في الحرب والسلم، يقرر ميزانُ القوى وميزان الإرادات إمكانات الربح والخسارة بين الأطراف المتصارعين.
عناصر ميزان القوى موضوعية في الدرجة الأولى. إنها مفردات ومجاميع المال والموارد الطبيعية والإنتاج المادي، الصناعي والزراعي والتكنولوجي، والسلاح وتقنياته، والخبرة المتولدة من استعمال كل هذه العناصر المادية.
عناصر ميزان الإرادات ذاتية في الدرجة الأولى. إنها مفردات ومجاميع الفكر والثقافة والدين والعقيدة والقيم المعنوية والإعلام، ومزايا التصميم والمثابرة والصبر والصمود والشجاعة، والتدريب والخبرة المتولدة عن استعمال كل هذه العناصر المعنوية.
في الحرب، لا يكفي التفوق في ميزان القوى لضمان النصر وإن يكن يرجّحه في غالب الأحيان. في الثورة والمقاومة، يكون لميزان الإرادات دور راجح على ميزان القوى وإن يكن لا يضمن النصر في كل الأحيان.
من قراءة معمّقة للتاريخ يمكن الاستنتاج أن التحولات الكبرى تنجم غالباً عن تفوق متفاوت المقدار في كل من ميزان القوى وميزان الإرادات لدى طرف ( أمة، دولة، جماعة، حزب، تحالف قوى الخ...) من الأطراف أو أكثر.
في عصرنا، مطالع القرن الحادي والعشرين، لا يبدو أن ثمة طرفاً من الأطراف يتمتع بتفوق ساحق في كل من ميزاني القوى والإرادات. ذلك أن بعض الأطراف يتمتع بتفوق واضح، وأحياناً ساحق، في ميزان القوى، لكنه يفتقر إلى تفوق مماثل في ميزان الإرادات.
هذا ما تجلى أيضاً عبر مراحل التاريخ. ففي الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945، كانت الولايات المتحدة الأميركية تتمتع بتفوق واضح في ميزان القوى، لكن تفوقها في ميزان الإرادات كان أدنى منه درجةً.
في الحروب الإقليمية - الحرب الكورية والحرب الفيتنامية و«الحرب» الصومالية في النصف الثاني من القرن العشرين - كانت الولايات المتحدة تتمتع بتفوق وازن في ميزان القوى، لكنها كانت تعاني من خلل في ميزان الإرادات. لذلك خسرت الولايات المتحدة في تلك الحروب لأنها لم تستطع أن تحقق أهدافها، أو لأنها لم تفلح في كسر إرادة العدو، أو لأن العدو صمد في وجهها وبقي في وضع يمكّنه من إعادة بناء قوته أو مضاعفة فعاليتها.
في الصراع العربي - الإسرائيلي، كان الكيان الصهيوني حتى أواخر القرن الماضي متفوقاً على الدول العربية مجتمعة في ميزاني القوى والإرادات. مع صمود المقاومة اللبنانية وازدياد فعاليتها، حدث اختلال في ميزان الإرادات اضطرت معه "إسرائيل" إلى الانسحاب من جنوب لبنان سنة 2000 بلا قيد ولا شرط.
في حرب "إسرائيل" الثانية على لبنان صيفَ سنة 2006 كان ثمة تفوق لديها في ميزان القوى مصحوب باختلال واضح في ميزان الإرادات، فكانت النتيجة اندحار "إسرائيل" وجيشها الذي لا يقهر «أمام بضعة آلاف من المقاتلين»، كما جاء في تقرير لجنة فينوغراد الإسرائيلية القضائية.
شيء من هذا القبيل حدث في حرب "إسرائيل" الثالثة على الشعب الفلسطيني في غزة خلال الأيام الـ 22 أواخرَ 2008 ومطالع 2009م. فقد حدث اختلال في ميزان الإرادات الإسرائيلي نتيجةَ عوامل عدة ليس أقلها الفراغ في القيادة والصراع عليها عشية الانتخابات التشريعية. هذا أدى إلى إخفاق حكومة "إسرائيل" في تحقيق أغراضها من العدوان الوحشي. سبق ذلك ورافقه وأعقبه صمود أسطوري للشعب والمقاومة الفلسطينيين ترجم تفوقاً واضحاً في ميزان الإرادات لديهما.
على الصعيد الإقليمي، ثمة اختلال ملحوظ اليوم في ميزان الإرادات لدى محور دول «الاعتدال» العربية بالمقارنة مع أطراف الخط المقاوم والمساند للمقاومة (المتمثل في المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية والمقاومة العراقية، وفي دعم سوريا وقطر وإيران لها ).
إلى ذلك، أسهَمَ تعثر إدارة جورج بوش في العراق وأفغانستان وأفولها من جهة وانتخاب باراك أوباما واعتزامه إعادة ترتيب أولويات أميركا في المنطقة من جهة أخرى في إحداث خلل في ميزان الإرادات الأميركي. هذا الخلل انعكس بدوره سلباً على ميزان الإرادات الإسرائيلي مما أدى إلى تراجع نفوذ المحور الأميركي - الصهيوني وتقليص هيبته الردعية، سياسياً وعسكرياً.
في "إسرائيل"، يشير آخر استطلاعات الرأي العام إلى تقدم أحزاب اليمين على حساب أحزاب الوسط واليسار. غير أن أياً من الأحزاب المتنافسة لن تكون له غلبة ساحقة تمكّنه من تأليف حكومة تنتهج خطاً سياسياً واضحاً يحظى بغالبية شعبية متماسكة أو بدعم سياسي ثابت من إدارة أوباما التي هي نسبياً أقل دعماً للتطرف الصهيوني من إدارة بوش الذاوية. وفي مطلق الأحوال، فإن عملية تأليف حكومة إسرائيلية جديدة بعد الانتخابات ستستغرق، على ما يبدو، وقتاً طويلاً.
كذلك فإن طغيان العناصر المخضرمة والمتصهينة في الشبكة الحاكمة (الاستبليشمانت) على إدارة أوباما وحاجتها إلى بضعة أشهر للإحاطة بملفات الصراع في المنطقة من أجل اجتراح مقاربات وسياسات جديدة في شأنها، سيطيلان أمد الاختلال في ميزان الإرادات الأميركي.
هذان الاختلالان الإسرائيلي والأميركي سيعوّقان التوافق الدولي والإقليمي على مبادرات جديدة لمعالجة قضايا المنطقة، لاسيما ما يتعلق منها بقضايا فلسطين وأفغانستان والبرنامج النووي الإيراني. ذلك سيؤدي بدوره، وبالتزامن مع اختلال ميزان الإرادات لدى دول «الاعتدال» العربية، إلى تمديد فترة التيه والاضطراب في علاقات القوى المتصارعة في المنطقة.
إلى أين من هنا ؟ هل يمكن استشراف التطورات المقبلة المرجح وقوعها والنتائج المترتبة عليها ؟
في العراق، جرت انتخابات مجالس المحافظات التي انتهت إلى فوز قوى معارضة لمشاريع «أقلمة» المحافظات، أي جمع بعضها في أقاليم نافرة من السلطة المركزية في بغداد على نحو ما فعل الأكراد في محافظات كردستان الثلاث في شمال شرقي البلاد. هذا الاتجاه المؤيد للسلطة المركزية يصبّ، بصورة عامة، في خيار استعادة وحدة العراق وهويته العربية وانتمائه السياسي إلى الخط المناهض للصهيونية والهيمنة الأميركية.
في لبنان، من المنتظر أن تسفر الانتخابات النيابية القادمة عن فوز مرجّح، وإن يكن بسيطاً، للقوى الوطنية المؤيدة للمقاومة والمناهضة للهيمنة الأميركية. حتى لو فازت القوى السياسية الممالئة للغرب الأطلسي أو تعادلت في النتيجة مع القوى المناهضة ل"إسرائيل" وللغرب الأطلسي، فإن هذه الأخيرة ستبقى قادرة بفضل تركيبـة لبنان التعددية، وقوة المقاومة وتحالفاتها الإقليمية، ودور سوريا المحلي والإقليمي على احتواء سلطة القوى الممالئة للغرب الأطلسي ودورها ونفوذها.
في سوريا، ثمة وضع سياسي متماسك يستمد قوته من دعمه قوى المقاومة في المنطقة، وتعاونه السياسي والإستراتيجي مع إيران، وانفتاحه على تركيا والقبول بها وسيطاً في الصراع مع "إسرائيل" وقوةً إقليمية وإسلامية مقبولة من دول «الاعتدال» العربية و"إسرائيل" في منظومة توازنات المنطقة.
في مصر، يحاول نظام حسني مبارك السير على حبلِ توازنات دقيق بين "إسرائيل" و«حماس» من جهة وبين "إسرائيل" والمحور السوري - الإيراني من جهـة أخرى. سقف هذه السياسة إدامةُ منظومة التوازنات الإقليمية الراهنة وتحصينها بمبادرات دولية جديدة للحؤول دون انزلاق الأطراف المتصارعين إلى حروب ساخنة تتضرر منها مصر داخلياً وإقليمياً.
في غمرة هذا الوضع الإقليمي المضطرب والمفتوح على احتمالات شتى، تبدو الولايات المتحدة بسبب من أزمتها المالية والاقتصادية المتفاقمة، واضطرار إدارتها الجديدة إلى إعطاء معالجتها أولوية على حساب قضايا أخرى في المنطقة والعالم، في وضع لا يمكّنها من إطلاق مبادرات سياسية وازنة، لا حيال الصراع العربي - الإسرائيلي ولا حيال البرنامج النووي الإيراني. ضيق هامش المناورة الأميركي يفسح في المجال أمام أطراف الخط العربي المقاوم لممارسة فعالية سياسية وعسكرية متعددة الأشكال ضد "إسرائيل" والقوى الإقليمية المتواطئة معها أو الساكتة عن شرورها.
حجم الفعالية الممكن ممارستها من قبل أطراف الخط العربي المقاوم يتوقف على احتساب ردود الفعل الممكن صدورها عن أطراف ثلاثة: "إسرائيل" وأميركا ومحور دول «الاعتدال» العربية.
قياساً على تجارب الماضي القريب، وتقديراً لاحتمالات الحاضر والمستقبل المنظور، تبدو أطراف الخط العربي المقاوم في وضع أفضل لمباشرة مجازفات عسكرية محسوبة ومبادرات سياسية جريئة على امتداد البرزخ الفاصل بين السواحل الشرقية للبحر المتوسط والسواحل الشرقية للخليج العربي.
يتحصّل من هذه القراءة المتأنية للواقعات والتطورات الجارية أن الاختلال في موازين الإرادات لدى أطراف المحور الأميركي - الصهيوني سيبقى، وقد يتفاقم، لمصلحة أطراف الخط العربي المقاوم.
09/02/2009
المصدر: صحيفة الوطن القطرية