في اللحظة التي كانت تدور فيها الكاميرات وتنقل خبر المؤتمر الصحافي العتيد الذي كان مقدّراً له أن يشهد احتفالاً بروتوكولياً تحت الأضواء وأمام أنظار الجمهور وكاميرات الصحافيين، فاجأنا الصحافي منتظر الزيدي بأن رشق رئيس أكبر دولة في العالم بحذائه، فتحوّل الاحتفال إلى فوضى عارمة وأصبح الحادث الخبر الأول في كل مكان، وضاعت معه وتبددت صورة فريق الحماية وبعض زملاء الزيدي الذين انهالوا عليه بالضرب المبرح وأمام أنظار العالم كلّه.
ولعل اللحظة نفسها مرّت بصمت حين رشق مجهولون عميد كلية طب الموصل الأستاذ الدكتور مزاحم الخيّاط بزخّات من الرصاص وأردوه قتيلاً، وفرّ الجناة كما هي العادة عندما يتعلق الأمر بالأكاديميين والإعلاميين والأطباء والمثقفين بشكل عام وبعض كبار الضباط والعسكريين بشكل خاص.
ورغم أني كنت أول من تحدث عن الصحافي منتظر الزيدي، مراسل قناة البغدادية التي كنت مديرها العام سابقاً، وذلك عبر حوار تلفزيوني مباشر مع قناة الجزيرة، حيث حددّتُ هويته وفسرّت ما قام به من رد فعل لأسباب شخصية ووطنية، بتغليبه هذا الجانب على الجوانب المهنية، وباختيار أسلوبه الخاص للاحتجاج، لكنني أحجمت وأنا القريب من منتظر الزيدي عن الكتابة عنه لعدة أيام، رغم أن الخبر هزّني من الأعماق وحرّك فيّ مشاعر متناقضة ما بين المهني والوطني وبين السياسي والقانوني.
وللحادثتين أكثر من دلالة، في الأولى تحوّلت الأنظار من الاحتفال إلى السخط، ومن الفرح الذي أراده الرئيس بوش والحكومة العراقية إلى الحزن، ومن المباهاة بالديمقراطية إلى الضرب المبرح، وفي الثانية فرّ القتلة ولم يسمع العالم بما حصل، لاسيما وقد أصبح قتل المتميّزين في العراق أمراً روتينياً، ولم تكشف الحكومة ولا قوات الاحتلال بحكم مسؤولياتهما عن أية نتائج تحقيق، في حين لم يمض سوى بضعة أيام وحتى قبل استكمال التحقيق تم تسريب معلومات إلى الإعلام، ومن جانب جهات لا علاقة لها بالقضاء، ولاسيما من رئيس مجلس الوزراء، عن اعترافات لمنتظر الزيدي، رغم أنه قام بتكذيبها على الفور عبر فريق محامي الدفاع عنه، مؤكداً عدم اعتذاره.
وإذا كان الطبيب الخياط قد انضم إلى قافلة طويلة من الضحايا تعدّ بالمئات من الأطباء، فإن أكثر من نصف عدد الأطباء اضطر إلى مغادرة العراق، حيث كان يبلغ عددهم حسب إحصاءات نقابة الأطباء أكثر من 34 ألفاً، وإذا كان هذا العدد يتقلص بعد الاحتلال حيث بلغت حسب الإحصاءات نسبة المهاجرين أو الذين تركوا المهنة بحدود 20 ألفاً، وقد اطلعت على إحصاء مثير لا أدري إن توفرت الدقة فيه، حيث ورد في بيان لجهة تُدعى مجلس الاستشاريين العراقيين أن نسبة الأطباء الذين قتلوا بعد الاحتلال بلغت %14، وهي نسبة تمثل طبيباً واحداً لكل سبعة أطباء، ورغم أن هذا العدد يبدو كبيراً حتى لو كان نصفه أو ربعه أو عشره، والعهدة على الراوي كما يقال، لكن عدد الذين قتلوا بلغ المئات، وهي أرقام فلكية بلا أدنى شك.
وقبل أربع سنوات (أي مطلع عام 2005) ألقيتُ محاضرة في بيروت ضمنتها معلومات جمعتها خلال زياراتي الأربع في حينها إلى العراق، كما استقيت بعضها من مصادر عراقية (رئيس رابطة التدريسيين العراقيين الدكتور عصام الراوي الذي التحق هو الآخر بقافلة الضحايا لاحقاً وكذلك الدكتور وميض نظمي) إضافة إلى مصادر بريطانية نقلتها صحيفة الإندبندنت، التي ذكرت أن نحو 200 أستاذ أكاديمي وعالم عراقي قتلوا، ولعل هذا العدد قد تضاعف لاسيما بعد الذي حصل من تطهير طائفي ومذهبي إثر تفجيرات مرقدي الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي في فبراير 2006 وما بعدها.
وإذا كان بإمكان كبار المسؤولين تلقي العناية الطبيّة في الخارج مثلما ذكرت الأخبار، فإنه ليس بإمكان أطفال العراق ونسائه وشيوخه والفقراء والكادحين بشكل خاص، تلقي مثل هذه العناية لا على حساب الدولة ولا على حسابهم الخاص، خصوصاً في ظروف العراق الاقتصادية والأمنية السيئة، بسبب عدم وجود مراكز طبية أو شحها أو عدم تمكنهم من دفع الأجور أو لعدم وجود الأطباء الذين اضطروا إلى الهجرة، وبغداد التي كانت تزخر بالأطباء الأكفاء وبالمستشفيات والمراكز الطبية المتقدمة أخذت بالتراجع بسبب الحروب، ثم خلال فترة الحصار الدولي، وأخيراً في ظروف الاحتلال وفيما بعد الهجرة.
إن الوضع الصحي في العراق ينذر بكارثة حقيقية، وذلك جراء التلوّث البيئي وعجز النظام الطبي، ناهيكم عن الجهل والمرض والفساد المالي والإداري والمحاصصات الطائفية والإثنية التي شملت حتى أجهزة وزارة الصحة أيضاً على حساب الكفاءة والحاجة، ولهذا عادت بعض الأمراض مثل الكوليرا (الهيضة) والرمد وأمراض البلهارسيا والسل كما تفيد تقارير لمنظمات طبية معتمدة، إضافة إلى أمراض جديدة مثل الإيدز وأمراض سرطانية زادت على نحو شديد، لاسيما بين الأطفال.
إن تدمير الكفاءة الأكاديمية والعلمية العراقية عن سابق إصرار، وبخاصة العقول والأدمغة التي اضطرت إلى الهجرة والتي هي أيضاً بحد ذاتها ثروة حقيقية تضاهي ثروات الموارد الطبيعية خصوصاً النفط والغاز وغيرها لاسيما إذا أخذنا جانبها الإنساني، يزيد من إدراك مدى الخسارة الفادحة التي شهدها العراق، ولعل تدمير الكفاءات العلمية والأكاديمية العراقية، إضافة إلى الأهداف السياسية والاقتصادية المباشرة، كان واحداً من أسباب ونتائج الغزو الأميركي للعراق، إذ لا يمكن ضمان ديمومة التقدم العلمي في العراق ورفاهية شعبه، في غياب هذه النخب اللامعة والكوادر المتقدمة، وإفراغ العراق من مخزونه الإبداعي والقيمي.
وقد اضطر المبدعون والأكاديميون والعلماء العراقيون إلى الهجرة أو النزوح تحت ضغط التهديدات المباشرة، وهكذا فإن عشرات الاختصاصات والكفاءات العلمية النادرة تركت مكانها الطبيعي واتجهت إلى المنافي البعيدة وابتعدت في أغلب الأحيان عن مجالات اختصاصاتها، ولا بدّ من التنويه هنا إلى أن محكمة «برتراند رسل» قامت بتوثيق أسماء العلماء والأكاديميين العراقيين الذين اغتيلوا في السنوات الخمس ونيف الماضية، وبمجرد قراءة الأسماء والاختصاصات وأماكن الميلاد، يمكن التوصل إلى استنتاج مثير وحاسم، أن العراق كان هو المستهدف وليس الدكتاتورية، فهؤلاء يمثلون الطيف السياسي والقومي والديني والمذهبي والإثني العراقي، وهم بحكم تنوّعهم يجسدّون نموذجاً للوحدة الوطنية العراقية، التي كانت مستهدفة، لاسيما بحكم المحاصصة الإثنية الطائفية، التي كرست انشقاقاً عمودياً في المجتمع العراقي، ما زال يعاني منه، بل ينزف بسببه.
كما أن هذا التنوّع والفسيفساء العراقية التي كانت مستهدفة تجعل المرء يفكر بأن هناك خطة استراتيجية واضحة يتم تنفيذها في جميع الحقول والقطاعات والميادين لإفراغ العراق من ثروته العلمية وعقوله وأدمغته وسعي محموم لإطفاء شعلة ما تبقى من مجتمعه الأكاديمي الذي عانى من حصار دولي جائر لمدة 13 عاماً ومن حروب عبثية ومغامرات داخلية وخارجية مدة زادت على ربع قرن من الزمان.
إن العلم غير محصور بطائفة أو قومية أو فئة، ولا يمكن تعويض الكفاءات العلمية بالشعارات والقرارات، ناهيكم عن أن هؤلاء العلماء يعبّرون بحكم انتمائهم للمجتمع العلمي العراقي عن هوية العراق وإرادته ووحدته، غير عابئين بالطائفة والجماعة أو المذهب الذي ينحدرون منه، بقدر إيمانهم بعلمهم وبالإنسان.
ألا تستحق هذه المعاناة التفاتاً من جانب من يعنيه استعادة العراق عافيته وسيادته وعقوله؟