عندما قال له أحد الأطباء عند معبر رفح: 'أنت بطل'، رد بانفعال: لا.. من في الداخل هم الأبطال.. هكذا كان رد الطبيب النرويجي 'ماتس جلبرت' الذي ظل أحد عشر يوما داخل قطاع غزة تحت القصف الصهيوني.. وعند عودته عبر معبر رفح الحدودي قابله العشرات من الأطباء المصريين والأجانب الذين وقفوا عند المعبر ينتظرون السماح لهم بدخول القطاع.. وقف الطبيب النرويجي يشرح للأطباء أهمية هذه الخطوة وضرورتها وتأثيرها علي معنويات أهل غزة الذين يواجهون آلة الموت العسكرية الصهيونية الهمجية.. قال جلبرت: إن ما رأيته من إصابات شيء يفوق التصور والمنطق والعقل، فأعداد المصابين يتخطي حدود الوصف، وشكل وحجم الإصابات أقل ما يوصف به أن ما حدث لهم شيء همجي ووحشي ولا علاقة له بالإنسانية، ورغم هذا فإن أهل غزة يعيشون صمودا حقيقيا ويواجهون الموت بصدور عارية ونفوس تملؤها العزة والصبر.. لذلك فإن هذا الشعب لن تنكسر إرادته.. ولن ينهزم مهما حدث، فروحهم المعنوية مرتفعة وجيدة جدا.. ورغم هذا فهم يشعرون باليتم، وبأنهم يواجهون الموت وحدهم ولا أحد معهم يؤازرهم أو يساعدهم، هؤلاء الأبطال داخل هذا القطاع يحتاجون - بل إنهم في أمس الحاجة - لإخوانهم العرب.. استطرد ماتس جلبرت قائلا: لا تدعوا الخوف يتملككم، ولا يخيفكم صوت الطائرات والصواريخ، فالدور الذي ستقومون به أهم بكثير من مشاعر الخوف أو الرهبة التي قد تصيبكم.. ادخلوا ناصروا إخوانكم إنهم في حاجة لكم، فأنتم تحملون نفس ثقافتهم وتتحدثون نفس لغتهم وأنتم أكثر الناس إيمانا بقضيتهم، ساعدوهم بكل ما تستطيعون، هؤلاء الأبطال مقاومون، يدافعون عن أرضهم المحتلة فلابد من فتح المعابر لهم - كل المعابر - وإمدادهم بالدواء والكهرباء والغذاء وحتي السلاح.. إنهم مناضلون.
.. شهادة حق وكلمة صدق وصحوة ضمير لرجل غربي يشهد بعينيه وعاش بجسده وعقله ومهنته في قلب الجرح الفلسطيني علي امتداد أحد عشر يوما كاملة في مستشفيات غزة، شاهدا علي جرائم حرب عصابات الدولة الإجرامية، تلك الكلمات سجلها - صوتا وصورة - الطبيبان المصريان سامح يونس وراشد إمام اللذان سافرا إلي قطاع غزة أثناء القصف الصهيوني والتقيا بالدكتور جلبرت علي حدود رفح وفي قاعة الاجتماعات داخل مستشفي الهلال بالقاهرة قاما بعرض هذا 'السي دي' الذي لم يحمل فقط شهادة الطبيب النرويجي بل حمل أيضا المزيد من الفضائح والخزي للمجرمين الصهاينة ففوجئ الحاضرون بأن ما عرض علي شاشات التلفاز ما هو إلا نقطة في بحر هذه المجزرة.
.. صرخ طبيب من الحاضرين وهو يشير إلي شاشة البروجيكتور وكان في حالة ذهول: إيه ده؟
فرد د. راشد إمام: مش عارف والله.. أنا أستاذ في الجامعة ودرست ودرٌست كل أجزاء الجسم البشري.. إذا حد فيكم عرف الجزء ده من الجسم إيه... يقولي.. كانت قطعة من جسد شهيد ملقاة فوق أرض المستشفي ولا أحد يعلم ماهيتها فالسلاح الذي استخدم في إبادة هذا الجسد شوٌه معالمه تماما فعجز عشرات الأطباء من الحاضرين عن معرفته.
.. وقفت طبيبة التخدير الفلسطينية تبكي أمام فتاة لم يتعد عمرها ستة عشر عاما.. جسد التف حوله الأطباء عاجزين عن مساعدته وبدلا من الدعاء بالشفاء.. ورغم محاولات الإنقاذ البائسة ظلوا جميعا يتمنون الشهادة لصاحبة هذا الجسد.. فهل يتخيل أحدكم نصف جسد مشطور من الخلف طوليا، مكشوفة أوردته.. ودمه.. ولحمه وعظامه.. بينما مازالت الروح تتعلق بهذا النصف 'المسلوخ' المتبقي تستصرخ ضمير العالم الذي غاب عن الوعي!!
تمضي الصورة تلو الأخري، يشعر كل مشاهد لها أنه في كابوس يقبض أنفاسه ويطبق بقسوة علي الضلوع فيمزق القلب ويدمي الروح ويذهل العقل..
مشاهد تعيسة تم تصويرها داخل المشرحة بأحد مستشفيات غزة حيث لا تستوعب ثلاجات الموتي أعداد الشهداء، وفي كل ثلاجة تم وضع الجثامين بعضها فوق بعض خاصة جثامين الشهداء من الأطفال، وما زاد من جثث الشهداء - وهم كثيرون - تم تكفينه في ملاءات أسرة المستشفي بعد أن نفدت أقمشة الأكفان جميعها، وتراصت الجثامين فوق بلاط الغرفة وفي الأروقة.. في غرف العمليات وفي ممرات المستشفي فقد وضعت صناديق كرتونية كبيرة وإلي جوارها وقف طابور من الأطباء يحمل كل منهم جزءا من الجسد تم بتره أو جاء منفردا مبتورا بفعل القصف الصهيوني، وما أكثر الأعضاء التي تم تجميعها فامتلأت بها تلك الصناديق.. ذراع.. بل ألف ذراع.. قدم وساق ويد ورأس.. وقلب.. وبقايا بشر.
احتوي ال'سي دي' الذي عرضه الطبيبان سامح يونس وراشد إمام، علي عدة دراسات وتقارير وبرامج لقنوات تليفزيونية غربية تشرح جميعها أنواع الأسلحة التي استخدمتها العصابات الإجرامية الصهيونية في قتل أهل غزة..
فقد وصفت إحدي قنوات التليفزيون الإيطالي قنابل 'الدايم' التي استخدمت في هذا العدوان بأنها القنبلة التي تحقق أكبر قدر من الخسائر الممكنة في نطاق قصفها الذي يمتد من ٤ لأكثر من ٢١ مترا ولابد أن تصيب كل من في دائرتها وأن هذه القنبلة استخدمها الكيان الصهيوني من قبل في عدوانه علي جنوب لبنان عام ٦٠٠٢ وهو ما أكدته أيضا الجمعية البريطانية 'المجلس الطبي البريطاني' الذي أشار إلي أن هذه القنابل إما قنابل نووية صغيرة أنها تحتوي علي اليورانيوم المنضب وهو ما أكدته الدراسات الأولية للتربة في غزة..
وأشار الدكتور سامح يونس والدكتور راشد إمام إلي أن قنابل 'الدايم' لا تحتوي علي معادن وهو ما يبرر عدم وجود أجسام معدنية في الجسد بعد الإصابات رغم وجود ثقوب فيه، فتلك القنابل تحتوي علي نوع من البودرة تتسبب في إحراق من يتعرض لها بحروق شديدة تتمدد وتتسع بمرور الوقت وعندما تصيب الجسد فهي تحرق الأجهزة الداخلية دون أن تظهر لها دلائل علي جهاز الأشعة، وعندما تلمس العظام فإنها تبترها علي الفور.
الأخطر من ذلك أن هناك مراكز بحثية أمريكية أصدرت عدة دراسات عام ٥٠٠٢ تؤكد أن قنبلة 'الدايم' أكثر تأثيرا من النابالم وأقل درجة من القنبلة الذرية وأن من يتعرض لها ولا يمت فإنه يصاب بنوع خطير من السرطانات يسمي 'السرطان الهيكلي' وهو الذي يصيب عظام الجسد ويقال عنها إصابات سرطانية هيكلية عضلية.
وقد صرح الطبيبان المصريان بأن نقيب الأطباء العراقيين أكد لهما أن هذه النوعية من الأسلحة والقنابل هي نفسها التي استخدمها الاحتلال الأمريكي في حربه علي مدينة الفلوجة وأن الإصابات التي تعرض لها أهل غزة في هذا العدوان هي نفسها التي أصابت أهل الفلوجة..
وأضاف الطبيبان د. سامح ود. راشد أن مؤسسة 'Palastinan Holocost' أو 'مؤسسة الهولوكوست الفلسطيني' أكدت أن هذه العملية العسكرية للمحتل الصهيوني بدأت بعنوان 'الرصاص المصبوب'، وأن هناك مليون طن من المتفجرات ألقيت علي قطاع غزة وحده، تلك المدينة التي لا تتعدي مساحتها ٠٦٣ كيلو مترا، وأن عملية اغتيال الشهيد سعيد صيام القيادي في حركة حماس ووزير الداخلية في الحكومة الفلسطينية المقالة استخدم فيها طن من المتفجرات ألقي علي المنزل الذي كان فيه صيام.
وأن المرحلة الثانية من العملية أطلق عليها العدوان الصهيوني 'كرة الثلج' وهو ما يعني الكرة التي كلما انزلقت كبر حجمها..
وفي الوقت نفسه الذي سعي فيه الأطباء المصريون العائدون من غزة لتوثيق مشاهداتهم - صوتا وصورة - وعرضها علي وسائل الإعلام العالمية أكدوا أنهم قاموا بالتوقيع علي وثائق رسمية بأنهم شهود عيان علي جرائم الصهاينة في غزة وسلموا هذه الوثيقة لاتحاد المحامين العرب وأنه يجري الآن التنسيق بين نقابة الأطباء المصرية واتحاد المحامين العرب واتحاد الأطباء العرب لتوثيق تلك الشهادات والصور والأفلام التسجيلية لتقديمها للمحكمة الجنائية الدولية والمطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة، خاصة أن خمسة أطباء شرعيين مصريين توجهوا لغزة وحصلوا علي عينات من أشلاء الضحايا وتحفظوا علي فلاتر سيارات الإسعاف التي تعرضت للقصف بالمواد المشعة وتقديم نتيجة دراسة هذه العينات ضمن الوثائق الرسمية وكذلك عرضها علي منظمات ومؤسسات المجتمع الدولي في محاولة حقيقية لوقف كرة الثلج التي تدمر كل ما هو إنساني في الحياة.
.