لم يفق أهل غزة من صدمة ما شهدوه من أهوال خلّفها القصف الاسرائيلي البري والبحري والجوي على قطاعهم إلا ليصدموا بالحقيقة المروعة بأنهم اصبحوا في العراء، لا يملكون شيئا، وقد باتوا دون إمكانيات أوليةٍ لإيجاد مكان يؤويهم ويحميهم من برد كانون القارس.
لم يطل العدوان الحجر والبشر فقط بل قضى على مساحات كبيرة من الاراضي الزراعية في تخريب ممنهج لتجويع أهل غزة وتلقينهم درساً بسبب دعمهم للمقاومة. فالمسوحات الأولية للأضرار التي لحقت بالبيئة الزراعية، حسب المهندسة رزان زعيتر، رئيسة جمعية »العربية لحماية الطبيعة« تشير الى »تدمير حوالى ٥١٥٠ دونما من مزارع الزيتون والحمضيات والفواكه، وأكثر من ٤٥٠ دونما من البيوت البلاستيكية، بالإضافة إلى جرف اكثر من ٤٩٠٠ دونم من مزراع الحبوب، وهذا خلال ٢٠ يوماً فقط«.
ويأتي الصراع على السلطة وظلم ذوي القربى ليزيد من مأساة اهل غزة. فالمساعدات المالية العربية التي اقرت في القمم العربية تلقي بظلالها على السجال الداخلي حول شرعية الجهة التي ستتولى مهمة اعادة الاعمار، بينما لا يزال اهل غزة المنكوبون يلملمون جراحهم وينتشلون جثث احبائهم من تحت المساكن المقصوفة ويقفون بالطوابير للحصول على رغيف الخبز الذي غدا صعبا مناله. وعلى الرغم من تأخر وصول المساعدات الإنسانية، فقد أعلن كل من الطرفين المتنازعين على السلطة في غزة، أحقية الإشراف على عملية اعادة اعمار القطاع.
كل هذا يزيد من مأساة المواطن الغزاوي الذي فقد اهله ومنزله وارزاقه واصـبح لاجــئاً من جديد على ارضه المنكوبة. وعلى الرغم من ان الشعب الفلسطيني عانى كثيراً من العنف والتشرد واللجوء، الاّ ان اللجوء الداخلي هذه المرة في غزة لم يعد ممكناً. فإلى اين يلجأ من تهدم منزله؟ هل سيـعود الى نصب الخيام على ارض غزة في مخيمات جديدة تضاف الى المخيمات الموجودة اصلاً في القطاع المكتظ، كمخيم جباليا مثلاً الذي لجأ اليه سكانه الحاليون من مناطق اخرى من فلسطين على إثر تهجيرهم المتكرر من قبل اسرائيل العام ١٩٤٨؟ وماذا عن النوع الجديد من اللجوء، الذي بات يصطلح على تسميته في العالم بـ»اللجوء البيئي«، أي ترك المكان لأسباب تدهور البيئة (بسبب الحرب والعدوان)؟
كأن قدر الفلسطينيين هو التهجير الدائم واللجوء المتكرر في غياب العدل عن القضية الاكثر عدالة في تاريخ الانسانية.
المساعدات الإنسانية كصكوك براءة
شاهد العالم كله على شاشات الفضائيات جرائم اسرائيل، ولكن لا احد يحاسب. لقد تساوى الجلاد بالضحية، حزنت الشعوب ولكن الحكومات بقيت تتفرج عاجزةً عن رد اسرائيل عن غيّها وغطرستها وضربها عرض الحائط بكل الاعراف الانسانية والقوانين الدولية. لم يجرؤ احد على القول بأن فلسطين هي الدولة الوحيدة التي لا تزال حتى الآن ترزح تحت الاحتلال (هذا اذا ما استثنينا الاحــتلال الاميركي للعراق)، وعلى القول بأن صواريخ حماس جاءت كرد فعل على الحصار والتجويع. ومن اجل تغطية آثار الجرائم الاسرائيلية تكتفي دول العالم وعلى رأسها منظمات الامم المتحدة بالتنديد بما تقوم به اسرائيل، وتقوم بإرسال المساعدات الانسانية الطارئة التي تتأخر في الوصول الى محتاجيها بســبب الحصار الذي تفرضه اسرائيل براً وبحراً، كما حدث في لبنان في حرب تموز حيث منع الحصار البحري وصول المعدات اللازمة لوقف انتشار البقعة النفطية الناتجة عن القصف الاسرائيلي لمعمل الطاقة الحراري في الجية.
وقد جاهرت اسرائيل بعدم السماح بإدخال مواد البناء الى القطاع الاّ بموجب اتفاق تتعهد حماس بموجبه بعدم اطلاق الصــواريخ على المستوطنات التي يسكنها مغتصبون للاراضي الفلسطـينية المحتلة.
انعكاسات أزمة الزجاج
تتفاقم المشاكل التي يعاني منها الغزاويون يوماً بعد يوم. فالضروريات لا تقتصر على تأمين الغذاء، والمشاكل تدور حول نفسها وتتضخم مثل كرة الثلج. فبالاضافة الى المنازل المهدمة كلياً او جزئياً فان معظم المنازل قد تحطم زجاج نوافذها بفعل القصف واختراق جدار الصوت، وخصوصاً بالنسبة للأبراج ذات الواجهات الزجاجية. هذا الواقع يؤدي الى مشاكل صحية نظراً لانخفاض درجة الحرارة وانقطاع الكهرباء ونفاد وقود التدفئة حيث يصاب معظم الناس بأمراض البرد والانفلونزا والتهاب الشعب الرئوية اضافةً الى سوء التغذية الذي يؤدي الى نقص في المناعة وبالتالي يزيد من امكانية تفشي هذه الامراض المعدية. وهذه الازمة قد تزداد نظراً الى صعوبة استيراد الزجاج في الوقت الحاضر وإلى تعذر تشغيل معامل الزجاج بطاقتها القصوى لانتاج الكميات المطلوبة.
الآثار على البيئة والصحة
دعت الجامعة الاميركية في بيروت الدكتوره ريتا جقمان، البروفسوره في مادة الصحة العامة والصحة البيئية، في جامعة بير زيت في الضفة الغربية، لالقاء محاضرة حول الآثار التي سببها العدوان الاسرائيلي على البيئة وعلى الصحة العامة في غزة. وقد تناولت الدكتورة ريتا موضوع البيئة بمفهومها الشامل فلم تفصل بصورة جذرية بين البيئات السياسية والفيزيائية والاجتماعية والنفسية والصحية، حيث اعتبرت ان جميع البيئات مترابطة وتتفاعل وتؤثر في ما بينها.
فمن ناحية الاضرار على البيئة الفيزيائية، اشارت الى ان البيئة قد تعرضت الى عدوان ممنهج على الارض تمثل بتجريف مساحات واسعة من الاراضي المزروعة واشجار الزيتون والحمضيات، كما ان القصف ادى الى قطع الطرقات مما أدى الى تقطيع اوصال القطاع واصبح متعذراً انتقال الاشخاص وهروبهم من القصف والموت، كما تعذر نقل الجرحى وايصال المساعدات الطبية والغذائية والوقود. وأدى القصف ايضاً الى تحطيم البنية التحتية الاساسية من امدادات المياه والصرف الصحي واختلاط المياه المبتذلة بمياه الشرب مما سيؤدي الى انتشار الامراض المعدية مثل الكوليرا والتيفوئيد والسالمونيلا وامراض الجهاز الهضمي والذي سيكون له حتماً انعكاسات خطيرة على الصحة العامة الهشة والمتضررة اصلاً من جراء الحصار وعدم توفر الادوية منذ سبعة اشهر.
واشارت الى ان البيئة الفيزيائية تعرضت هي ايضاً الى مستويات مرتفعة جداً من تلوث الهواء الناجم عن الانفجارات والمواد الكيميائية والفوسفورية عدا عن انتشار الجزيئات الدقيقة في الهواء التي تدخل الى الجهاز التنفسي وتؤدي مع الزمن الى التدرن الرئوي او سرطان الرئة.
كما ان المواد الكيميائية الناتجة عن القصف والتفجيرات سوف تجد طريقها الى التربة ثم تنتقل على شكل سمــوم الى المزروعات ومنــها الى الانـسان. وهذا التلوث سيــصل عبر الامطــار الى المياه الجوفية التي تحتاج ازالة تلوثها الى سنين طويلة تتمكن خلالها من الفتك بالسكان وتؤدي الى تفشي السرطانات التي تؤدي بدورها الى الموت البطيء.
الأسلحة الجديدة الفتاكة
اما بخصوص استخدام الاسلحة الجديدة مثل الدايم (DIME ) الذي يعتبر من الاسلحة الفتاكة لأنه يقتل ويحرق ويبتر الاعضاء ويتســبب بالاصابة بالسرطان في خلال وقت قصير يتــراوح بين شــهر وســتة اشهر، ينتهي المصاب خلالها الى المــوت، هــذا اذا بقي اصلاً على قيد الحياة. وقد استخدمــت اسرائيل ايضاً الاسلحة المحظورة دوليــاً مثل الفوســفور الابيض الذي كان يلمع في سماء غزة كالالعاب النارية والذي يؤدي الى الاصابة بحروق بالغة تتـسبب بتشويه خلقي واعاقة تؤثر على الصحة النفسية للمصابين وخصوصاً بالنسبة للاطفال. هذا وتستخدم اسرائيل غازا اصفر مسيلا للدموع غيــر مألوف لأنه يؤدي الى حرقة في العيون يستمر لوقت طويل. وقد تعذر الحصول على عينات من هذا الغاز لتحليله ومعرفة مدى خطورته وإدانة اسرائيل لاستخدامه ضد المدنيين.
البيئة الاجتماعية
كما تعرضت الدكتورة ريتا الى آثار الحرب على البيئة الاجتماعية اذ تتعمد اسرائيل تحميل المسؤولية لحماس لتخلق شرخاً اجتماعياً اقتصادياً وسياسياً بين افراد الشعب الواحد تؤدي بهم الى الانقسام في تأييد البعض للسلطة الفلسطينية والبعض الآخر لحماس. وقد كانت اسرائيل قد استخدمت روابط القرى حيث منحتها سلطة ادارة المناطق في الضفة الغربية لتعميق الشرخ الاجتماعي بين دعاة مقاومة اسرائيل ودعاة الصلح معها، ولتعزيز نمط المجتمعات القروية العشائرية وتعزيز الاختلاف والاقتتال، مما يؤدي الى تفكيك الروابط الاجتماعية المدنية. وقد بينت جقمان ان هذه الشروخ قد التحمت اثناء الحرب على غزة امام الكارثة، حيث توحدت فيها الفصائل والسلطة امام الخطر الداهم المتمثل في العدوان البربري، ولكن الى حين!
الصحة النفسية
وفي حديثها عن الصحة النفسية تطرقت الى الصدمات النفسية وتأثير الحرب على الاطفال والبالغين على حد سواء، نظراً لما يسببه الحرمان من المأوى والحرمان من الاهل بسبب الموت والتشرد من احساس بالغربة والانهاك. كما ان مشاهدة الاشلاء والاصابات والجروح البالغة وتكاثر عدد المصابين والقتلى وانعدام الدعم الاجتماعي والحصار... كل ذلك يؤدي الى معاناة نفسية وحالات من الارق والانهيار العصبي والصراخ والتبول الليلي بالنسبة للاطفال.
وقد علقت الدكتورة ريتا على المساعدات النفســية الدولية التي تحاول علاج المرضى المصابين بالصدمات النفسية بواسطة الادوية المهدئة قائلة بأن »هذا العلاج غير مجد ويمــكن ان يؤدي الى الادمان«، مفضــلة الاعتماد عــلى اســلوب المواســاة وحلقات المصارحة والتعزية والتعبير عن الهموم، مما يساعد على تجاوز هذه الازمات والخروج من الصدمة والاضــطرار الى التحمل وتخطي هذه الازمات والمصائب التي حلت بالجميع.
الأمراض المزمنة
ولا تقتصر الآثار الصحية بالنسبة الى الدكتورة ريتا على الامراض المعدية بل تتجاوزها الى الامراض المزمنة كالسكري وضغط الدم والفشل الكلوي حيث لا تتوافر ادوية هذه الامراض بسبب الحرب والحصار وصعوبة ايصالها الى المرضى، في حال توفرها بسبب انقطاع الطرق. وشددت على ضرورة ايصال الحقائق عن الصحة في الاراضي الفلسطينية الى الاعلام الغربي والانترنت عبر المواقع والمدونات، وان لا يقتصر الاعلام فقط على صور الجرحى والقتلى. كما شددت على ضرورة ايضاح الوضع المؤلم في غزة للاعلام الغربي بطريقة مهنية والرد على تهجمات اليهود الصهاينة على نحو مدروس وتوجيه الجيل الجديد الى استخدام خطاب العقل للوصول الى المجتمعات الغربية مع التركيز على منهجية هذه التحركات ووضعها في اطار مؤسسات بحيث لا تأتي ظرفية تنتهي بزوال الحدث، وبحيث تهدف الى اظهار عدالة القضية الفلسطينية.
دروس مستقاة
أما الدكتورة ريما حبيب، الاستاذة المساعدة في كلية العلوم الصحية في الجامعة الاميركية في بيروت، فقد أشارت، في لقاء معها، الى ان مشاكل الصحة البيئية في الاراضي الفلسطينية تعود الى زمن طويل، فهي مرتبطة بمشاكل البنية التحتية الاساسية في فلسطين كمشكلة امدادات المياه والصرف الصحي وتلوث الهواء، الأمر الذي يجعل من مواجهة انبعاثات الفوسفور الابيض والمايد الناتجة عن الاعتداء الاسرائيلي على غزة، أمرا لا يمكن تحقيقه عبر الاقتصار على استعدادات الطوارئ. والدروس المستقاة هي انه لا يمكن ان يحصل أسوأ ما هو حاصل الآن.
تضامن منظمات دولية
تبقى الاشارة الى بعض المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية التي تعاطفت مع أهالي غزة وضد حصارها واجتياحها وأعلنت عن إدانتها للعدوان الإسرائيلي، كما هي الحال بالنسبة لبيان روما الصادر عن المؤتمر السنوي للجنة التخطيط الدولية للسيادة على الغذاء المنعقد في كانون الثاني / يناير ،٢٠٠٩ حيث أكد الموقعون على البيان على مجموعة من المطالبات منها، الايقاف الفوري للعدوان وفتح جميع المعابر أمام حركة المواطنين من اجل وصول المساعدات إلى السكان في غزة، ومقاطعة جميع البضائع الإسرائيلية. كما شدد البيان على حق الفلسطينيين بالسيادة على غذائهم ومواردهم الطبيعية، وطالب الأمم المتحدة بمحاسبة إسرائيل على الأضرار الكبيرة المترتبة على الحجم الكبير للدمار الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية على غزة. كما طالب بتأسيس آلية دولية للتحقيق في الاعتداءات التي قامت بها إسرائيل ضد الإنسان والبيئة. وطالب أيضاً بمقاضاة القادة الإسرائيليين على الجرائم التي تم ارتكابها ضد المدنيين في غزة، وشدد على أهمية إطلاق حملة تضامن دولية حول الضرر الذي لحق بالمواطنين الفلسطينيين.
واخيراً من المبكر الحديث عن الخسائر المادية والبيئية الدقيقة في قطاع غزة وخصوصاً ان الحصار ما زال قائماً وان منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية لم تنهض بعد من الدمار الذي اصابها هي ايضاً وعطل اجهزتها واطقمها. والى اطلالة اخرى تركز على حجم الخسائر البيئية في القريب العاجل.