستعمَر ﴿بفتح الميم﴾، فهذه ثنائية عفا عليها الزمن وسقطت مع سقوط خطابات الثورة العالمية والاشتراكية الدولية والحركات القومية وانتصار القيم الليبرالية الرأسمالية انتصارا مؤبدا يثبت أنها نهاية التاريخ. وعوضا عن ذلك فإن ثنائية الصراع ينبغي أن تكون بين واقعية عقلانية ليبرالية يمثلها الغرب المتغلب وقيم التخلف الذاتي والانحطاط وتجارب الماضي الفاشلة׃ القومية الفاشية والاشتراكية الشمولية والثورية الرومانسية مع ما صاحبها من شعارات غير واقعية كالوحدة والعدالة الاجتماعية والنهضة المستقلة والتحرير.

     

    سياسة تفويت الفرص

     

    من الطبيعي في سياق هذه الرواية الليبرالية الجديدة، أن تسقط عقيدة الصراع مع إسرائيل والمشروع الصهيوني ومعها الرواية التاريخية للاغتصاب والإحلال والتشريد. إذ لا يمكن تغييب الراوية التاريخية عن الاستعمار والإمبريالية، مع إثبات الرواية التاريخية عن اغتصاب الوطن الفلسطيني والطبيعة الاستعمارية الإحلالية الاستيطانية للمشروع الصهيوني، الذي ينتظم تاريخيا في المشروع الاستعماري الامبريالي الغربي. لا يمكن الدفاع عن سياسات الولايات المتحدة وتحسين صورتها والترويج لسياسات الانحياز أو الإذعان لها بأي دعوى، مع المحافظة في الوقت نفسه على عقيدة العداء والصراع مع إسرائيل، وإن تعاظم تجبرها وبطشها بدعم مطلق من الولايات المتحدة. فإن لم تترك لك الجرائم الإسرائيلية المتجددة مجالا للصمت والتغافل، فوضعتك في موقف حرج، فإن لك مخرجا في أن توزع اتهامك بين الاتجاهات المتشددة في إسرائيل والاتجاهات المتطرفة العنيفة في الجانب الفلسطيني.

     

    ولا بأس أن تتحدث قليلا عن أخطاء سياسات اليمين المحافظ في الولايات المتحدة، على أن تُذكّر في الوقت نفسه بظاهرة الإرهاب العربية الإسلامية التي ينبغي أن يلتقي العالم على مواجهتها، ثم استعمل ظاهرة الإرهاب المدانة للتلبيس على مفاهيم المقاومة والجهاد وتلويثها، واعمل على تنفيس مشاعر العداء المتنامية ضد إسرائيل وجرائمها بالتركيز على الخطر الإيراني المقدم على كل خطر، فهي لا تهدد إسرائيل إلا بقدر ما تهدد العرب، أو أنها تتوسل العداء لإسرائيل والولايات المتحدة ذريعة للتغطية على هدفها الحقيقي׃ التمدد في المجال العربي وتهديد أمنه القومي. وعلى الرغم من أن ״الدين״ بوصفك ليبراليا ملتزما لا يمثل في الظروف الأخرى مرجعا لمواقفك السياسية، فمن المفيد هنا أن تستدعي الخلاف التاريخي الطائفي بين السنة والشيعة، وأن توظف نفسك ولو مؤقتا للدفاع عن أهل السنة والجماعة والتخويف من المد الشيعي الإيراني.

    فإن أدى ذلك بالضرورة إلى أن تلتقي مع إسرائيل والولايات المتحدة في مركب واحد/ محور واحد ضد الخطر الإيراني، فهو أمر تمليه التقاطعات السياسية ومعطيات الواقع وفقه الأولويات السياسية والأمنية. وبالإحالة، يمكنك الآن أن تجد مسوغا أخر للطعن في مصداقية المقاومة والجهاد في فلسطين، باعتبارها جزءا من المحور الإيراني الذي يضم سوريا وحزب الله والمقاومة الإسلامية في فلسطين التي يمكن أن تصورها الآن بأنها تطبق أجندة إيرانية معادية للعرب أكثر من عدائها لإسرائيل. فالاغتصاب والاحتلال والتشريد والحصار والتجويع والتركيع والقتل والتجريف والتدمير والقصف ليست أسباباً كافية للمقاومة، وإنما المقاومة أداة وورقة في يد إيران وبرنامجها المعادي للعرب في آخر المطاف. فإذا وصلت الرواية الليبرالية الجديدة إلى هذا الحد، فما الذي يتبقى من عقيدة الصراع مع إسرائيل ومقاومة الاحتلال ورواية الاغتصاب والإحلال والاحتلال.

    عودا إذن إلى الأمر الواقع: إسرائيل أمر واقع ونهائي لا مجال لتغييره، ولا مفر من قبوله ولا جدوى من مواجهته، ولا حل إلا بالتفاوض السياسي، وإن شئت فقل "الاشتباك السياسي"، ضمن معطيات الواقع ومحدداته، مهما يكن ميزان القوى مائلا ضدك ولمصلحة خصمك. ولا تقل من خلق هذا الواقع، ولا تتحدث عن إمكانية تغيير ظروفه وشروطه. فهذا وهم ينبغي تجاوزه؛ لم يكن ممكنا في الماضي، وليس ممكنا الآن، ولن يكون ممكنا في المستقبل.

    فارضَ إذن بما يمكن أن يقسمه لك هذا الواقع مهما بدا لك ضئيلا قياسا بادعاءات الماضي، ولا تعد إلى تفويت الفرص الذي أملى عليك اليوم أن ترضى بأقل مما أتيح لك في الأمس. لا تقل في عام 1948 اغتصب وطنك وأخرجت منه طريدا شريدا، ولكن ﭐذكر بدلا من ذلك أنك فوَّتَّ الفرصة التي أتاحها لك قرار التقسيم في ذلك الحين بأن تقاسم إسرائيل وطنك فتكون لك دولة كما لها.

    لا تقل إن اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل قد جنت على الموقف العربي والفلسطيني حين أخرجت أهم دولة عربية من مركز الصراع، وفتحت الباب على الاستفراد بكل قطر عربي كان جزءا من دائرة الصراع، فضلا عن الجانب الفلسطيني، وﭐذكر بدلا من ذلك أنك هنا أيضا قد فوَّتَّ فرصة أخرى لتحصيل ما لم تعد قادرا على تحصيله الآن.تفويت الفرص׃ هذه هي العبارة السحرية التي تصرف التهمة عن الجلاد وتردها إلى الضحية. فما ﭐل إليه حال الضحية لا يتحمل مسؤوليته إلا الضحية نفسها التي أبت أن تقر بالأمر الواقع وتكيف مطالبها وفق شروطه التي يصنعها الخصم وحده منفردا، واعتصمت بدلا من ذلك بالأحلام والأوهام عن الحق والعدل والمقاومة والثورة والجهاد والتحرير والتغيير والوحدة والنهضة ومواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني، ووصمت أصحاب السياسات الواقعية العقلانية بصفات التخوين والعمالة والخضوع والإذعان والاستسلام.

    ولا تسل هنا: كيف يمكن الجزم حسب رواية تفويت الفرص بأن إسرائيل كانت مستعدة دائما منذ قيامها للامتثال لقرارات الشرعية الدولية لولا تفويت العرب لتلك الفرص التاريخية؟ ولا تُذكـّّـر بكل تلك القرارات الدولية التي تجاهلتها إسرائيل فضلا عن تهربها من استحقاقات أوسلو وتجاهلها أخيرا للمبادرة للعربية؟ فلعل هذه قد وصلت متأخرة فجاز لإسرائيل أن تنبذها وراء ظهرها.؟

    حسب هذه الرواية التي تتوسل الحكمة بأثر رجعي، فإن على الشعب الذي يُغتصب وطنه ويطرد منه إلى المنافي أن يذعن لإملاءات هذا الواقع ويرضى بما قسم له مهما كان مجحفا، ويفك ارتباطه بوطنه وذاكرته التاريخية وجذوره، دون مقاومة، لأنه كان عليه أن يستشرف المستقبل، ليرى أحلامه المنكسرة بعد ستين سنة، وليعلم مسبقا أن واقع الاغتصاب الجديد سوف يبقى هو الواقع ذاته بعد ستين سنة، وربما إلى الأبد. فإذا كان كذلك، فَلِمَ يطيل معاناتـَه وعذاباتِه ويورط الآخرين معه؟ فليكن منذ اللحظة الأولى ما سوف يكون بعد عقود متطاولة من المآسي والمنافي والقتل والتشريد والتجويع والتركيع.

     

    التحرير ممكن إلا.. في فلسطين 

     

    وإن كان ثمة أوطان أخرى في العالم قد تعرضت للاحتلال ثم كافحت وغيرت شروط الواقع حتى نجحت أخيرا في تحرير أراضيها فإنها لا تصلح مثالا يتأسى به الفلسطيني.. فالتحرير ممكن في كل التجارب التاريخية إلا في تجربة الفلسطيني، وإن كان جزءا من أمة عربية تَعُدّ مئات الملايين، كانت القضية الفلسطينية قضيتها المركزية بقدر ما هي قضية الفلسطيني، وكانت تنظر إلى المشروع الصهيوني باعتباره جزءا من مشروع الهيمنة الاستعمارية الامبريالية على مجمل الوطن العربي، وفي المقابل ترى أن مشروع التحرير ينتظم في مشروع التحرر والنهوض العربيين، ثم ترى أن لهذا المشروع المزدوج الذي يتشارط فيه هدف التحرير مع هدف التحرر والنهوض، عمقا إسلاميا يمتد إلى أكثر من مليار مسلم، ثم عمقا إنسانيا في جبهة تحررية عالمية تتسع لأكثر من نصف العالم.

     

    كان على العربي وهو يستقبل النكبة عام 1948 أن يتجاهل كل هذه الاعتبارات فيذعن لواقع الاغتصاب ويرضى بما قسم له الواقع المؤبد، ويعلم مسبقا أن التحرير ممكن في كل تجارب الاحتلال والاغتصاب إلا اغتصابا تقترفه الصهيونية، فهذه خارج حسابات التاريخ، ولا تقاس بأي مثال آخر. بل يُنهى الفلسطيني حتى عن التأسي بعدوّه الذي مر بفلسطين قبل آلاف السنين كالكلام العابر، ثم خلق من أساطيره القديمة مشروعا دمج نفسه بالمشروع الاستعماري الغربي مكنه أخيرا من اختلاق شعب ووطن، على حساب شعب ووطن. أما في الحالة العربية الفلسطينية فتكفي تسع عشرة سنة هي الفاصل بين الاغتصاب الأول عام 1948 والاحتلال الثاني عام 1967 لكي نطالَب بنسيان الضائع الأول، إن كنا نرجو أن نسترجع الضائع الثاني، ونُدعى إلى إعادة تعريف القضية الفلسطينية وموضوع الصراع والأراضي المحتلة، ثم تكفي عشرون أو ثلاثون سنة أخرى كي نطالَب من جديد بأن نسقط من معجمنا مفاهيم المقاومة والجهاد والتحرير وخيار السلاح والحق والعدل، ونقنع بدلا منها بخيار السلام الإستراتيجي الأوحد تحت مظلة الراعي الأمريكي الذي يمثل الخصم والحكم معا، ويمتلك تسعاً وتسعين بالمائة من أوراق اللعبة، ويحتكر مع الحليف الإستراتيجي الإسرائيلي تعريف المشكلة وأبعادها وحدودها وشروط حلها بوصفها قضية حقوق متنازع عليها يقتضي حلها تنازلات مؤلمة متبادلة من الطرفين، أحدهما يتنازل عن شيء مما لغيره، والأخر يتنازل عن الكثير مما بقي له، فإن لم يفعل وقع من جديد في خطيئة تفويت الفرص التاريخية، حتى لو كانت الفرصة المتاحة تسقط حق العودة وتحتال على موضوع القدس الشرقية بصيغ مضللة، وتقطع أوصال الدولة المنشودة العتيدة وأراضيها بالمستوطنات الإستراتيجية، وتقضم من حدودها وسيادتها.

    وفي هذا السياق، نُستدرج إلى تقديم مفهوم "الدولة" على مفهوم "الوطن"، ويختزل الحلم الفلسطيني في حق الفلسطيني في أن يعبر عن هويته الوطنية في دولة ما، لا في تحرير وطنه واسترجاع حقوقه في إطار وطنه العربي. وهذه نتيجة منطقية لفك الارتباط بين القضية الفلسطينية وعمقها العربي، بين هدف التحرير وهدف التحرر والنهوض العربيين؛ وهو نتيجة منطقية لتكريس واقع التجزئة القطرية العربية والاستفراد بكل قطر على حدة، وإزاحة القضية الفلسطينية عن مركزها القومي، حتى ﭐختُزل الدور العربي من كونه في مجموعه طرفا في الصراع مع المشروع الصهيوني الذي ينتظم في المشروع الإمبريالي الشامل ضد الأمة العربية، إلى أن يكون في أحسن الأحوال مساندا للشعب الفلسطيني ومؤيدا لحقوقه، وربما ارتضى أحيانا أن يكون وسيطا محايدا بين طرفي الصراع والتنازع׃ إسرائيل والفلسطينيين.

    وربما انحط أحيانا إلى مستوى الضغط على الجانب الفلسطيني لقبول العروض الأمريكية الإسرائيلية، واتهام المقاومة، والمشاركة في الحصار، وذلك كله ينسجم مع الموقف الأمريكي الذي يذكر الشعب الفلسطيني في كل آن أن انسياقه وراء تيارات التشدد والتطرف والعنف التي تصف نفسها بالمقاومة، لا يفضي إلا لتطاول معاناته وتعطيل مشروع دولته؛ فالدولة هي الغاية حتى لو كان ثمنها التنازل عن جل الوطن والحقوق التاريخية وحرمان ستة ملايين لاجي فلسطيني من حقهم في العودة.

     

    دعوة صريحة إلى الاستسلام 

     

    البديل عن ذلك حقوق أقل، في فرصة أخرى، في زمن آخر، إن كانت ثمة فرصة أخرى. ودع عنك القول׃ هذا هو الإذعان والخضوع والاستسلام في جوهره، فتلك أحكام أخلاقية لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا مكان لها في فضاء السياسة العقلانية الواقعية، وهي تنتمي إلى معجم الشعارات الثورية التي لم تجلب علينا إلا الكوارث. وإن شئت أن تلح على معنى "الاستسلام"، فليكن؛ الاستسلام، نعم. ومن قال إن "الاستسلام" موقف مرفوض مرذول؟ هكذا يذكرنا أحد الكتاب الصحفيين في إحدى كبريات الصحف العربية بعنوان ينقل معركة المعاني والخطابات والروايات إلى مداها الأخير، فهو لا يدعونا إلى إسقاط هذا المعنى من معجم التوصيفات السياسي، وإنما يدعونا إلى إعادة تعريفه وشحنه بدلالات جديدة، ثم تبنيه والاحتفاء به بوصفه السبيل إلى تحرير العقل السياسي العربي من آخر الأوهام الثورية البائسة.

     

    كان ثمة حرب خضناها وخسرناها، وقد آن للمهزوم أن يقر بهزيمته النهائية ويكف عن المحاولات العبثية لإطالة حرب لا أمل له في كسبها ولن يأتيه منها إلا المزيد من الخراب والهزائم. أما إعلان "الاستسلام" فهو السبيل الوحيد إلى استدبار الماضي والانصراف إلى البناء والتنمية والتعمير والتقدم.

    ثم يستدعي التجربة اليابانية في الحرب العالمية الثانية، وكيف كان استسلام اليابان مقدمة ضرورية للتفرغ لانجاز المعجزة اليابانية التي نشهدها الآن، هكذا والله! ويتجاهل الكاتب -قصدا على الأرجح ﻷننا لا نتهم ذكاءه- كل الفروق التاريخية الموضوعية بين الحالة اليابانية والحالة العربية الفلسطينية. يتجاهل أن الصراع بيننا وبين المشروع الاستعماري الصهيوني ليس صراعا بين قوى إمبراطورية على التوسع والنفوذ في المجال الكوني، وإنما هو صراع بين المستعمِر (بكسر الميم) والمستعمَر (بفتح الميم)، بين قوى الاغتصاب والاقتلاع والاحتلال والتشريد والعدوان والإلحاق، والأمة التي تكافح أو ينبغي لها أن تكافح، من أجل التحرر والتحرير.

    وهب أننا أخذنا بالنصيحة وأعلنا الاستسلام، فمن هو الطرف المتغلب الذي ينبغي أن نوقع معه وثيقة الاستسلام׃ الغرب كله؟ الإمبراطورية الأمريكية؟ إسرائيل؟! ومن هو الطرف العربي الذي سيوقعها عن الأمة العربية والشعب الفلسطيني؟ الجامعة العربية مثلا، أم يكفي الشعب الفلسطيني لهذه المهمة العظيمة؟ وهب أننا فعلنا ذلك على نحو ما، فهل نتوقع بعد ذلك أن تنفتح لنا أبواب النهضة والتقدم والديمقراطية لنصير في أعوام معدودة ما صارت إليه اليابان؟ ومن نحن الذين سنبلغ هذا المبلغ من الرقي والتقدم التقني والقوة الاقتصادية العالمية المنافسة؟ فاليابان دولة واحدة ونحن دول؟ أم أن كل قطر من أقطارنا سيكون "يابانا" برأسه، من الصومال إلى السودان إلى مصر إلى الأردن إلى موريتانيا.. "وإذن لا يتسع العالم لإمبراطورياتنا الاقتصادية العظمى".

    كل هذه الفروق والاعتبارات لا تردع كاتبنا الفذ من عقد المقارنة بين التجربة اليابانية والحالة العربية! فليس بيننا وبين انجاز نهضتنا المنشودة إلا الاستسلام. هكذا تحدث حكيمنا الليبرالي الواقعي العقلاني.

    وإن قيل إن اقتراح حكيمنا ذاك، غلو استثنائي، لا يقاس به، فإن المنطق الذي بني عليه يمثل مكوِّنا هاما في الرواية الليبرالية الجديدة، برز إلى السطح بعد اتفاقيات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية في سياق الخطاب السجاليّ الذي تصدى للدفاع عن الاتفاقيات والترويج لها، في إطار حملة إيديولوجية شاملة ضد الفكر القومي برمته، والفكر اليساري، ثم الفكر الإسلامي في رزمة واحدة، مع تسويق تيار ليبرالي منحاز للغرب والولايات المتحدة ومدافع عن الواقع القطري باسم الروح الوطنية، وعن اقتصاد السوق عوض الاشتراكية. فمن بين الدعاوى الرئيسية التي ساقها وما زال يسوقها ذلك التيار الليبرالي، أن المشاريع الفاشلة ومعاداة الغرب وحالة الصراع والحرب مع إسرائيل هي المسؤولة عن تعطيل عملية التنمية والتقدم والرفاه الاجتماعي على المستوى القطري، وفي المقابل فإن السلام مع إسرائيل في إطار الانفتاح على الغرب والولايات المتحدة كفيل بأن يحرر الطاقات والموارد ويصرفها في عملية البناء الداخلي والتقدم والرفاه والديمقراطية. وكفى الله المؤمنين القتال.

    وطالما أن العملية السلمية لم تشمل المنطقة العربية في مجملها، ولم تحل أصل الصراع׃ القضية الفلسطينية، فإن هذا المنطق يتجاهل مفهوم الأمن القومي والإقليمي، ويختزله في الأمن القطري، ويجعل الولايات المتحدة ضامنه الأول، مهما تفجرت بؤر الصراع والتوتر من حول النطاق القطري. وعلى أي حال، قد كان ما قيل، أعني السلام بين مصر وإسرائيل منذ زهاء ثلاثين سنة كافية لاختبار ذلك المنطق، ولم يرجع علينا أصحابه بتقويم المآلات ليقيموا علينا الحجة القاطعة. فأين التقدم والرفاه والديمقراطية؟! وأين أمن المنطقة وكل ما وقع ويقع فيها يهدد بتفجيرها؟ ولِم يحق لأمريكا أن تعتبر العالم كله مجال أمنها القومي الذي يستدعي تدخلها في أي قطر فيه، بينما يصر بعضنا على التقوقع القطري إلا أن تكون المشاركة في المشاريع الأمنية الإقليمية مطلبا أمريكيا وجزءا من محور تباركه الولايات المتحدة ويتوافق مع أمن إسرائيل.

    نعم، ربما كان السبب في عجز عملية السلام عن تحقيق وعودها في التقدم والرفاه والديمقراطية وإنجاز تجربة يابانية أخرى، أنها لم "ترقَ" إلى مستوى الاستسلام حسب كاتبنا الصحفي اللوذعيّ! أو أن الشعوب الساذجة لم ترقَ بعد إلى مستوى قادتها - صانعي السلام- لتقبل على السلام وتنخرط فيه دون تحفظ!.

     

    المعجم الليبرالي العربي الجديد 

     

    الخطاب الليبرالي الجديد، يبني مسوغاته على أخطاء التيارات الأخرى وعورات التجارب القومية واليسارية السابقة، شأنه في ذلك شأن الإديولوجيات الأخرى في الفضاء السياسي العربي. فكل منها يقيم حجته بالسلب لا بالإيجاب؛ بما أخفق الآخرون في إنجازه لا بما نجح هو في إنجازه. وإذ يدين التجارب العملية الفاشلة فانه يحتج بذلك على المبادئ نفسها.

     

    فشل مشاريع الوحدة مثلا لا يستدعي نقد التجارب العملية وتحليل أسباب الفشل وإعادة النظر في الإستراتيجيات والأساليب، مع سلامة المبدأ وضرورة الغاية، وإنما يجب أن يعزى إلى جوهر المبدأ وصميم الغاية والفكر الذي يحيط بهما، والبديل هو تكريس التجزئة القطرية التي بدأت تدخل الآن في مرحلة جديدة عنوانها׃ تجزئة المجزأ أيضا. والهزائم العسكرية ليست وقائع ظرفية تاريخية يمكن تحليل عواملها الموضوعية الداخلية والخارجية سعيا وراء تغيير الشروط والظروف، وإنما هي دليل نهائي على ماهية ثقافية عربية ساكنة ثابتة تعيد إنتاج الانحطاط والعجز والهزيمة فيما يشبه الحتمية التاريخية التي لا فكاك منها. والبديل هو الخضوع والإذعان والاستسلام والتنازل عن الحقوق تحت مسميات السلام.

    وانهيار التجارب الاشتراكية صك براءة للرأسمالية المتوحشة التي يمكن القول الآن إنها تمثل نهاية التاريخ. وانتشار ظواهر التطرف والإرهاب لا يستدعي تحليل العوامل البنيوية والسياسية التي أسهمت في خلقها، فإن ذلك يحيل من جديد إلى مظالم الإمبراطورية ووكيلها الإسرائيلي فضلا عن إخفاقات النظام العربي، والأجدر أن تنسب إلى مصادر ثقافية عربية إسلامية، وربما إلى جوهر الإسلام نفسه وصولا إلى تعميم التهمة على كل التيارات والاتجاهات الإسلامية وعلى مفاهيم المقاومة والجهاد مطلقا. وكل ذلك يتناغم مع التساؤل الأمريكي الشهير׃ "لماذا يكرهوننا"، ومع الإجابة الذكية الفورية "حسدا من أنفسهم لما ننعم به من الازدهار والحريات وأساليب الحياة المتقدمة". أما لماذا لم تنصرف هذه الكراهية إلى اليابان مثلا، وهي التي لا تفتقر إلى الازدهار والتقدم والحريات وأساليب الحياة المتقدمة، فسؤال يتم تجاهله.

    تبقى الثنائيات المتفاصلة أساسا لفكر سياسي عربي ذي طبيعة اختزالية. وكل طرف من تلك الثنائية يستمد مسوغاته من أخطاء الطرف الآخر وثغراته وإخفاقاته. نعم، ينبغي أن نراجع تجارب الماضي وخطاباته مراجعة نقدية جريئة. فَنُقِرّ أنه بدعوى أولويات المشاريع القومية (الوحدة واستكمال مشاريع الاستقلال والتحرر من التبعية ومواجهة المشروع الصهيوني والتحرير)، تم تغييب الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية، وتكريس الدولة البوليسية والنظم الشمولية وقتل روح المبادرة. فكانت المحصلة، أننا أخفقنا في تحقيق الأهداف القومية وخسرنا حرياتنا المدنية في الوقت نفسه.

    ولم يدرك الكثيرون منا أن هذا من ذاك، وأن الحريات المدنية والمشاركة السياسية ليست بديلا عن تلك المشاريع القومية، بل هي شرط لها. ثم جاء الخطاب الليبرالي الجديد، ليقتات على تلك الأخطاء، وليعكس المعادلة، فيجعل مطلب الازدهار الاقتصادي والتفرغ للتنمية والديمقراطية والحريات المدنية مسوغا للتخلي عن المشروعات القومية وعن إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني والقوى الامبريالية التي ينتظم فيها، والجنوح إلى السلام مهما يكن ثمنه. فماذا كانت المحصلة؟ من جديد، تم إسقاط الأهداف القومية الكبرى ولم تتحقق وعود الازدهار والديمقراطية والحريات المدنية.

    والأنكى من ذلك، أن ذلك التيار الليبرالي الأمريكي الهوى والوجهة الذي نصب نفسه داعيا للحريات المدنية والديمقراطية، باعتبارها العصا السحرية الكفيلة بحل مشاكل المنطقة قد ﭐنتهى في الكثير من الأحيان حليفا للسلطة مدافعا عنها محرضا لها ضد تيارات المعارضة، حين بدا أنها الأقدر على المنافسة في العملية الديمقراطية إذا ما أتيح لها ذلك في ظل انتخابات نزيهة. وظاهر الحال أن هذا التيار، وفقا للسياسة الأمريكية، يريد عملية ديمقراطية تفضي إلى وصول القوى الليبرالية المقبولة أمريكيا إلى السلطة، أما إذا كانت النتائج المتوقعة بخلاف ذلك فالأفضل تجميد العملية وعدم الإلحاح عليها. والحال، أن هذا التيار الليبرالي المتطرف على الرغم من كل ادعاءاته الديمقراطية يفضل نظاما علمانيا عسكريا على نمط الأتاتوركيّة يفرض برنامجه، على عملية ديمقراطية حقيقية يمكن أن تأتي بتيارات المعارضة التي ما زالت متمسكة بمعاني المقاومة والتحرر والتحرير والوحدة والأمن القومي والعدالة الاجتماعية والنهضة والقرار المستقل.

    حقيقة الأمر، أن حملة هذا التيار على النظم البوليسية والديكتاتورية السابقة التي خنقت الحريات، لا يستهدف الديكتاتورية نفسها بقدر ما يستهدف الخطاب القومي ومفرداته السياسية التي اقترنت بتلك النظم، بحيث يبدو أن هناك تلازما شرطيا بين طبيعة ذلك الخطاب القومي وطبيعة تلك النظم، وأن أحدهما يحيل إلى الآخر بالضرورة. ومن هنا لابد من إضافة صفة "الفاشي" إلى عبارة "الفكر القومي" بصورة متلازمة، أو تحريف "كلمة قومي" "وقومية" إلى "قومجي" و"قومجية" بقصد التبخيس والازدراء، فضلا عن تحريف كلمة "إسلامي" إلى "إسلاموي" للغرض نفسه. أما اغتيال الحريات والتضييق على المعارضة في ظل أنظمة مقبولة أمريكيا، فيجري السكوت عنها. فالمشكلة الجوهرية ليست في الديكتاتورية وقمع الحريات، ولكن في البرنامج السياسي والمحتوى الإيديولوجي للنظام، وإلا فلماذا يختار هذا التيار أن ينضمّ إلى القوى المحلية والإقليمية والدولية في حملتها المنظمة ضد نتائج العملية الديمقراطية النزيهة -بشهادة الجميع- التي جاءت بحماس إلى الحكومة في فلسطين؟

    ولماذا يذكرنا بطغيان نظام صدام حسين، ويصمت عن الدمار الذي أحدثه الغزو الأمريكي للعراق وأدى إلى مقتل ما يزيد على المليون وتهجير زهاء أربعة ملايين، وردّ العراق إلى ما قبل الدولة الحديثة (ليبرالية كانت أم غير ليبرالية) لتصير دولة قائمة على الأنصبة الطائفية والعرقية، فضلا عن إخراجها من المنظومة العربية في واقع الحال؟! لماذا يدين هذا التيار المقاومة اللبنانية مذكرا بهويتها الشيعية وارتباطها بإيران ويؤيد في المقابل القوى السياسية العراقية الحاكمة المتضامنة مع الغزو الأمريكي، متجاهلا هذه المرة هويتها الشيعية وعلاقتها التاريخية بإيران؟ لماذا لا يذكر الرابط الإيراني حين يتقاطع مع مواقف الولايات المتحدة ويذكره فقط حين يتصادم معها؟

    لماذا لا يبذل جهدا في التمييز بين الإرهاب الذي يستهدف المدنيين في العراق وغيره، وبين شرعية المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي، ولومن حيث المبدأ؟ ولماذا يتجنب ابتداء وصف الوجود الأمريكي في العراق بالغزو والاحتلال غير الشرعي، ويفضل الكلام عن "قوات التحالف"، متجاهلا أن قرار الحرب تم خارج الأمم المتحدة وأنه واجه رفضا عالميا، وأن ذرائعه قد ثبت بطلانها، فضلا عن فضائح التضليل المتعمد بشأنها؟ ولماذا يدين هذا التيار التدخل الإيراني في العراق ويتغافل عن حقيقة أن الاحتلال الأمريكي هو الذي أتاح لإيران وحلفائها العراقيين فرصة التمكن هناك؟ وكيف يمكن الجمع بين المطلبين الأمريكيين׃ دعم القوى الحاكمة في العراق ومواجهة حليفها الإيراني في الوقت نفسه؟.

    في الديمقراطية: الشرق شرق والغرب غرب 

     

    من الواضح أن معيار الفرز والاصطفافات والتحيزات ليس مبادئ الليبرالية والحريات المدنية، بقدر ما هو العامل الأمريكي. والعامل الأمريكي هو بالضرورة العامل الصهيوني الإسرائيلي! وكفى تمويها في معركة المعاني! وأعظم تمويه هنا هو انتساب هذا التيار الأمريكي الهوى والبرنامج إلى "الليبرالية" بل اختطافه لهذا المصطلح ومعناه. ففي واقع الحال والممارسة يقترب هذا التيار من طروحات "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة أكثر من اقترابه من التيارات الليبرالية الأمريكية نفسها التي تشن حملات نقدية شرسة ضد السياسات الأمريكية المحافظة لا نجد بعضها عند الليبراليين العرب الجدد.

     

    نعم، آن الوقت لكي نحرر التسميات والمصطلحات والمعاني من الالتباسات التي تعمل على تلويثها، ومن القوى والتجارب التي اختطفتها ثم شحنتها بدلالات سلبية محرفة صرفتها عن معانيها الأولى. فمعركة المعاني مع التيار الليبرالي الجديد الذي حاولنا تفكيك خطابه ومقاصده، يجب ألا تذهب بنا إلى التعميم على الليبرالية بإطلاق أو على الليبراليين بعامة ولا إلى رفض مبادئ الليبرالية النظيفة المتحررة من الإملاءات والأجندات الأمريكية ومعاييرها المزدوجة. بل إن الرد الأمثل على الابتزازات الأمريكية بدعوى الحريات الليبرالية يتمثل في تبني قيم الديمقراطية والمشاركة السياسية وتطوير مؤسسات المجتمع المدني والاحتكام إلى صندوق الاقتراع والتناوب السلمي على السلطة، في إطار عملية ديمقراطية نزيهة وحراك سياسي مستقل، دون إقصاء مسبق لأي تيار سياسي يعمل بالطرق السلمية.

    والحال أن الإلحاح الأمريكي على مسألة الديمقراطية والحريات المدنية بعد عقود من دعم الولايات المتحدة لنظم عسكرية ديكتاتورية شديدة البطش في أماكن مختلفة من العالم، وتدبيرها الانقلابات العسكرية على حكومات مدنية وصلت بالانتخابات الحرة، هذا الإلحاح لم يأت نتيجة لصحوة ضمير، ولا التزاما برسالة أخلاقية، ولكن لرفع الحرج الذي تسببه لها أنظمة حليفة غير ديمقراطية، ولأنها توهمت أنه بعد انحسار تيارات اليسار المعادي للولايات المتحدة، مع انهيار المركز السوفييتي، فإن العملية الديمقراطية يمكن أن تأتي بالتيارات الليبرالية الصديقة.

    والأهم من ذلك أن المطلب الديمقراطي جاء على خلفية التساؤل الشهير حول أسباب موجة التطرف والإرهاب والكراهية من الولايات المتحدة، فكانت إحدى الإجابات المقترحة: غياب الديمقراطية الذي يدفع الشعوب إلى معاداة حكوماتها، ليمتد العداء إلى راعيها الأمريكي. وبذلك تصرف الولايات المتحدة التهمة عن دور سياساتها الخارجية في إطلاق موجة الكراهية والتطرف، وتصرفها، بدلا من ذلك، إلى أسباب محلية داخلية. وهكذا تقلب الحقيقة تماما، وهي أن العداء لأمريكا بسبب سياستها الخارجية، هو أحد أهم أسباب عداء الشعوب لأنظمتها المحلية المتهمة بالتواطؤ مع الولايات المتحدة والخضوع لإملاءاتها وليس العكس.

    أما النظام العربي نفسه، فينطوي على مفارقة كبرى في هذا السياق. إذ يبقى ممتثلا للإملاءات الأمريكية معظم الوقت، باسم المصالح المشتركة والسياسات الواقعية العملية، حتى إذا طالبه الراعي الأمريكي بمزيد من الحريات المدنية وحقوق الإنسان والديمقراطية (بغض النظر عن المقاصد والغايات)، وجد الشجاعة الغائبة أخيرا للاعتراض على التدخل الأمريكي والدفاع عن السيادة والقرار المستقل. وربما تذكر هنا فقط أن الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، لأنهما قد يلتقيان على كل شيء ماعدا الديمقراطية "الدخيلة" التي تتعارض مع خصوصياته الثقافية وهويته الحضارية ‼ لا خطر على هويتنا الثقافية ووجودنا الحضاري من الهيمنة الغربية الأمريكية إلا في مجال واحد׃ الديمقراطية والحريات‼ والواقع أن هذه المفارقة تنسجم تماما مع الطبيعة الإيديولوجية للنظام العربي الرسمي الذي يمسك العصا من الوسط، فيحتفظ بقدر معلوم من العلمانية الغربية يكفي لقمع المعارضة الإسلامية باسم التقدم والاستنارة ومواجهة الرجعية والظلامية، وبقدر معلوم من الإسلام يكفي لقمع المعارضة العلمانية باسم الدفاع عن الهوية الحضارية والخصوصيات الثقافية والدينية. ثم لا يكون هذا ولا ذاك!

    وهذا يفسر، من جهة أخرى، لماذا تجد بعض القوى الليبرالية نفسها أحيانا في صراع مع النظام، وربما عمدت إلى الاستقواء بالقوى الخارجية أحيانا، ثم تجد نفسها حليفا له ومدافعا عنه في وجه المعارضة لسياسات الولايات المتحدة، سواء أكانت إسلامية أم قومية أم يسارية. معايير مزدوجة تطبع الأقانيم الثلاثة׃ الولايات المتحدة، ووكيلها المحلي الرسمي، والليبراليين المتطرفين الجدد دعاة الانفتاح على الطريقة الأمريكية.

    تحرير المعاني 

     

    وبقدر ما يملي علينا صراع المعاني أن نُحرّر معنى الحريات الليبرالية والديمقراطية ممن اختطفوها وحرفوا مقاصدها، فقد آن الأوان أيضا لأن نسترد المعاني القومية والإسلامية والتحررية ممن اختطفوها منا، وقدموا من خلال أخطائهم وممارساتهم المتطرفة المسوغات التي يحتج بها المروجون لثقافة الاستسلام والإذعان والخضوع للبرامج الأمريكية الصهيونية في المنطقة. آن الأوان لنُحرّر تلك المعاني والمبادئ من عبء التجارب الفاشلة الماضية. وفي الوقت نفسه، آن الوقت لنتحرر من شرك الثنائيات الإيديولوجية المتفاصلة التي تتبادل الإقصاء، وأن نستعيد المبادرة في معركة المعاني:

     

    - فندين "الإرهاب" بالإسلام في مواجهة من يتوسلون ظاهرة الإرهاب لاتهام الإسلام نفسه.

    - وإذ ندين "الإرهاب"، فإننا نقاوم الرواية الأمريكية التي ترد ظاهرة "الإرهاب" إلى مصادر ثقافية تربوية عربية إسلامية، لتخفي دور العوامل البنيوية التي أسهمت إسهاما جوهريا في إطلاق الظاهرة، وخلقت الظروف المادية والنفسية المناسبة لنموها: وفي مقدمتها المظالم التي ارتكبتها وترتكبها الإمبراطورية الأمريكية ودعمها المطلق للسياسات الإسرائيلية وتجاهل الحقوق العربية والفلسطينية وتخاذل النظام العربي وخيباته. ولا ننكر هنا أن ثمة منابع فكرية أسهمت في إنتاج ظاهرة التطرف ومن ثم الإرهاب، وأنه ينبغي معالجتها على الصعد الثقافية والتربوية والدينية، ولكن حصر الأسباب في هذه المنابع تضليل وتلبيس.

    - كما أن علينا أن نقاوم التعريف الأمريكي الضيق للإرهاب الذي يجعله اختصاصا عربيا إسلاميا ويحصره في التنظيمات والجماعات المعنية. فإن أي تعريف للإرهاب يتجاهل إرهاب الدولة والإرهاب الإسرائيلي وإرهاب السياسات الخارجية الأمريكية، يفتقر إلى المصداقية والقبول.

    - كذلك ينبغي ألا نخضع للابتزازات التي تلوح لنا بتهمة "الإرهاب"، لنسقط من معجمنا معاني المقاومة والجهاد، أو نستعملها بصوت خفيض خجول، مع استدراكات اعتذارية دفاعية تبريرية خشية التباسها مع "الإرهاب" والتطرف. ألا ترى كيف عملت الرواية الليبرالية الأمريكية على تلويث معنى الجهاد بخلطه قصدا مع "الإرهاب"، حتى صار بعض كتابها يستعملون مصطلح "الجهاديين" و"الجماعات الجهادية" وصفا للحركات "الإرهابية"؟! علينا من جديد تحرير المصطلح ممن اختطفوه منا، ليبقى الجهاد ضد الاحتلال والغزو ذروة سنام الإسلام، ولتبقى المقاومة المشروعة أنبل صور النشاط الإنساني. إن إسقاط معاني المقاومة والجهاد يضمر تغييب الشروط والأسباب والسياقات التي تملي استدعاءها وإنزالها على الواقع. فالمقاومة لا تتعرف بذاتها، وإنما تتعرف بنقائضها وأضدادها: الاحتلال والغزو والإذعان والاستسلام. ولذا فإن تغييب معاني المقاومة يضمر تغييب واقع الاحتلال والاغتصاب والغزو من فضاء التصورات والمعاني والخطابات، لتحل مكانه توصيفات أخرى مضللة كالتنازع على الحقوق.

    أما التأكيد على معاني "الاحتلال" و"الغزو" فهو تأكيد على معنى "المقاومة" المشروعة في المقابل، والتأكيد على معنى المقاومة يستدعي التأكيد على نقيضه وشرطه: الاحتلال والغزو، مثلما يذكر بنقيضه الآخر في الجبهة الداخلية: الإذعان والخضوع والاستسلام.

    وبالمثل، فإن علينا أن نرد الاعتبار للمعاني المبدئية التي تعرضت وتتعرض لهجوم شنيع من خلال الربط المتعسف بينها وبين التجارب الماضية الفاشلة ربطا شرطيا. فكما أن علينا أن نسترد الإسلام من تيارات التطرف والإرهاب التي اختطفته، فإن علينا أن نسترد معاني الوحدة والعروبة والعدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية وتحرير الأرض من تجارب النظم البوليسية القمعية التي رفعت تلك الشعارات ثم أخفقت في إنجاز وعودها وانتهت بنا إلى الكوارث المشهورة. فالبديل عن الطغاة ليس الغزاة، بل إن الطغاة في التاريخ كانوا دائما شرط الغزاة. وكيف ندين أشكال المعارضة الداخلية العنيفة المتطرفة ضد الأنظمة المتسلطة ثم نرضى بالتدخل العسكري الأجنبي لتحريرنا منها بقوة الغزو والسلاح؟.

    إن البديل المجدي للتطرف باسم الدين، هو الفهم الوسطي المعتدل له. والبديل عن التجارب الفاشلة للوحدة، ليس إسقاط المعنى والمبدأ وتكريس واقع التجزئة القطرية، إنما هو تطوير إستراتيجيات واقعية حكيمة لخدمة المبدأ وتحقيق الغاية، وإن البديل عن جملة الإخفاقات في مواجهة المشروع الصهيوني ليس الإذعان له والتنازل النهائي عن الحقوق، ولكنه مراجعة أسباب الإخفاقات واستثمار القدرات والإمكانيات العربية الكامنة وتصويب الاختلالات السياسية والمادية والثقافية والاجتماعية التي أفضت إلى هزيمة النظام العربي أمام العدو، وإلى هزيمة الشعوب العربية أمام النظام العربي. وإن البديل عن انهيار التجارب الاشتراكية ليس الرأسمالية المتوحشة بأشكالها الجديدة المتطورة ولا استئثار القلة بثروات العالم وسحق الغالبية الضعيفة الفقيرة، وإنما البديل نظام عالمي ومحلي متوازن يحقق مبدأ العدالة الاجتماعية والإنسانية والتضامن والتكافل دون أن يجني على الحريات أو يصادر الحقوق وروح المبادرة.

     

    وفي هذا السياق من معركة المعاني، ينبغي ألا تدفعنا الرواية الأمريكية إلى الخجل من استعمال مصطلحات الاستعمار والامبريالية والاستغلال الرأسمالي في وصف الواقع السياسي الاقتصادي الدولي، خشية أن تحيل هذه إلى الشيوعية الدولية المنحسرة والتجارب الاشتراكية الفاشلة في الدول النامية وشعارات الثورة العالمية في عقد الستينات. فالاستعمار والامبريالية لم يكونا اختراعا سوفيتيا عملت الآلة الدعائية على الترويج لهما في سياق الحرب الباردة، حتى إذا انهار الاتحاد السوفييتي، انهارت معه تلك المعاني والأوهام. حقيقة الأمر، أن الإمبريالية الرأسمالية كانت قبل الاتحاد السوفييتي، وأثناء وجوده، وازدادت تغولا وشراسة بأشكال جديدة بعد انهياره. فهل يجب أن ننتظر حتى تنفجر أزمات النظام الرأسمالي الامبريالي بمستوى كارثي كي نعيد الاعتبار لمعاني العدالة الاجتماعية في مقابل الاستغلال الرأسمالي والهيمنة الامبريالية؟!

     

    بعد ستين سنة من النكبة المستمرة، لم تتغير حقائق الصراع مهما اجتهد الخطاب الامبريالي الأمريكي الهوى في تحريف الرواية وتشويه المعاني.. إسرائيل مشروع استعماري إحلالي استيطاني ودولة وظيفية تنتظم في البرنامج الاستعماري الامبريالي الشامل ضد الأمة العربية ومشروع نهضتها وتوقها للتحرر من التبعية وتحرير الثروات والوحدة واستئناف دورها الحضاري في الفضاء الإنساني. وإذا كانت الاستجابة على قدر التحدي، فإن القضية الفلسطينية في المقابل تبقى القضية المركزية للعرب ولا تنفصل عن عمقها العربي، وهي بذلك تنتظم في مشروع النهوض العربي بكل جوانبه المادية والثقافية والروحية والسياسية التي تتضمن شرط التحول الديمقراطي الصحيح غير المرتهن للأجندات الأجنبية والذي يجمع تعريفه بين البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية، فلا يُقصي الحريات المدنية والسياسية انطلاقا من مفهوم ضيق للديمقراطية الاجتماعية، ولا يتجاهل الحقوق الاجتماعية بدعوى المبادئ الليبرالية.

    نزعم أن هذا التصور ليس مجرد خيار إيديولوجي، بقدر ما هو تمثيل لحقائق الواقع التاريخي، ولذا كان من الطبيعي أن ينتظم صراع المعاني حول القضية الفلسطينية في الإطار الأوسع لصراع المعاني حول الوضع العربي بعامة.

    الرواية الفلسطينية هي بالضرورة عقدة رئيسة في الرواية العربية الشاملة. والخيارات في صوغ مفرداتها وتعريف معانيها هي الخيارات التي يتبناها هذا الطرف أو ذاك في توصيف الواقع العربي وتشكيل مساره. فالمعجم السياسي الذي يتضمن معنى المقاومة والتحرير هو نفسه الذي يتضمن معاني الأمة العربية والوطن العربي والوحدة والتحرر والنهوض والديمقراطية الحقيقية والتكامل والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والأمن القومي، ورفض سياسات الإذعان والاستسلام والهيمنة الامبريالية والتبعية والاستغلال والفساد والديكتاتورية.

    والمعجم المقابل لا يسقط معاني المقاومة والتحرير إلا ليسقط معها كل المفردات الأخرى السابقة، ليحل مكانها منظومة من المعاني تشمل القطرية الضيقة بدعوى الهوية الوطنية، والشرق الأوسط، والسلام الذي لا يتأسس على العدل ويضمر الإذعان للأمر الواقع، والانفتاح الذي يبطن التبعية والرأسمالية المتوحشة غير المنضبطة بمحددات العدالة ومنع الاستغلال وحماية الطبقات الفقيرة والرعاية الاجتماعية... الخ.

    هل يعني دفاعنا عن نظام المعاني التحررية، أننا ندعو إلى دق طبول الحرب، والانغلاق على الذات أو العمل بمقولة " الكل أو لاشيء" كما يحب أصحاب المعجم الآخر أن يُصوّروا منظومة المعاني التي نتمسك بها؟.

     

    إعادة الاعتبار للثوابت الفلسطينية 

     

    نعلم أن الطريق ما زال طويلا، وأن موازين القوى لا تعمل الآن لصالحنا وأن النظام العربي لا يملك القدرة ولا الإرادة السياسية ولا القرار المستقل، وأنه جزء من المشكلة أكثر منه جزءا من الحل. ولكننا نعلم أيضا أن هذا الواقع ليس نهاية التاريخ وليس قدرا محتوما ومؤبدا لكي نؤسس عليه خياراتنا النهائية بدعوى العقلانية والواقعية. وإن قيل إن السياسة هي "فن الممكن" فإن هذا لا يعني أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، بل إن جوهر المشكلة أننا لم نستثمر إمكانياتنا الكامنة لخلق واقع جديد حتى تحت سقف النظام العربي القائم. الواقع الراهن ليس نتاجا للإمكانيات، بقدر ما هو نتاج لتعطيلها. فإن قيل׃ "هل يعني هذا أن نرفض مبادرات السلام والتسوية السياسة حتى نستكمل مشروع النهضة والتقدم وتعتدل موازين القوى"، قلنا׃ امضوا على بركة الله، لن نهرب من الحاضر إلى المستقبل. ولن ندعو إلى تعطيل فرص التسوية المرحلية أو تخريبها، ولكننا نطالب بالإجابة عن سؤالين׃

     

    - ماهي حدود التنازلات التي ترضون بتقديمها للقوة المتغلبة من أجل تسوية سياسية مقبولة في الظرف التاريخي الراهن؟ هل يشمل ذلك التنازل عن القدس وحق العودة لستة ملايين لاجئ مثلا؟!

    - وإن أصرت إسرائيل وحليفها الأمريكي على تلك التنازلات وعلى تعطيل قرارات الشرعية الدولية، فأحبطت بذلك عملية السلام، فما هي خطتكم البديلة، أو خياركم البديل، وقد أعلنتم من قبل أن السلام هو الخيار الإستراتيجي الوحيد، وعملتم على إقناعنا بأنه لا قبل لنا بتغيير شروط الواقع القائم؟.

    هذه ليست أسئلة تعجيزية سجالية. أوَلَيس هناك مبادرة عربية للسلام ارتضت بالأراضي المحتلة عام 1967 مقابل اعتراف عربي كامل بإسرائيل مع ما يستتبع ذلك من استحقاقات التطبيع؟ أين ذهبت تلك المبادرة ومن هو الطرف الذي تجاهلها وفوت ما تمثله من "فرصة تاريخية للحل"؟ وما الذي يمكن أن نقدمه من تنازلات أكثر من تلك المبادرة المنسية؟.

    وأين ذهبت قبلها اتفاقيات أوسلو وتداعياتها؟ الحقيقة التي لا يريد تيار "الاعتدال العربي" مواجهتها أن التيارات "القومجية" و"الإسلاموية" واليسارية ليست مسؤولة عن تعطيل الخيار الإستراتيجي الوحيد وإنما هي "إسرائيل" تحديدا، وأن تفويت الفرص، منذ رضي العرب والفلسطينيون بمبدأ التسوية السياسية في إطار قرارات الشرعية الدولية، هو صناعة إسرائيلية أمريكية بامتياز.

    بعد ستين سنة من النكبة، فإن التعنت الإسرائيلي وغطرسة القوة، وإخفاق تيار "الاعتدال" العربي، حسب التعريف الأمريكي، في انجاز وعوده في السلام العادل والشامل والازدهار والرفاهية والتقدم في ظل السلام، يكفينا ذلك كله مهمة السِجال مع نظام المعاني الذي عمل التيار الليبرالي المتطرف على إنتاجه والترويج له، ويلزمنا بالقدر نفسه أن نعيد الاعتبار لنظام المعاني التحرري النهضوي بكل مفرداته، بتعريفات جديدة تحرره من عبء التجارب الفاشلة والأخطاء الماضية، وبصوت قوي واضح لا تشوبه النبرة الاعتذارية الدفاعية تحت وطأة الابتزازات المعنوية التي يمارسها الطرف الآخر. وهب أن جهود التسوية أثمرت حلا مرحليا ما للقضية الفلسطينية، يقنع به الفلسطينيون تحت وطأة الظروف القاهرة، فهل يعني ذلك أن الأمة العربية قد أنجزت مشروع تحررها ونهضتها وحققت أهدافها الكبرى ليكون مسوغا للتخلي عن معجم المعاني التحررية؟ بل لنفترض جدلا أنه لم يكن ثمة قضية فلسطينية أصلا، أوَ لَيس للأمة العربية قضية كبرى وأهداف إستراتيجية تاريخية نهضوية تنموية تصطدم بعوامل التخلف الذاتي والبنى الاجتماعية التقليدية مثلما تصطدم بظروف التبعية والإلحاق والتجزئة القطرية وقوى الهيمنة الامبريالية؟! من جديد، نستذكر أن المشروع الصهيوني ينتظم في المشروع الغربي الاستعماري الامبريالي الذي يستهدف الأمة العربية بجملتها، وأن أهداف التحرر والنهضة والتكتل العربي والديمقراطية ليست مجرد شروط مطلوبة لمواجهة المشروع الصهيوني، فإذا وجدت القضية الفلسطينية حلا فلن تنتهي دواعي تلك الأهداف والغايات القومية الإسلامية، ومعها نظام المعاني التحررية المرتبطة بها. بل نزعم أن التوصل إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية في ظل المحددات القائمة، يدعو التيارات النهضوية العربية الإسلامية إلى مزيد من النشاط المنظم للدفاع عن تلك المعاني وتوظيفها من أجل التغيير، ولمواجهة الاختراق الإسرائيلي للوطن العربي في إطار استحقاقات السلام، وللتمسك بالرواية العربية الفلسطينية التاريخية عن اغتصاب الوطن الفلسطيني والمشروع الصهيوني، ولحماية الذاكرة التاريخية الفلسطينية ومكوناتها الرمزية. فالوطن الفلسطيني يبقى الوطن الفلسطيني حتى لو أملت الظروف المرحلية القاهرة ألا تتطابق حدود الدولة المحتملة مع حدود الوطن التاريخي. وما حدث عام 1948 ليس "استقلال إسرائيل" وإنما هو اغتصاب الوطن الفلسطيني وتشريد شعبه.

    وإذا لم يكن في وسع يهود العالم أن يغفروا لهتلر والنازية جرائم المحرقة، فلن يكون في وسع الشعب الفلسطيني والأمة العربية أن يغفروا لإسرائيل جرائم الاغتصاب والإحلال والاحتلال والتشريد والبطش والتجويع، حتى لو تم التوصل إلى تسوية سياسية ما. وهذه المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج هي الوطن العربي الذي يتعرف بهويته الحضارية العربية الإسلامية، وليس ما تريد لها التعريفات الجيوسياسية الملغومة أن تكون:الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ،لإسقاط هويتها القومية العربية الإسلامية إلى الأبد، وإعادة تعريفها بما يتيح لإسرائيل الاندماج بها من موقع مركزي متحكم.

    على أن إحياء نظم المعاني التحررية النهضوية يقتضي من تيارات المعارضة المختلفة أن تتحرر من عبء صراعاتها الإيديولوجية الماضية وأن تلتقي على أمر جامع وكلمة سواء. إذ إن الدفاع عن نظم المعاني التحررية ومدافعة نظام المعاني النقيض يشكلان مساحة مشتركة للتلاقي والتعاون. أما الخلافات الإيديولوجية فإن التوافق على العملية الديمقراطية الحرة والاحتكام إلى خيارات الشعب، كفيل بإدارة الحراك السياسي وتنظيم التدافع العقدي السياسي بطرق بناءة تحول دون الإقصاء المتبادل.

    لا يخلو مجتمع من المجتمعات من الممارسات السلوكية المرذولة كالكذب والسرقة والبخل والخيانة والجبن. ولكن هذه تبقى معاني وقيما سلبية مرفوضة في المرجع الثقافي المشترك وما يشتمل عليه من نظم المعاني والمفاهيم والقيم. وحتى من يمارسها فانه لا يُعلن بها ولا يُتفاخر بها كيلا يتعرض للوصمة الاجتماعية أو يفقد عضويته في الهيئة الاجتماعية، وفي أسوأ الظروف فانه يلتمس لها تأويلات وتعريفات أخرى تخرجها من المعاني المرفوضة اجتماعيا إلى المعاني المقبولة، فيدعو التخاذل مثلا حكمة وتـقيـَّة أو واقعية وعقلانية، والبخل اقتصادا وتدبيرا، والسرقة استرجاعا لحقوق ممنوعة، وقس على ذلك. ومعنى ذلك أن المجتمع مازال يحتكم إلى منظومته القيمية الجامعة حتى لو انحرفت بعض الممارسات العملية عنها. 

    ولكن الكارثة الكبرى هي أن تنقلب المعاني إلى أضدادها: فيصير الكذب والجبن والخيانة قيما مقبولة لا تعيب صاحبها ولا يستتر منها، بل ربما فاخر بها. حينئذ، يصبح "التطهر" تهمة يستحق "الموصومون" بها عقوبة الطرد والإقصاء. أفلم يقل قوم لوط في نبيهم ومن معه (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)/ الأعراف الآية 7. عندئذ فقط تأتي الخاتمة المريعة وتصبح الجماعة خبرا من الماضي وأثرا بعد عين. الصراع على نظم المعاني، هو في آخر المطاف، صراع على الوجود.. لا على الحدود.
    _______________
    أكاديمي وكاتب عربي 

     الجزيرة نت