أثارت الحرب الاسرائيلية العدوانية على غزة مشاعر وضمائر ملايين الناس في مختلف أرجاء المعمورة. ومن شاشات التلفزة ، شاهد الفلسطينيون هؤلاء الناس الرائعين وهم يعبرون عن سخطهم وغضبهم ضد العدوان وهمجيته بكل الفنون وأدوات التعبير التي يستطيعوا توظيفها في الشوارع، فجاءت بمستوى الحدث الملحمي في غزة. كما سجل غضب "الشارع العالمي" الواسع والمثابرسابقة لم تحدث الا ابان التضامن مع الشعب الجزائري والشعب الفيتنامي في أواسط الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي.
ومن بين مئات المنظمات المنظمة للتظاهرات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني برزت نقابات العمال ونشطائها في مقدمة صفوف المتضامنين. وفي الحقيقة ،لم يقتصر دور النقابات العمالية على المشاركة في التظاهرات الغاضبة فقط ،بل تعداه الى بلورة مواقف ومسلكيات محددة وتبني استراتيجيات عمل دائمة لمعاقبة الدولة العبرية على ما اقترفته من جرائم ضد غزة وأهلها.
الأتحاد الدولي للنقابات الحرة ITUC ،الذي دعا منذ الساعات الأولى لبدء العدوان الاسرائيلي على غزة لوقف اطلاق النار، استجاب فورا لنداء عاجل صدر عن الأتحاد العام لنقابات عمال فلسطين والأتحاد العام لنقابات عمال الأردن واتحاد النقل الدولي وأرسل أطنانا من المواد الطبية والغذائية مع ثلاث سيارت اسعاف على متن طائرة اردنية مستأجرة الى العريش سلمت للصليب الأحمر في غزة وذلك في الأيام الأولى للحرب العداونية على غزة.
النقابات العمالية البلجيكية والفرنسية والايطالية والبريطانية والنرويجية والسويدية والدنمركية لم تكتف بالنزول الى الشوارع الى جانب منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الرافضة للحرب على غزة فحسب، بل قامت بجمع تبرعات من أعضائها لشراء امدات طبية وغذائية ، وأمطرت مكاتب رئيس وزراء اسرائيل ووزراة الخارجية والهستدروت برسائل وبرقيات تندد بالمجازر التي يرتكبها الجيش الأسرائيلي بحق المدنيين العزل وتطالب بعدم الأستقواء بالسلاح الفتاك على الشعب الفلسطيني والأعتراف بحقوقه الوطنية كما أقرتها الأمم المتحدة.
عمال ميناء ديربي في جنوب افريقيا رفضوا تنزيل بضائع اسرائيلية كانت محمّلة على متن سفينة جوهانا روس Johanna Russ وذلك امتثالا لدعوة اتحاد عمال النقلSATAWU عضو الأتحاد العام لنقابات جنوب أفريقيا كوساتو COSATU . وقد أجبر عمال النقل الجنو- أفريقيين السفينة جوهانا روس المتعاقدة مع شركة تسيم الأسرائيلية للملاحة الدولية على الأبتعاد عن ميناء ديربي.
نجاح عمال النقل ،زاد من تصميم "كوساتو " لمواصلة حملتهم ضد عدوانية الدولة العبرية وقرروا مواصلة كفاحهم التضامني حتى تحقيق مطالب الشعب الفلسطيني .وقرر "كوساتو" التعامل مع اسرائيل باعتبارها دولة تمارس الفصل العنصري ينبغي عزلها وقرض عقوبات عليها. وطالب حكومة جنوب أفريقيا على قطع العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل.
ويفتخر كوساتو ،الذي تأسس في عام 1985 ، بانه شارك الى جانب الملايين من الناس المناضلين الذين انحازوا لجهة الحق والعدل والأنسانية وهم الذين كانوا منحازين الى جانب كفاح حزب المؤتمر وكوساتو وشعب جنب افريقيا ضد نظام الفصل العنصري . ويعتبر كوساتو من أقوى الأتحادات النقابية والعمالية والأكثر تنظيما في أفريقيا والعالم ويضم في صفوفه 2 مليون عامل وعاملة غالبيتهم الساحقة تسدد رسوم العضوية.
.اتحاد نقابات العمال في بلجيكاFGTB والمنظمات النقابية البلجيكية الأخرى وأكثر من 150 لجنة تضامن بلجيكية مع الشعب الفلسطيني ، نظمت تظاهرات غاضبة، شارك فيها مئات الالوف امام مقر قيادة الأتحاد الأوروبي ببروكسل نددت بليونة الموقف الأوروبي ومطالبة بمواقف أكثر صرامة مثل تجميد العمل باتفاقية منح الأفضلية لأسرائيل في تسويق منتوجاتها .
ومن البرقيات والرسائل النقابية البلجيكية الموجهة للهستدروت (النقابة العامة في اسرائيل) ،كانت الرسالة الغاضبة جدا التي بعث بها رئيس النقابة المركزية العامةCentrale Generale آلان كلاويرت وأمينها العام جاك ميكيليس الى رئيس الهستدروت الأسرائيلي عوفر عيني حيث خاطباه بالقول،" على النقابة العمالية أن تنحاز لصالح السلام بين الشعوب، واذا لم تفعل ذلك تكون انحازت لجهة الحرب وتكون بذلك قد سلخت نفسها عن المبادئ النقابية.يجب أن تدعو فورا للسلام بدون شروط قبل أن تفقدوا مصداقيتكم وكرامتكم.واذا لم تفعلوا ذلك سنطلب من ممثلينا في الأتحاد الدولي للنقابات العمالية العمل على عزلكم وطردكم. وطالما لن تفعلوا ذلك فان عزلكم في الحركة النقابية الدولية هو الطريقة الوحيدة المتبقية لنا".
وتعتبر النقابة المركزية المنضمة للأتحاد العام لعمال بلجيكا FGTB وتضم عمال قطاعات البناء والبتروكيماويات والخدمات العامة والموظفين من أقوى النقابات حيث يبلغ عدد أعضائها 360000 عامل وعاملة. وتعمل النقابة في مقارها وفروعها الكثيرة في بلجيكا ، على ترويج السلع الفلسطينية مثل زيت الزيتون والصابون وتحرض أعضائها على مقاطعة السلع الأسرائيلية :ما تدعم العديد من المشاريع في فلسطين وكوبا ورواندا بيرو وكولومبيا .
لقد جاءت مواقف النقابات العمالية الأوروبية عموما مناقضة لمواقف حكوماتها التي كانت في معظمها متفهمة "بأن هدف الحرب وقف صواريخ الفلسطينيين" لكنها فوجئت من الأستخدام المفرط للقوة العسكرية وبالآثار المدمرة على المجتمع الفلسطيني في غزة . ولأن الحكومات الأوروبية منتخبة من مواطني بلدانها فقد أصغت لمشاعر الغضب في أوساط الرأي العام في بلدانها، وعادت وصوّبت ،الى حد ما ، مواقفها وانخرطت في جهود أكثر جدية من أجل وقف اطلاق النار وتقديم معونات انسانية كما عبرت عن التزامها باعادة اعمار ما دمرته الحرب الاسرائيلية.
ولا بد من الأشارة هنا للجهود العظيمة التي بذلتها الجاليات الفلسطينية والعربية والاسلامية في تفعيل هذا التضامن المهم جدا وكذلك لممثلي المجتمع الفلسطيني المدني في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين سعوا ،دون ان تفتتهم الأنقسامات الداخلية، لاستنهاض همم اصدقائهم وحلفائهم لرفع صوتهم مدويا ضد البطش الأسرائيلي الذي طال حسب أحدث احصائية :1440 شهيدا و5380 مصابا و5000 منزلا (تدمير كامل) و12000 منزل ومبنى ومصنع تدميرا جزئيا، فيما فقدت اسرائيل 13 جنديا ومدنيا قتلوا.
. وبرغم ذلك ،وعلى ضوء ما شاهدناه من تضامن واسع مع قضايانا يبرز أمامنا تحديين رئيسيين :
التحدي الأول :هل بمستطاعنا استيعاب وملاقاة هذا الفيض الواسع من التعاطف والتضامن الدولي من خلال مأسسة منظمة تضمن استمراريته وفعالياته والأرتقاء به ليكون سلاح ضغط سلمي ضد صلف المعتدين الاسرائيليين أم أن نستمر على ذات المنوال من العمل بموجب أجندات تخص كل منا ولكل منا بحسب علاقاته وحاجاته ؟
التحدي الثاني:
وربما يرتبط بالأول ، كيف يمكن للقيادات الفلسطينية السياسية على مختلف تصنيفاتها ومراتبها التنظيمية ومؤسسات المجتمع المدني ومنها النقابات العمالية ، نقل المضمون الأنساني والأخلاقي لاحتجاجات المتضامنين الى مضمون سياسي يطالب بسحب القوات الأسرائيلية من الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلتها في عام 1967 وتمكين الشعب الفلسطيني من نيل حريته وحقوقه الوطنية المشروعة بما فيها اقامة دولته المستقلة ؟.
09/02/2009