في رحلة طيران مسائية لم يأت فيها ملاك النوم، سألني جاري الفرنسي: بدون تخبئة، لماذا تأخذ هذا الطيران البعيد وماذا ستفعل في جنوب إفريقيا.. تبسمت له وقلت: بعيد لأنه أرخص، أما في كاب تاون فلدي موعد هام، قال لي: أرجو أن يكون موعد عمل يسمح لك بالسفر لفرنسا بعشر ساعات بدل خمسة عشر، قلت له: لا يا سيدي موعد هام معنويا، فقال ضاحكا: لا تقل لي ستلتقي نلسون منديلا ؟ أجبته: كان وحصل الشرف، لكن هذه المرة سأقابل وزير العدل. – وزير العدل.. ناقص وزراء عدل في هذا الدنيا لتعبر المتوسط والربع الخالي والقارة الافريقية؟. هنا غابت البسمة عن وجهي وأصابتني مرارة في الحلق وشعرت بأن من الأفضل تغيير الموضوع. فعلى بعد نصف ساعة بالمترو مقر السيدة رشيدة داتي وزيرة العدل الفرنسية من أصل عربي، وعلى بعد ساعتي سفر بالطائرة ثلاث وزراء عدل عرب قبالة شواطئ فرنسا، ولكن ماذا أقول والأولى تلعب مع الإعلام ويلعب الإعلام معها في قضية واحدة هي والد الطفل الذي حملت منه في وقت قتل فيه قرابة 500 طفل فلسطيني ويعاني 800 ألف طفل فلسطيني كل تبعات أقسى حصار على شعب في منطقة جغرافية هي الأكثف سكانا في كوكبنا. أما وزراء العدل العرب فالتجربة معهم في صغير القضايا مرة، فكيف في قضية كبيرة. سألت أحدهم يوما: لما لا تطالبون بتعديل الدستور ليعترف على القضاء كسلطة، أجاب: سلطة القضاء في بلدنا لأمير المؤمنين وإدارته للوزارة. ووجهت اللجنة العربية السؤال لآخر: كيف تحاكمون جامعيين ومهندسين وأطباء مدنيين أمام محكمة عسكرية وترفضون حتى وجود مراقبة دولية؟ أجاب بأن منظمات حقوق الإنسان لا تعرف نعمة استقبالنا لها والترخيص بوجودها ولو استلمت "المحظورة" السلطة لقطعت رقابكم قبل رقابنا. اتصلت بي القدس برس يوما تطلب مني تعليقا على "أول مؤتمر عربي لحقوق الإنسان" عقد في الدوحة في 2008 بحضور وزراء العدل العرب، فقلت، سبحان الخالق، ستون عاما من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومؤتمرات عربية بدأت منذ 1959 (في بيروت) كلها في القمامة، اليوم بدأ التاريخ؟ واجتماع الدوحة يَجُبُّ ما قبله. انتظرنا، فلم نسمع برفع حالة طوارئ ولا حتى تجميد أو تجميل قانون واحد لمناهضة الإرهاب في بلد مشارك واحد، لا برنامج لاستقلال القضاء أو إعلان عن تصديق أو توقيع على معاهدة حقوق إنسان عالمية، لا ذكر لستين ألف سجين وأسير في العالم العربي والدولة العبرية. ولا .. ولا..
لقد صرنا بحاجة إلى الذهاب إلى وزير العدل البوليفي أولا لنشكره على موقف بلاده المشرف وثانيا لنطلب منه التدخل لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية من أجل محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وأن نتوجه لجنوب إفريقيا لنناقش حكومتها في دور هذا البلد الكبير في وقف حالة الإفلات من العقاب لمجرمي الحرب. عقم الحكومات العربية جعلنا نبحث عن الخير عند أهل الخير في آخر الدنيا، وأن نتذكر نصيحة القرمطي لأتباعه "لا تزرع بذرتك في أرض سبخة".
لعله في هذا المقام تبرز أهمية الإنسان الفلسطيني والشعب الفلسطيني. ففي الوقت الذي عقدت فيه مؤتمرات في كل بلد عربي سمح بذلك من أجل تصديق البلدان العربية على ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية، جاء لهذه المحكمة التي تراجعت قيمتها المعنوية بعد رفضها التدخل في ملف احتلال العراق والاعتداء على لبنان وقضية دارفور، هدية غير عادية من شعب غير عادي: المجتمع الفلسطيني المدني والسياسي، الضحايا وعامة الناس، المجلس التشريعي والرئاسة الفلسطينية، كل من تولى وزارة العدل في فلسطين منذ انتفاضة الأقصى الثانية، كل هؤلاء يكتبون لنا وللمدعي العام للمحكمة موريس أوكامبو عن قبولهم اختصاص المحكمة وطلبهم التصديق الرسمي على ميثاق روما. لا أدري إن كان بيروقراطيي التحالف الدولي لإقامة محكمة جنائية دولية في نيويورك بل وموظفي منظمات حقوق الإنسان الغربية المسماة دولية يدركون المعنى الرمزي لهذا الانتساب الشعبي الأقوى لدعم المحكمة الجنائية الدولية، دعمها والمطالبة بأن تكون محكمة حديثة عادلة لا حصانة فيها لقوي أو غالب أو جبار، ولا فرق فيها لدعوى اللون أو الجنس أو الدين أو القومية..
قبل أن تقولها هيومان رايتس وتش والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، موريس أوكامبو يتحدث تحت ضغوط أكثر من خمسة ملايين ناشط من المجتمع المدني العالمي، عن دولة فلسطينية في الواقع de facto، في وقت يطالب فيه أكبر تحالف دولي منذ العدوان على العراق بأن يتحول هذا التقدم إلى صيغة قانونية de jure تتخطى العقلية المحافظة والعقلية الموالية لإسرائيل اللتان تتفقان على رفض الطلب الفلسطيني للانتساب للمحكمة الجنائية الدولية بدعوى عدم وجود دولة فلسطينية.
في هذا المعمعان، ثلاثة مطالب عاجلة بل ثلاثة تحديات:
الأول، أن يتبنى التحالف الدولي من أجل محكمة جنائية دولية في نيويورك دون تأخير طلب الدولة الفلسطينية والشعب الفلسطيني بأن تكون فلسطين رابع دولة عربية تقبل باختصاص ميثاق روما.
الثاني: أن تحترم الحكومات العربية استقلال التحالف الدولي لمحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين ولا تعيق عمله في التوثيق والتحقيق خاصة منها جمهورية مصر العربية.
الثالث، أن تقود الدول الصديقة للشعب الفلسطيني (فنزويلا، بوليفيا، جنوب إفريقيا وأعتذر لمن لم أذكره) بمطالبة الجمعية العامة لأمم متحدة أفقدها مجلس الأمن موضوعيتها ومشروعيتها وقدرتها على صنع السلام وإقامة العدل. بإعلان فلسطين دولة كاملة السيادة وبالتالي عضو كامل العضوية في الأمم المتحدة (وكما أن إسرائيل لم ترسم للأمم المتحدة حدودها حتى اليوم، من حق دولة فلسطين المعاملة بالمثل).. هكذا مشروع يتجاوز اتفاقيات أوسلو لاعتراف واضح بالدولة الفلسطينية، يحتاج لحكومات شرعية ديمقراطية تملك قرارها السيادي، لا يؤثر عليها مجموعات ضغط، ولا قرار مساعدات اقتصادية، يحترمها شعبها وتحترمها الجماعة الدولية..
كون هذه المواصفات غير متوفرة في القاهرة أو الرياض أو الجزائر...، قصدنا رأس الرجاء الصالح.
.