مهم أن ألاحظ أن الباعث الأساس لقيام الولايات المتحدة، بعد قرن ونصف قرن من بدء استيطان منظم تحت العهد البريطاني كان تحريرالذات الوطنية وتوسيع حظوظها الاقتصادية.  كانت الهوية الأمريكية منذ إنشاء مستوطنة  جيمستاون الأولى في فرجينيا عام 1607 وحتى الربع الأخير من القرن الثامن عشر قد تبلورت سماتها ونمت خبراتها المهجرية على نحو مستقل.  كانت قد أنشئت تباعا ثلاثة عشرة مستعمرة على امتداد الساحل الشرقي، تخضع جميعها لحكم بريطاني مباشر.  لذا، عندما أرهقت هذه المستعمرات بفروض الملكية البريطانية،  بما في ذلك دفع ضرائب باهظة إلى التاج، دونما تمثيل في البرلمان، قررت أن تتحرر (1776).  وعندما وجدت أنها لن تنتصر في حرب التحرير دون أن تتحد كونفدراليا، اتحدت كونفدراليا (1781).     ثم عندما أدركت أنها لن تقدر على صيانة الاستقلال المحقق دون أن تتحد فدراليا، اتحدت فدراليا (1788)  بدستور أوجد الولايات المتحدة الأمريكية كما نعرفها اليوم. 

من يومه تثبت الكيان الوطني على مبدأين: وحدة غير قابلة للفصم، وحكم قائم على التمثيل المتحقق بالانتخاب الحر.  وعندما تعرضت الوحدة لعملية انفصال من قبل ولايات الجنوب، قامت حرب أهلية عارمة (1865-1861) أعادت الوحدة ووطدت قواعدها من جديد.  ثم  ضمّن مبدأ الوحدة لاحقا (1892) في عهد الولاء  Pledge of Allegiance الذي جاء مؤكدا أن الولايات المتحدة " أمة واحدة، تحت الله، غير قابلة للتجزئة،  مع الحرية والعدالة للجميع."  أما مبدأ الانتتخاب، الذي حصر ابتداء في الرجال البيض مشروطا بدفع ضريبة،  فقد عدل لاحقا ليشمل السود (1870)،  وعدل ثانيا ليشمل النساء (1920)، وعدل ثالثا ليلغي شرط دفع الضريبة لممارسة حق التصويت (1964).  وبغير ما تعديل دستوري أجيز حق التصويت للأمريكيين الأصليين عام 1924.

 

الرؤية الأولى:

 

لنعد إلى الأفكار التي قام عليها الكيان الفدرالي الموحد، والمصادرالفلسفية لتلك الأفكار، والتي من وحيها نظم هيكل الدولة، حددت سلطات الحكومة،  وكفلت حقوق وحريات المواطنين.  

 

فكرة الحقوق غير القابلة للنزع  الواردة في إعلان الاستقلال (4 يوليو 1776)  في العبارة المشهودة: " نحن نعتبر هذه الحقائق واضحة بذاتها، أن الناس جميعا يخلقون متساويين، أنهم يمنحون من خالقهم حقوقا معينة غير قابلة للنزع، أن منها الحياة، الحرية، والبحث عن السعادة ..." – اقتبست من الفيلسوف البريطاني جون لوك John Locke (1632-1704) الذي عد الحياة والصحة والحرية والملكية حقوقا طبيعية للإنسان غيرقابلة للنزع،  قائلا أن مبرر وجود أيما حكومة يكون بحمايتها هذه الحقوق، وبغياب الحماية يغيب المبرر.  نلاحظ هنا أن الوثيقة الأمريكية تبنت من جون لوك الحياة والحرية كحقين غير قابلين للنزع، لكنها لم تعتبر الصحة حقا بذاتها، واستبدلت  حق الملكية بحق أوسع: حق " البحث عن السعادة ". وكما فعل لوك، أقرت الوثيقة الأمريكية كون الخالق مانح تلك الحقوق.

من  جون لوك،  ثم من جين جاك روسو Jean Jacques Rousseau (1712-1778) جاءت فكرة الفصل بين الكنيسة والدولة، إلا أنها قرنت في التعديل الأول للدستور مع فكرة حرية ممارسة شعائر الدين، بحيث غدت الفكرتان في تلازمهما كفتين متوازنتين في معادلة تحظر على الكونغرس مطلقا  سن أي قانون يؤسس دينا  للدولة، أو يحد من حرية ممارسة شعائر أيما دين.

من  جون لوك أيضا جاءت فكرتان أخريان:  فكرة الموازنة والمراقبة بين سلطات الحكم، وفكرة اعتبار الثورة على الحكومة ليس حقا للشعب فحسب، بل واجبا عليه إذا أخلت الحكومة بعهدة الحكم.  وقد اطرت هذه الفكرة الأخيرة في الدستور في إجرائية رفع الطعن impeachment  من قبل مجلس النواب ضد الرئيس ونائب الرئيس ومسؤولين مدنيين آخرين في حالات الخيانة أو الرشوة أو جرائم أو جنح خطيرة أخرى، انتهاء  بالعزل  إذا ثبت الطعن وأدين المتهم  في محاكمة تجرى له بمجلس السنات Senate  تحت إشراف رئيس المحكمة الفيدرالية العليا. . 

 

فكرة تقسيم الحكم إلى سلطة تشريعة وأخرى تنفيذية وثالثة قضائية جاءت من الفيلسوف الفرنسي تشارلس مونتيسكيو Charles Montesquieu (1689-1755) الذي قال: إذا اجتمع أي اثنتين من هذه السلطات الثلاثة بيد شخص واحد، فإن طغيانا سيحدث، لذا يجب الفصل بين السلطات الثلاثة درأ لحدوث طغيان.  وقد أقرالدستور الأمريكي مبدأ فصل السلطات بتحديد مهام كل سلطة على حدة،  ثم ربط حسم  أي أمر وطني هام بحصول الموافقة عليه من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية معا حسب ترتيب دستوري محدد.  وقد استنبطت المحكمة الفدرالية العليا من مضامين الدستور لاحقا، دون أن تنازع (1803)، أن الدستور يمنحها صلاحية نقض أي تشريع تجيزه السلطتان الأخريان إذا ما وجدت (المحكمة) التشريع المجاز متعارضا مع الدستور.  وقد سمي هذا المبدأ  ب"المراجعة القضائية"   judicial review 

 

أن السيادة للشعب، وأن الحكومة توجد لتخدم الشعب، لا العكس،  فكرة تواردت لدي جون لوك  وجين جاك روسو على نحو متقارب.  قال روسو أن السيادة للشعب، يأتمنها لدى الحكومة عندما يبرم  معها عقدا اجتماعيا  على صيانة الحرية وتحقيق الصالح العام،  وله ( الشعب) أن يستردها عند إخلال الحكومة بالعقد.  أيضا من روسو جاءت عبارة: " يولد الناس جميعا متساوين " تلك التي نقلها توماس جيفرسن حرفيا إلى إعلان الاستقلال، والتي استند إليها الرئيس أبراهام لينكولن (1861-1865) في قرار إلغاء الرق وعتق الرقيق.  في نسق متماثل آخر مع  لوك، دعا روسو إلى حصر وظيفة الدين في مجال القيم  الأخلاقية.  أما في غير ذلك فدعا إلى اعتماد منظور فكري متسق مع العلم المستكشف دأبا سنن الطبيعية وحقائق الكون. 

 

هكذا، إذن، إجمالا، جاء البناء الدستوري الأول للخبرة الأمريكية،  مقوما بأفكار مقتبسة في جلها من التنظير الفلسفي الأوروبي، أضيفت إليها، في وقته ولاحقا، أفكار تبلورت من نظرأمريكي ذاتي، كفكرة التمتع المتكافئ بحماية القانون، فكرة المراجعة القضائية،  فكرة دستور مكتوب قابل للتعديل وفق إجراءات معينة، فكرة تحقق المواطنة الأمريكية بمجرد المولد على الأرض الأمريكية دونما اعتبار للنسب أو لظروف الميلاد،  فكرة نبذ ألقاب ارستقراطية، وأفكار أخرى تتعلق بالحقوق الشخصية والحريات المدنية.

 

ملاحظتان:

أستدرك هنا،  قبل أن استطرد،  نقطتين:  ألأولى، أن هذه الأفكار، أو معظمها، على نحو أو آخر، وردت في أدبيات أمم أخرى.  في المنظور الإسلامي تحديدا نجد أفكارالشورى، المساواة، التمتع المتكافئ بحماية القانون، وخلع الحاكم عند الإخلال بعهدة الحكم  واردة بوضوح.  كما نجد حقوق الحياة، الحرية، الملكية، وإسعاد النفس بطيبات الحياة مؤصلة في القرآن الكريم.  لكن الفارق يكمن في أمرين: الأول: أن الدولة الأمريكية قامت على دستور لم يكتف بتأصيل هذه الأفكار والحقوق، بل أوجد مؤسسات حيوية تحمي هذه الأفكار والحقوق،  وتعمل تباعا على تطويرها.  والثاني: أن الخلف من الأمريكيين حافظوا على جوهر ما وضعه السلف، ثم طوروا ترجماته السياسية والمدنية إلى ما هو أوفى وأحسن.  بذلك كتب للدستور أن يبقى الوثقية الحية الحاكمة للحياة الوطنية، وهُيئ للأمة في ظل الدستور أن تتمتع باستقرار وتواصل التقدم، وأمكن للدولة تحت مرجعية الدستور أن تتوسع مساحة وتكبر تعدادا وتستوعب تعددية ثرة في الثقافات والأديان والأعراق.أن أن

 

النقطة الأخرى هي أن هذه المبادئ عالمية لا خصوصية للخبرة الأمريكية فيها إلا بقدر ما تبنتها  في إعلانها الاستقلال،   تنظيمها الدولة، وضمانها حقوق وحريات المواطنين.  كما لا خصوصية فيها للفلسفة أو للدين، فكلاهما من منظوره المتميز شخّص وأقر الحرية والمساواة  والعدل والكرامة  مبادئ عامة وحيوية لسلامة الإنسان، صلاحه، ونمائه.  بتعبير آخر، أيا تكن المرجعية، علمانية أو دينية،  أو رؤية وسطا مابينهما،   المحتكم بين الناس في المؤدى الأخير - القاسم الحضاري المشترك إن شئت -   هو هذه المبادئ.  أما  معيار الجدارة ما بينهم،  أفرادا  وأمما،  فهو مدى الإلتزام بهذه المبادئ وترجمة مضامينها،  تنظيرا  وتطبيقا،  في الواقع المعاش.

 

الرؤية الثانية:

وماذا عن الرؤية الفلسفية الأخرى التي برزت بعد قرن من هذه الرؤية الفلسفية الأولى، فأولت الخبرة الأمريكية  دفعا جديدا حقق تفوقا  وُسم به القرن العشرين بالقرن الأمريكي؟  ما محتوى ووجهة تلك الرؤية اللاحقة التي شخصت كفلسفة أمريكية ذاتية، متمايزة عن فلسفة التنويرالأوروبية التي تشكل من أفكارها، كما رأينا، البناء الدستوري الأول للأمة؟

 

دعنا أولا نستطلع باختصارالظرف التاريخي الذي ابتعثت منه الرؤية الثانية.  على أثر الثورة الصناعية في إنكلترا (750- 1850) جاءت الثورة الصناعية في الولايات المتحدة مبتدأة بعد عقدين من انتهاء الحرب الأهلية (1861-1865) وممتدة في الربع الأول من القرن العشرين.  الرؤية الفلسفية الجديدة جاءت عاكسة للتقدم الذي تحقق على أرض  الواقع  إبان تلك العقود.  من عملية إعادة تعمير الجنوب، إلى مد سكك الحديد عبر القارة، مرورا باختراع الهاتف ولمبة الإضاءة وبناء أولى ناطحات السحاب وتصنيع سفن حربية من حديد، وتطويرمعدات وأساليب صناعية وزراعية عديدة ضاعفت قدرات الإنتاج،  وعلوم تنامت في جامعاتها المستحدثة ... من زخم ذلك كله استشعرت الأمة الأمريكية في ذاتها نبضا جديدا دافعا بها إلى صنع مستقبل دون سقف.

 

عام ألف وتسعمائة،  كانت الولايات المتحدة قد غدت خمسة وأربعين ولاية، بلغت تعدادا يزيد عن  ستة وسبعين مليونا، ولها ميزانية سنوية تقارب ستمائة مليون دولار.  كان المجتمع يزخر بنشاط فكري وعملي متنام  ومتطور: أفكار تتنافس وجهود تتزاحم  وعلوم تتفتق وطموح يحدو الناس إلى استصلاح أرض شاسعة، واستثمار موارد جمة، وبناء حياة موفورة لأنفسهم ولذرياتهم في هذا العالم الجديد.  كان من الأفكار ما تثمر وأخرى لا تثمر، ومن الجهود ما تنجح وأخرى تفشل، ومن الأبحاث العلمية ما يصيب هدفا نافعا وما لا يصيب.  من معايشة هذا المناخ الواعد بمزيد من التقدم واليسر المعيشي من جهة، والمطالب بممارسة مزيد من الدقة والإتقان في الفكر والعمل من الجهة الأخرى، صاغ تشارلس ساندرس   بيرس Charles Sanders Peirce (1839-1914) رؤية فلسفية رائدة في مقال بعنوان: " كيف تجعل أفكارك واضحة"  نشره  في مجلة  Popular Science Monthly  عام 1878.

 

تشارلس بيرس:

كان بيرس عالما بارزا في الفيزياء والرياضيات، وفيلسوفا معنيا بتطور العلوم.  كان مقاله موجها أصلا إلى نظرائه من العلماء، يحثهم على اتباع قاعدة في البحث العلمي تقول بأن قيمة أيما مدرك عقلي تكمن في الأثر العملي الذي ينتجه في التطبيق.  بعبارة أخرى، أن ترابطا عضويا يوجد بين التنظير والتطبيق، وأن جدارة أيما تنظير تقاس بما يفرزه من آثار مدركة حسيا في سياق التطبيق.    قال أيضا أن علاقة غير قابلة للفصم توجد بين الإدراك العقلي والإغراض العقلي، وكذا بين الفكر والفعل، فمثلما يفكر المرء يفعل،  وحيثما  يترسخ  فكر معين، على صواب أو على خطأ،  فإنه ينتج  نمطا  متطابقا من المسلك، على صعيد فرد أو مجتمع..

سمى بيرس مذهبه الفلسفي هذا ب pragmatism، مستعيرا اللفظ من الفيلسوف الألماني إمانيوءل كانط  Emanuel Kant  (1724-1804) الذي استعمله في مقاله الشهير Critique of Pure Reason  للتمييز بين مفاهيم قابلة للتحقق منها بالتجريب، وأخرى يسلم بها تسليما لامتناعها على التحقق منها بالتجريب.  بذلك عرف بيرس المذهب البراجماتيكي بأنه منهج في النظر يؤدي إلى توضح الأفكار من خلال  تتبع الآثارالعملية المتحققة من أيما فكرة أثناء  وضعها موضع التنفيذ.     

 

لعشرين عاما ظل المذهب البراجماتيكي هذا، كما عرفه ودعا إليه بيرس، معاشا في الواقع ومعافا في التنظير، إلى أن تبناه وليم جيمس  (1842-1910) William James في محاضرة مشهودة له بجامعة كاليفورنيا عام 1898.  في طرحه، وفي كتابات لاحقة، أضفى  جيمس  على المذهب البراجماتيكي بعدا آخر بالقول أن الأفكار الصحيحة تستبطن احتمالات نافعة من حيث أنها تؤدي في سياق التطبيق إلى اتساق فكري وقدرة على استبصار العواقب باستعمال منطق سليم.   

 

وليم جيمس:

نشأ وليم جيمس في أسرة علم، تحت أب فيلسوف وعالم لاهوت، ورفقة أخ كاتب وروائي.  درس الطب  بجامعة هارفرد، لكنه بعد أن تخرج مال لعلم النفس فتبحر فيه، ثم مال للفلسفة فتمكن منها،  ثم درّس العلمين في هارفرد.  كتب عنه أن جمعه بين هذه العلوم الثلاثة – الطب، علم النفس، الفلسفة - أولاه سعة في النظر وقدرة على استيعاب توارد الأبعاد البدنية والروحية والفكرية والعاطفية في الحال الإنساني في آن واحد. 

 

اعتبر جيمس البراجماتيكية منهجا لحل المشاكل عن طريق استجلاء الحقائق بالاختبار العملي.  رآها أيضا مذهبا  متطورا من المذهب الإمبيريكي  empiricism – الفلسفة البريطانية التي اعتمدت المنهج العلمي في استقراء الحقائق، معارضة بذلك  الفلسفة العقلالية الأوروبية  continental rationalism  بنفيها ما ادعته الأخيرة من وجود أفكار فطرية innate ideas   يُخضع لها الإنسان سائر الأفكار المتولدة  لديه من خلال الخبرة الحسية.

 

نشأت الإمبيريكية من أفكار فرانسيس باكون  Francis Bacon (1561- 1626)  في مطلع القرن السابع عشر، ثم طورت بأفكار كل من جون لوك، الذي نفى وجود أفكار فطرية في وعي الإنسان،  قائلا  أن العقل يولد صفحة بيضاء يتسجل فيه لاحقا محصول الخبرة المعاشة بالحواس،  وجورج بركلي   George Berkeley (1685 – 1753)، القس الذي ذهب إلى أن لا وجود لأيما شيء إلا من حيث وجوده في الإدراك الذي يستمده الإنسان – حسب تعبيره - من العقل الكلي وهو الله،  وديفيد هيوم David Hume (1711 – 1776)، الذي جارى بركلي بالقول بأن لا  دليل على وجود الأشياء في حد ذاتها على نحو مستقل،  وأن كل ما نعلم عنها هو من حيث وجودها في  الذهن  فحسب

 

رأى جيمس المنظور البرجماتيكي والمنظور الإمبيريكي  the pragmatic and empirical perspectives   متماثلين من حيث عزوفهما معا  عن نظريات تجريدية ومبادئ مطلقة أو ثابتة، واعتمادهما معا الحقائق والأفعال والمفاهيم النسبية، وبذلك اعتبر الفلسفة البراجماتيكية  بنتا طبيعية للفلسفة الإمبيريكية، ربما أكثر راديكالية من الأم.

 

 من وجه آخر، اعتبر جيمس الفلسفات تعبيرات فكرية لا تخلو من تأثر بالمزاج الشخصي لأصحابها،  ومن ثم  قسم الرؤى الفلسفية إلى رؤى لطيفة وأخرى غليظة، مقابلا الرؤية العقلانية (المنطلقة من المبادئ)  بالرؤية الإمبيركية (المنطلقة من الحقائق)، الرؤية المثالية بالرؤية المادية، الرؤية التفاؤلية بالرؤية التشاؤمية، الرؤية الإيمانية بالرؤية الإلحادية، الرؤية الوحدوية بالرؤية التعددية، الرؤية التسليمية بالرؤية التشكيكية، الرؤية الاختيارية بالرؤية الجبرية.  ولاحظ  أن الإشكال في هذه الرؤى المتقابلة أنك تجد فلسفة أمبيركية فقيرة في روحانية الدين، ومقابلها فلسفة دينية فقيرة في  حقائق العلم،  موحيا أن منظوره البراجماتيكي  يقدم رؤية وسطا هي أكثر إرضاء للعقل وإراحة للنفس.

 

لدى جيمس، النظريات أدوات يستعملها الناس لحل مشاكل عملية، لذا ينبغي أن تقيم النظريات من حيث قابليتها لإنتاج الآثار المرجوة منها –  أي أن جدارة النظريات يجب أن تقاس –  على حد تعبيره -  بالقيمة النقدية cash value التي تجلبها للصالح العام.  قال أيضا أن الخبرة المستمدة من الملاحظة والتتجريب هي مصدر العلم الحقيقي،  لذا الأجدى للإنسان أن يبني قراراته على ما يتعلمه حسيا، دونما اعتماد مسبق على تنظير عقلي أو مرجعية سياسية أو دينية.  وقد راجت هذه الرؤية أكثر فأكثر مع صعود العلم التجريبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي لا تزال رائجة وسط  معظم العلماء. 

 

وطور جيمس الفكرة التي غدت بمرور الوقت محور فلسفته البراجماتيكية والقائلة بأن ما تدعى "حقيقة"  في أيما فكرة قبل تجريبها في التطبيق ليس بأكثر من مؤشر مفيد لما قد تستبطنه تلك الفكرة في مجرى التنفيذ.  بعبارة أخرى، لا يجدر زعم وجود حقيقة ثابتة سلفا في أيما فكرة  قبل أن تختبر تلك الفكرة في التطبيق، إذ أن ما يظن أنها  "حقيقة" معرض للتغيير في مجرى التطبيق نتيجة تغيرالظروف وتطورالخبرة البشرية ذاتها.  وجدير بالذكر هنا أن منظور جيمس الميتافيزيائي، كان في سياق مماثل: فقد رأى أن العقل لا يمكن أن يحيط علما بالكون المحيط به، إذ أن الكون والعقل معا في تطور دائم:  بمعنى آخر، حقيقة الكون وحقيقة العقل سويا في تكون مستمر، وما لم يكتمل شيء في تكوينه لا توجد حقيقة ثابتة في وضعه، وهذا الحال –  حال الصيرورة المستديمة -  يسري على الأشياء كلها في الوجود.    

 

جون ديوي:

بعد وليم جيمس، أضفى جون ديوي (1859-1952)، وهو مربي وعالم نفس وفيلسوف، بعدا آخر على المذهب البراجماتيكي.  فإضافة إلى تأكيد منهج التحقق بالاختبار العملي، كما فعل كل من بيرس وجيمس قبله، أولى ديوي أهمية خاصة للعاملين السايكولوجي والمنطقي في صياغة المنظور البراجماتيكي: ألأول من حيث اعتماد السايكولوجيا على علم الأحياء لتفسير ظاهرة الوعي، والثاني من حيث تسليم المنطق العقلي بصحة ما يقرره العلم بالتجريب العملي. 

 

لدى ديوي أن الإدراك الصحيح لأمر ما يوجه المدرك إلى تلمس الوسائل والأدوات الممكنة من التعامل الناجع مع ذلك الأمر.  إنه يرى، مع جيمس، أن العقل مدفوع بالغريزة إلى غايات مدركة في ذاته، وأن الأفكار وسائله الموصلة لتلك الغايات.  بتعبير آخر: الأفكار مطاطة وقابلة للتعديل لصالح غايات مطوية في رؤية العقل.

 

لم يرتح ديوي للأفكار الميافيزيائية، وحاول أن يدمج الخبرة الروحية  spiritual experience  ضمن الخبرة بالعالم الطبيعي، ملاحظا أن المعرفة العلمية تؤثر دأبا في صياغة القيم التي يستهدي بها الإنسان.  ولكي يؤكد قناعته بأن الخبرة الإنسانية كل لا يتجزأ، ابتعد عن تقسيمها إلى خبرة ذاتية   experience subjectiveوأخرى موضوعية objective experience أو إلى خبرة روحية وأخرى مادية.  كما أنه نفى أن تكون غاية العلم الاقتراب من حقيقة مجردة نهائية، قائلا أن للممارسة العملية دور في تكون العلم، وأن في العلم المتحقق بالتجربة تكمن صدقية الإدراك وكرامة العقل.  بذلك لم يقبل ديوي بمنطق "إما- أو"  نسبة إلى العلم والعمل،  وذهب إلىأن العمل المبصر بالعلم هو الوسيلة الصحيحة والناجعة لأحراز التقدم في جميع الأحوال. 

 

بذلك ركز ديوي في فلسفته على تعميم العلم وتطوير مناهجه وتحديث أساليب التدريس، قائلا أن التعليم الصحيح هو ذلك الذي يقدم معرفة حقيقية، يكرس روح المسؤولية، ويشجع على المبادرة العملية في وقت واحد، وأنه بذلك يكون أنجع وسيلة لإعداد جيل أحسن.  "لا قدر من فضيلة أو تميز خلقي سينقذنا من محن وكوارث  إذا افتقرنا إلى إدراك فطن للأمور"  كتب ديوي في إحدى مقالاته، مضيفا أن الجهل ليس غبطة، ignorance is not bliss : أنه بالأحري غيبوبة تجلب الاستعباد.  وقال: " بالإدراك الفطن فقط نستطيع أن نكون شركاء في صياغة مصائرنا."  وقد كان من تأثير أفكار ديوي التقدمية في التعليم أن تحول التركيز من "عملية التعليم" إلى "مهمة التعلم"،  ومن اعتبار التعلم إعدادا للحياة إلى اتخاذه جزأ جوهريا من الحياة.  بتعبير آخر، ليس العلم وسيلة لغاية أسمى، بل هو غاية سامية في حد ذاته.

 

فلسفة مُعاشة:

في مؤلفه المشهود " ديمقراطية في أمريكا" لاحظ الكاتب الفرنسي ألكسي دي توكفيل من خلال تجواله  في هذه الديار عام 1831-32 مستطلعا أحوال الناس، أن الأمريكيين أقل الأمم اكتراثا بالفلسفة، مع ذلك، فهم يفكرون ويتصرفون وكأنهم ينطلقوق من رؤية فلسفية مشتركة:     إنهم لا يرون لأنفسهم حاجة إلى أخذ الفلسفة من الكتب، ولا لتأطيرها نظريا، ففلسفتهم فيهم يعيشونها في واقع الحياة.  مع ذلك، هنالك معالم فلسفية معينة يمكن تشخيصها في مسلك الأمريكيين. إنهم يعزفون عن العادات والتقاليد، عن المسلمات الموروثه في الأسر، عن التعميم في الرأي،  ولحد ما أيضا، عن التحيز ضد الغير على أساس المنشأ الوطني.  في المقابل، هم يتعاملون مع التقاليد كصيغ اجتماعية تخبر عن رؤى أجيال خلت،  ويتخذون من الحقائق السائدة جسرا إلى اكتشاف حقائق جديدة تؤدي إلى ابتكارات أحسن.  مرجعيتهم في تقصي الأمور وفهمها ذاتية بحتة، تركيزهم على النتائج يطلق اجتهادهم في ابتكار الوسائل،  واهتمامهم بالجوهر يبعث لديهم اعتناء  بالشكل. 

 

الرؤية البراجماتيكية، كما وصفها دي توكفيل دون أن يلصق بها تسمية معينة، كانت هكذا معاشة في الخبرة الأمريكية قبل أن ينظرها بيرس، وجيمس، وديوي، وحين نظروها برزت  فلسفة إمريكية السمة والوجهة، مفارقة بين طابعها العلمي-العملي المتحرر من الماضي، المجتهد في الحاضر، والمنشد إلى المستقبل،  وبين الفلسفات الميتافيزيائية الأوروبية التي كانت لا تزال  تصطحب تنظيرات لم يعد لها أساس في العلم المتطور بالاختبار العملي.  نعم،  نشأت أمريكا مجتمعا متدينا تعم حياته طقوس المسيحية على نحو منظم ومصان،  لكن الأمريكيين سرعان ما أقاموا جدارا  فاصلا  بين الكنيسة والدولة، الأمر الذي يسر تطوير الحياة مدنيا بمعزل عن الدين،  ويسر،  في المقابل،  تثبيت  حرية المعتقد الديني بمعزل عن إدارة الشأن الوطني.

 

كان صدى البرجماتيكية بهذا المفهوم صدى أمة مهجرية تحاول تجاوز تبعية ماض مستعمر، تحاول شق نهج مستقل، تحاول القفز فوق إنجازات أوروبا الأم، تحاول التحرر والتفوق... صدى أمة بنت كيانها عمليا بفكر دستوري مستنير، اعتنقت العلم المحقق بالتجريب، واعتمدت النتيجة العملية معيارا لجدارة أيما فكرة أو تنظير.  وقد راجت في الخطاب الأمريكي تباعا، عاكسة هذه الرؤية العملية المتفائلة للأمور،  عبارة  show me  (أي: أرني  تطبييقا صدق ما تزعم نظريا)،  وعبارة  can do   (بمعنى:  سأبني  على الإمكان قبل أن أحكم  بالإستحالة).

 

أقدم ديمقراطية تحت أقدم دستور:

هكذا، إذن، بأفكار مقتبسة من فلاسفة التنوير بزغت الرؤية الأولى، واستقام البناء الأول واستطال:  بناء لا يزال قائما كما وضع، بدستور عدل سبعة عشر مرة بعد إضافة قائمة الحقوق Bill of Rights إليه منذ أكثر من قرنين.  بذلك أضحت الولايات المتحدة اليوم، مع حداثة نهوضها بين الأمم الكبرى، أقدم ديمقراطية تعيش تحت أقدم دستور مكتوب، مع أن  لفظ الديمقراطية لم يرد في الدستور .  هذا أيضا مع أن الأرض امتدت منذ التأسيس من المحيط إلى المحيط، والتعداد ازداد من 4  ملايين إلى 280 مليونا،  والتعددية حوت كل عنصر ودين وثقافة ولون،  والكيان استغلظ من ولايات مستضعفة تخشى أن يتخطفها المستعمر، إلى أعظم قوة في العالم.  أما التغيير بوجه عام، فيكاد لا يوجد في الحياة الأمريكية المعاصرة شيئ يشبه كثيرا ما كانت عليه الأشياء حين كتابة الدستور.

 

وهكذا، أيضا، بأفكار انبثقت من خبرتها الذاتية، بعد قرن من البناء الأول، بلورت أمريكا فلسفة  أولت مسيرتها وجهة مستقلة شُدت إلى المستقبل في ذهن كل مواطن سابق ومهاجرلاحق، وجهة قرنت الفكر بالفعل، والأمل بالعمل... وجهة ناشدت النفس أن لا تتلفت مترددة إلى الوراء، بل أن تتطلع واثقة إلى الأمام.

 

الفلسفة الأمريكية، إذن، تعكس الخبرة الأمريكية في تميزها الصميم،  والعكس صحيح.   لو كان مشروع الولايات المتحدة تنظيرا فحسب، لظل حبرا على ورق.  ولو كان تنظيرا أعقبه تطبيق خاطئ أو قاصر،  لنشأت ولايات متخاصمة معرضة للاستغلال بل والاستعمار من جديد، ولم ينشأ وطن موحد منيع.  ولو أسست هذه الأمة لنفسها دينا لاستثنت بقية الأديان، ولما حكمت بتشريع وضعي موحد  يسري على الجميع.  ولو أنشأت امتيازات ارستقراطية تعلي قلة على كثرة، لما استقام بها مبدأ تكافؤ الفرص والتساوي أمام القانون.  ولو تحجر الخلف من الأمريكيين في حدود ما وضعه السلف، لما نهضت أمة بهذا الوسع والاقتدار والتنظيم وقابلية تقدم مطرد.  ولو لم تطور الأمة نفسها بالعلم لما أبدعت، ولو لم تبدع لما غدت في مثل وضعها اليوم.  نعم كانت الولايات المتحدة فكرة  فغدت واقعا برهن براجماتيكيا جدارة الفكرة وقابلية تطويرها للأحسن في سياق تطبيق سليم.

 

وماذا في الغد؟     

كأيما أمة، أمريكا كانت وتظل تحت امتحان مستديم.  كأيما أمة، هي اجتهدت  فأصابت، واجتهدت فأخطات.  بقدر رجاحة اجتهادها في الأمس جاء  تقدمها اليوم، وبقدر رجاحة اجتهادها اليوم يكون تقدمها  في الغد.  على أنني  من خلال رصدي لخبرتها المعاصرة  منذ سنوات أرى أخطاء تتكاثر، وإزاءها قدرة على التصحيح تتناقص.  أرى نظاما في وسطه اضطراب تبطل إفرازاته السلبية كثيرا  من إيجابيات النظام.  أرى إهمالا متزايدا  يهبط بمستوى الأداء.  أرى تنافسا على السلطة غير شريف،  وتخاصما في السياسة يجهض كثيرا من إمكانات الوفاق حول الصالح الوطني.  أرى نهما  يحدو  بعضا على الإثراء على حساب سائر الناس.  أرى تغليبا لخصوصيات عرقية وأخري دينية على عمومية مواطنة مساوية بين الجميع.  أرى إضعافا للأسرة يتسبب في تفكك اجتماعي وتحلل خلقي.  أرى إسرافا في الاستهلاك يهدر المورد العام  ولا يحسن من نوعية الحياة.  وأرى سياسة خارجية هنا وهناك ينقصها نظر ثاقب، أو تنقصها صلابة في الحق.

 

على صعيد فرد أو أمة، لا يضير أن نخطئ،  فالخطأ أمر وارد   في أيما اجتهاد أو تصرف بشري: "هو لا يخطئ من لا يعمل" مثل شائع وصادق. ألذي يضير فعلا هو أن نتعمد الخطأ،  أو أن نكرره دون اكتراث، أو أن نفقد القدرة على تصحيح الخطأ، أو أن نرغب عن التصحيح.  إن خطأ لا يستدرك يتفاقم، وأمريكا أمام أخطاء تنتظر من مفكريها  وأولي الأمر فيها التدارك والتبادر إلى التصحيح.   سلامة الولايات المتحدة، على تميز وتفوق إنجازات أهلها في شتى المجالات،  مرتهنة بنفس ما ترتهن به سلامة سائر الأمم:  إنها مرتهنة  ليس بما هي تصيب فيه فحسب،  بل أيضا  بتصحح ما هي تخطئ فيه.   ذلك أن استحقاقات الحياة الحضارية – الحياة الطيبة، الآمنة، الموفورة معاشا، النامية علما، المترقية خلقا -  هي ذاتها في الخبرة البشرية على الإطلاق.  ذلك، أيضا، أن الطبيعة المتسقة أبدا مع مشية الله، الدافعة  دوما إلى  تحقيق الأوفي والأحسن في الخبرة البشرية، تطالبنا دأبا، أفرادا وأمما،  بارتقاء مطرد.  فإذا أستمررنا في الخطأ، وتقاعسنا عن التصحيح،  فهي قد تمهل لأجل، لكنها لا تمهل لإجل مفتوح.   *** 

* سفير سابق لعُمان في واشنطن

محاضرة ب"مركز الحوار العربي"

8 مايو 2002