يرفض الكثيرون الحديث عن حرب مقبلة في المنطقة على ضوء نتائج حرب تموز 2006 والعدوان الاسرائيلي الأخير على غزة. لذا سأستبعد خيار الاستناد الى الفرضيات والمؤشرا ت السياسية وأبني /يوليو. 

هذا المقال مبني على معطيات ميدانية تقوم على رصد حركة الشحنات الضخمة الاخيرة من السلاح والذخائر ما بين واشنطن وتل أبيب. 

إبان العدوان الأخير على قطاع غزة، سلمت الولايات المتحدة الأميركية اسرائيل شحنات ضخمة قارب حجمها الثلاثة الاف طن من الذخيرة، في خطوة لا يمكن تفسيرها بأنها تأتي ضمن السياق الطبيعي للحرب. 

في هذه الأثناء، كان أحد كبار وكلاء الشحن في العاصمة البريطانية لندن، وهو خبير في نقل أسلحة الى الجيشين البريطاني والأميركي، يكشف لوكالة رويترز في العاشر من الشهر الماضي أن "شحنات الأسلحة السابقة الى اسرائيل نادرا ما كانت بهذا الحجم"، علما أن البنتاغون كان قد كلف شركة نقل يونانية توصيل المزيد من شحنات الأسلحة والذخائر الى الأراضي المحتلة في وقت لاحق من العام 2009. 

قيادة الشحن البحري في سلاح البحرية الأميركية ذكرت أن السفينة اليونانية التي نقلت الشحنة الأخيرة، خلال العدوان على غزة، كانت تحمل 325 مستوعبا مليئة بالذخيرة، حيث تم نقلها على مرحلتين من مرفأ "استاكوس" اليوناني الى مرفأ "اشدود" الاسرائيلي. 

شحنات الأسلحة الأميركية الى اسرائيل نادراً ما كانت بهذا الحجم سابقاً 

تجدر الإشارة الى أن شحنة ذخيرة مماثلة من حيث الحجم ارسلتها واشنطن الى تل أبيب مطلع شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي عبر سفينة المانية حملت 989 مستوعبا بداخلها 2600 طن من الأسلحة انطلقت من مرفأ في ولاية "نورث كارولاينا" الأميركية الى مرفأ "اشدود" ايضا. 

بعد هذه المقدمة، يبرز السؤال: هل كانت جميع هذه الشحنات مخصصة لقطاع غزة؟

لقد وافق البنتاغون على نقل شحنة الثلاثة الاف طن على متن سفينة تجارية في الحادي والثلاثين من كانون الأول/ديسمبر الماضي؛ أي بعد اربعة أيام من بدء القصف الاسرائيلي لغزة. على الأثر، استنتج المحللون أن الشحنة مخصصة لتلبية حاجات الجيش الاسرائيلي في معاركه الدائرة ضد مقاتلي الفصائل الفلسطينية.

غير ان التدقيق في هذه المزاعم يفترض استنتاجا من نوع آخر: إن المنطق يقول ان تسليم الذخائر يسبق عادة العملية العسكرية. وبالنسبة لعملية "الرصاص المسكوب"، فقد تم إقرار طلبية الذخائر في شهر حزيران/يونيو 2008، تلا ذ لك "كرم" أميركي من خلال مصادقة الكونغرس في أيلول/سبتمبر  2008 على نقل ألف قنبلة خارقة للتحصينات طراز "جي بي يو 39" تنتجها شركة "بوينغ". وبالفعل تسلمت اسرائيل هذه القنابل في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي: هي نفسها القنابل التي استخدمتها اسرائيل في عدوانها على غزة، بحسب ما ذكرت صحيفة "جيروزاليم بوست". 

ولمزيد من التفصيل، يبلغ وزن القنبلة الواحدة طراز "جي بي يو 39" نحو 130 كيلوغراما، ما يعني ان وزن الف قنبلة من هذا النوع يبلغ 130 طنا، وبالتالي يستحيل ان تقتصر شحنة الأسلحة الضخمة، بعد أربعة ايام على بدء العدوان، على القنابل الخارقة للتحصينات. 

بحسب البيان الرسمي العسكري الأميركي، فإن شحنة الأسلحة الضخمة الأخيرة "هي للتخزين، للاستخدام الفوري في أي صراع". وقد عززت وكالة رويترز هذا الاتجاه من خلال تحقيقها الصحفي في العاشر من كانون الثاني/يناير 2009، حين أوضحت ان الجيش الأميركي يعمد إلى "تخزين الذخائر في بعض البلدان لاستخدامها في وقت قصير متى استدعت الحاجة".

إذاً، يفترض حجم وطبيعة الشحنة الأخيرة أنها مخصصة للاستخدام "في حرب مقبلة" في الشرق الأوسط. وهي بالتأكيد ليست حربا بحجم العدوان على غزة فقط. 

إن اجراء عملية احصاء سريعة لخط النقل العسكري بين واشنطن وتل أبيب يكشف ما يلي:

1.         بعيد حرب تموز/يوليو 2006، أعادت اسرائيل ملء مخزونها من قنابل "جي بي يو 28" الثقيلة (يبلغ وزن الواحدة منها 2.2 طن) المخصصة لاختراق التحصينات الاسمنتية العميقة تحت الأرض. ومن باب التذكير فقط، هذه القنابل لم تستخدم في العدوان على غزة.

الدور المنشود للرادار المنصوب في النقب يفسر رفض الولايات المتحدة تسليمه مباشرة الى العسكريين الاسرائيليين  .

2.         في مطلع العام الحالي، اكتمل وصول الف جندي وعسكري أميركي الى اسرائيل، قدموا من القيادة الأميركية في أوروبا "يوكوم"، لمساعدة الجيش الاسرائيلي على تنصيب الرادار المتطور في صحراء النقب. مع الإشارة الى أن الإعلان الاسرائيلي الرسمي حتى الآن بخصوص هذا الرادار هو أنه لحماية الأجواء الاسرائيلية من صواريخ إيران الباليستية. أما المؤسسة العسكرية الأميركية فتقول إن نظام الرادار هو جزء من منظومة أوسع لتعقب وتحديد واعتراض صواريخ باليستية ومتوسطة المدى عند مسافات بعيدة وعلى ارتفاعات عالية".  

غير ان ما لم يعلنه الموقف الرسمي الأميركي، وذكرته مرارا مراكز الأبحاث، هو أن الرادار يضع منظومات الدفاع الصاروخية الاسرائيلية ضمن شبكة الصواريخ الأميركية العالمية عبر ربطها بالسفن والقطع البحرية في البحر المتو سط والخليج والبحر الأحمر وأعالي المحيطات، فضلا عن مجسات الاعتراض والرادارات المنصوبة على البر في أكثر من نقطة في العالم. هذا الدور المنشود للرادار المنصوب في النقب يفسر رفض الولايات المتحدة تسليمه مباشرة الى العسكريين الاسرائيليين والحفاظ على حق الإشراف عليه وإدارته. 

بكلمات أخرى: الولايات المتحدة هي المسؤولة مباشرة عن حماية اجواء اسرائيل في أي مواجهة مقبلة. كما أنه في ظل وضع كهذا، يبدو الحديث عن نية اسرائيلية شن ضربة أحادية ضد إيران ضربا من المزاح. 

3.          يتزامن وصول الشحنات الضخمة الأخيرة (ويجري حاليا التفاوض على طلبيات اخرى) مع بدء ولاية الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما. < /SPAN> واذا سلمنا جدلا بأن هذا الرئيس "معتدل" ولن يخوض حربا أخرى في المنطقة، فإن اسماء فريقه الخارجي والعسكري لا تدعم هذه النظرية، بل إن قلة خبرته في السياسة الخارجية تشكل نقطة ضعف مركزية يمكن من خلالها لجماعات الضغط في واشنطن تحقيق الكثير. كما إن الإبقاء على روبرت غيتس وزيرا للدفاع له دلالات واضحة في عدم رغبة اوباما انتهاج سياسة عسكرية مختلفة على المستوى الاستراتيجي. 

حاليا، يقوم قائد القيادة الوسطى دايفيد بترايوس بالكثير من العمل في ساحات الحرب المقبلة. من هنا يمكن فهم أهداف الزيارات المتلاحقة للمسؤولين العسكريين الأميركيين الى لبنان. ومن هنا أيضا، يمكن فهم خلفية موقف الكث ير من أنظمة الاعتدال العربي التي تعتمد بالفعل على طائرات "اف 15 إي" الاسرائيلية المحملة بقنابل "جي بي يو 28" الأميركية لحسم المواجهة المقبلة.


 الإنتقاد/ العدد1332 ـ 6 شباط/ فبراير 2009
 

 

 .