أحفظُ بيتين من الشعر ،ولا أعرفُ قائلهما :

عجوزٌ تمنَّتْ أن تعودَ صبيةً وقد

جفَّ منها النهدُ واحدودب الظهرُ.

تروح إلى العطار تبغي شبابها

وهل يُصلحُ العطَّارُ ما أفسدَ الدهرُ ؟!

نعم الدولُ كالبشر ، تمر بمراحل البشر ذاتها، فلها طفولة وشبابٌ وشيخوخة ، ففي الطفولة ترضع ثدي أمها ، و أثداء غيرها إن لم تشبعها أمُّها ،ثم تليها مرحلة الشباب بما في هذه المرحلة من اندفاع يصل إلى حد التهوُّر ، وتدخل أيضا مرحلة المراهقة  كما  الشباب ، ثم  تشيخ الدول كما يشيخ البشر ، فتترهل،وينحني ظهرها وتتكرمش تقاطيعُ وجهها ، وتبدأ أمراضُ الشيخوخة في أجساد الدول.

 ومن  أشدّ أمراضها، مرض ادعاء الشباب ، وممارسة أفعالهم  في زمن الكهولة ، فتُراهقُ من جديد، وتحارب من جديد ، وتتزوج من جديد في محاولة منها أن تعيد شبابها المهدور.

ولعلَ أخطر أمراض الدول وأكثرها انتشارا، هو فايروس  الفساد، الذي ينخر أساسها ، ويصيبها بهشاشة في بنيتها الأساسية فيقل مريدوها وزائروها .

فهل دخلتْ دولة إسرائيل في طور الشيخوخة المبكرة ؟

يُجيبُ كثيرٌ من الإسرائيليين على السؤال بنعم لقد بدأ الشيبُ يظهر فوق مفرق إسرائيل، وبدأ ظهرها ينحني ،

 فمثلا كانت إسرائيل قبل مرحلة الشيب المبكر تحتفظ بالترتيب الأول في قائمة مطارات العالم الأكثر أمنا وأمانا ، إلى أن شابَ مطارُها الرئيس مطار بن غريون ، وأصبح مطارا من الدرجة الثانية ، فقد قررت منظمة الطيران الدولية  تخفيض مستواه إلى المرتبة الثانية ، وهذا ما سيفقده دخلا كبيرا ، فكثيرٌ من الطائرات لن تحطَّ فيه  ." يدعوت أحرونوت 20/11/2008 "  .

وظهر الشعرُ الأشيب في أهم مرافق إسرائيل المدنية أيضا ، وهو مرفق المستشفيات ،حيث كانت مستشفياتها نموذجا للطب السياحي في العالم ، ومقرا لأمهر الأطباء ، فقد تحولت مستشفياتها الكبرى هذه الأيام إلى مصدرٍ من مصادر العدوى الجرثومية للأطفال ، ووصل الأمر إلى أن واحدا من أكبر مستشفياتها ، وهو مستشفى هداسا أصبح يقدم للأطفال المرضى وجباتٍ غذائيةً فاسدةً ، مرَّ على انتهاء صلاحيتها أكثر من عام كامل " راديو إسرائيل 23/12/2008 "

أما مرض باركنسون فقد أخذ يتسلل إلى أطراف إسرائيل في نظامها التعليمي ، فقد انحدر مستواها وفق الاختبار العالمي السنوي إلى أكثر من تسعة نقاط  في عام واحد، فأصبحت مرتبتها في تعليم الرياضيات والعلوم الرابعة والعشرين من مجموع الدول المشاركة وهي تسعة وأربعين ، وإذا أضفنا إلى ذلك توسع التعليم الحريدي الديني الذي يُحرِّم تدريس الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية ، فإننا نؤكد إصابة إسرائيل في أطرافها بمرض الرعاش " يدعوت أحرونوت 11/12/2008 "

أما عن عجز إسرائيل وانحناء ظهرها فيتمثل في عدم قدرتها على محاربة العصابات الإسرائيلية ، التي أخذت تُكوِّن داخل إسرائيل دويلاتٍ صغيرةً مستقلةً تتحدى نظامها العام ، كعصابة بوطبول الكبيرة التي تتحدى كل رجال الشرطة في إسرائيل ، وإذا أضفنا إليها عصابات النازيين الجدد من المهاجرين الروس في بتاح تكفا في تل أبيب ممن يهدَّدون الملونين واليهود بالقتل ، فإننا نؤكد إصابة إسرائيل بتحدُّب الظهر العجزي  هارتس 24/11/2008 "

أما عن مرض تصلب الشرايين المرافق للكهولة ، وهو مرضُ أشد خطورة من كل الأمراض السابقة ، وهو غالبا ما يكون مرافقا  للفساد المالي المستشري في إسرائيل بحيث أصبح سمة من سمات رؤساء الحكومات ، وهو مرض البيروقراطية الإدارية  في كل مرافق الحياة ، في نظام التأمين والمعاشات ، وفي نظام قروض الإسكان ، وتحويل القرى إلى مدن ، وبيروقراطية العمل في المستوطنات والموشافات وصولا إلى بيروقراطية التراتبية العسكرية والمالية ، فإننا نؤكد بأن عصر الشيخوخة الإسرائيلية قد بدأ بالفعل بعد نصف قرنٍ ونيِّف من تأسيسها.

أما عن مرض التشوه الديموقراطي ، فقد أفسد هيكلها الخارجي ، بعد أن حولها من واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط كما كانت تزعم ، وكما اعتاد الإعلام الغربي أن يُسوِّقها ، إلى معتقل الحريات ، فمارست أبشع أنواع التمييز ضد الفلسطينيين المقيمين فيها ، ونبذتْ أيضا مثقفيها ومفكريها ومؤرخيها الجدد وعلى رأسهم إيلان بابه وسمحا فلابان وتوم سيغف وتيدي كاتس وغيرهم ممن طُردوا من الجامعات ، وممن ينتظرون الطرد بسبب آرائهم الديموقراطية الحرة، مما جعل الجامعات البريطانية تُقاطع الجامعات العبرية ، ويستعد بعضُ أساتذة الجامعات الأمريكية، ممن تابعوا الجريمة على غزة لمقاطعة الجامعات العبرية أيضا بسبب ضمور خلايا الديموقراطية في إسرائيل " هارتس 29/1/2009م.

ما سبق لا يدخل بالطبع في باب" المشيحانية المُنتَظَريَّة " وهي نظرية انتظار ما سيأتي بدون فعل أي شيء سوى الدعاء والتضرع والبكاء، وإنما هو حقيقة يؤكدها المحللون والمراقبون في إسرائيل ، وهذه الحقيقة هي من أكبر الفواجع التي يخشاها الإسرائيليون.

وما فعلته آلاتها العسكرية في  حربها على غزة  وما ارتكبته من دمار وقتل وحرق،  ليس سوى محاولة منها لاستعادة فتوَّتها وسطوتها وشبابها،حتى ولو كانت ساحة المعركة هي غزة الواقعة تحت نير احتلالها .

 وليس ادعاؤها بأن ما قامت به من إعدام منظم لغزة يهدف فقط إلى منع إطلاق الصواريخ على مدنها وقراها ، بل هو يأتي في سياق محاولتها تجديد خلاياها العسكرية الآخذة في الذبول، ويأتي أيضا في إطار إقناع مواطنيها بأنها ما تزال فتيةً قادرة على ممارسة كل الرياضات العسكرية حتى على أبرياء غزة.

فلم تكن حربها الأخيرة على غزة سوى صبغة شعر فوق شعرها الأشيب ، وكريمات لإخفاء تجاعيد وجهها ، وأقراص من المهدئات لتخفيف ارتعاش أطرافها .

ومما يؤسف له إن شيخوخة إسرائيل المبكرة لا يقابلها  شبابٌ فلسطيني أو عربي ، فما يزال العرب حتى اليوم يرون فيمن يكشف أمراضهم ، ويحاول أن يصف لهم العلاج خائنا للعروبة وجاسوسا مدسوسا بين صفوفهم يُفسد حلمهم وأملهم، حتى ولو كان مخلصا من نسل قحطان الأول.

وهذه النقيصة تجعل الشيخوخة الإسرائيلية بكل عاهاتها حتى الآن أقدر على الفعل والتأثير في عالم اليوم من الشباب العربي المرجوّ والحلم العربي الحبيس في الكتب والإسطوانات  السمعية والبصرية .

30/1/2009