ما تعرض له قطاع غزة من جريمة عدوان وجرائم حرب، لا يتوقف عند تعداد الضحايا وتقدير الخسائر المادية، كذلك لا يمكن اختصاره بصمود أو نصر رغم ما لهذه الكلمات من أثر سحري على مشاعر الناس. هناك ثمن باهض دفعه الشعب الفلسطيني في غزة، ولكن هناك دروس ومكتسبات ليس فقط لشعوب المنطقة، بل لكل الناس. وإن كان بالإمكان اليوم الحديث عن مكتسبات مدركة أو غير مدركة، فلا يحق لأحد اختزالها إن كان ذلك في قراءة حزبية ضيقة، من أي فصيل فلسطيني كان، أو الاستخفاف بحجمها ودورها الهائل في تعديل موازين القوى التي اختلت تماما لصالح الإسرائيليين في ظل ما يسمى الحرب على الإرهاب.
اعتقد أن الدرس الأهم في أرض مسيجة بالماء والحواجز، محاصرة في الجو والبر والبحر (في القانون الدولي يجعل أي استعمال أحادي الجانب للجو من المنطقة المستهدفة منطقة احتلال مؤقت؟)، أهم درس هو أنه بالرغم من كل ظروف الحصار الطويل الأمد والتحطيم المنهجي للبنيات التحتية والقدرات البشرية على الانتاج المادي، أثبت العدوان، أن الإنسان هو الثروة الأكبر في أي حرب وأي قتال وأية مواجهة. وكلما غيّب هذا الإنسان أو تم تحييده أو تجميد نضاله ونشاطه العام بملاحقة أو اعتقال أو تهديد أو وعيد، كلما ازدادت أهمية الجيش النظامي المعتدي وتجلت نقاط قوته التقنية (حداثة السلاح، كثافة وعدم تناسب القصف، عشوائية الضربات إلخ). ويبدو للعيان بشكل واضح أن المجتمعات المنهكة بالاستبداد الداخلي المزمن أضعف قدرة على تنظيم دفاعاتها الذاتية وقدراتها على التحمل والصمود.
الدرس الثاني المهم، يكمن في عقلنة استخدام الموارد والمتوفر قدر الإمكان. وإن كانت قضية التقشف الطبيعي لأسباب إيمانية وقناعات عميقة بقضية عادلة قد لعبت دورا في ذلك، فالعناصر الأقوى هي العناصر التي تم فيها مباشرة تخطيط عقلاني يحدد الاحتياجات الداخلية والخارجية، العسكرية والمدنية وتنظيم اقتصاد الموارد. العقلنة العربية الفلسطينية كانت في الخلية العائلية وفي الحي وليس فقط في الفصيل السياسي. كلنا يذكر الجرائم التي تلت عملية شاليط التي سبقت العدوان على لبنان، ومنذ ذاك الحين، كان الحصار وضرب محطات الكهرباء وتقليص وسائل ماء الشرب والزرع وخنق إمكانيات الحياة الطبيعية كافة، ومع ذلك، أعطت غزة درسا فيما مقاومة أوضاع لا إنسانية بكل المعاني.
المكتسب الثالث والرائع لما حدث في غزة، كان في عودة القضية الفلسطينية إلى بعدها العالمي والإنساني. فقد تكالبت عدة عوامل منها الحرب على الإرهاب وقيادة بوش-شيني للإدارة الأمريكية ثماني سنوات والموقف الأوربي الرسمي المتطرف من فصائل المقاومة التي ترفض عملية أوسلو وتدهور العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية منذ نجاح المقاومة الإسلامية في الانتخابات، ساهم كل هذا في زعزعة الرصيد الذي بناه الشعب الفلسطيني وتعبيراته السياسية والمدنية على الصعيد العالمي. وكم من مظاهرة شاركنا بها ضد الحصار على غزة لم تتجاوز نسبة الأوربيين فيها الربع بل وأقل، بعد مظاهرات بمئات الآلاف من أجل فلسطين. بهذا المعنى شكل العدوان على غزة الصدمة الكهربائية التي أعادت الأحرار إلى ضمائرهم والحيارى إلى تأييد الحق الفلسطيني في وجه الجرائم الإسرائيلية المستمرة منذ ستين عاما، بل وليفتح ملف غياب المحاسبة باعتباره في صلب المسؤولية الدولية عن استمرار الجرائم. استعادة العالمية هذه كانت أهم هدية للأطفال الضحايا الذين كان فقدانهم كفاحا من أجل التحرر الوطني الفلسطيني وعالميته. وهنا من الواجب التحذير من الخطاب المنغلق الذي يحاول اختزال هذه الإنسانية الجميلة الكونية بالمحيط الإسلامي وحسب، بل ويختار من هذا المحيط بشكل كاريكاتيري ومضحك أهل السنة، ومن أهل السنة من هم على العهد الإسلاموي، إلى غير ذلك من بيانات نقرأ فيها أسماء علماء كبار كانوا لعهد قريب يكتبون للمثقفين الأمريكيين عن تسامح الإسلام وعالميته.. نقول لمن يحاول توظيف دماء أطفال غزة في استراتيجية خطاب متطرف، ليست فلسطين بحاجة إلى هذا التصلب اللويحي في الفكر والممارسة، نحن بحاجة لكل أحرار العالم بغض النظر عن دينهم وعرقهم وقوميتهم وبلدهم، بحاجة لكل الشرفاء الذين عاشوا في المشافي الفلسطينية تحت القصف تاركين رخاء بيوتهم تضامنا مع هذا الشعب العظيم.
أخيرا، لا بد من تسجيل تحول عند قطاع هام من العلمانيين الاستئصاليين، الذين كانوا يعتبرون تصفية الحركة الإسلامية شرطا واجب الوجوب لحداثتهم وليبراليتهم. هؤلاء أدركوا أن تمزيق الخارطة السياسية الوطنية في كل بلد ليس فقط منافيا للفكر الديمقراطي، وإنما جزء من عقلية الهيمنة التي تعتبر إضعاف الآخر شرطا لاستمرارها. وهنا لا بد من أن تتجاوز الأمور مجرد فتح أبواب الحوار أو وقف إطلاق النار، لا بد من التأسيس لفكرة عقد اجتماعي سياسي يرفض الاستقصاء وينطلق من الخارطة السياسية في الميدان بكل مكوناتها وبرامجها المختلفة في إطار القاسم المشترك الأعلى: أي مقومات السيادة للشعب والدولة والحريات الأساسية وحقوق المواطنة. فأرقى أشكال الديمقراطية لا يمكن أن يتحقق عبر إرضاء أشباه الكتاب الذين صنعهم اللوبي المعادي للإسلام والمسلمين وإنما عبر انتخابات نزيهة وقبول مجتمعي طوعي للتداول على السلطة ولتحكيم المجتمع في القرارات المصيرية الكبرى.
ثمة نقاط عديدة أخرى، ولكن لنبدأ بهذه، حتى لا نضيع البوصلة، ونجعل حلفاءنا من أحرار العالم يضيعونها من جديد.