من الأمور الايجابية الهامة التي برزت خلال الحرب العدوانية الصهيونية ضد أهل غزة ومقاومتهم الباسلة وبعدها، ظاهرة ارتفاع منسوب الاهتمام القانوني والحقوقي بملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة ومتابعتهم قضائياً أمام المحاكم الدولية، بل أمام المحاكم الغربية التي تجيز هذه المتابعة.
ولقد شكل اجتماع ممثلي 320 منظمة حقوقية ومعنية بحقوق الإنسان على مدى يومين في جنيف يومي 17 و 18 كانون الثاني ذروة هذا الاهتمام العالمي الذي شدد على عدم إفلات المجرمين من العقاب لا لمحاسبتهم على قتل وجرح الآلاف من المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ فحسب، بل لأن إفلات الصهاينة، ومعهم حلفاء لهم في واشنطن وغير واشنطن، من العقاب على مجازر وجرائم عديدة سابقة، كان دائماً عاملاً رئيسياً من العوامل التي شجعت قادة الكيان الصهيوني الإرهابي على اعتماد أسلوب القتل الجماعي بشكل متكرر على مدى ستين عاماً.
ومن دلائل فعالية هذا التحرك القضائي والقانوني هو القلق الذي يسود حكومة الكيان الإرهابي وتشكيلها لجان متخصصة لاستباق إجراءات الملاحقة، واعلانها عن توفير الحصانة القضائية لعسكرييها المشاركين في محرقة غزة بعد ان سعت لاخفاء اسمائهم وهو إجراء لم يكن معهوداً من قبل، بل أن الكثير من هؤلاء الضباط المتعطشين لسفك الدماء الفلسطينية والعربية، كانوا يتسابقون في إعلان "سجلهم العسكري الدموي" للاستفادة منهم في الوصول إلى المناصب السياسية بعد إحالتهم على التقاعد.
لكن الانغماس بأمور الملاحقة القضائية لمجرمي الحرب، يجب أن لا يقود المختصين من رجال القانون وحقوق الإنسان الى الاغفال عن ملاحقات من نوع آخر، وعن مقاضاة قد تكون أكثر بساطة وسهولة سواء على مستوى او على مستوى الإجراءات القانونية وفي المضامين.
الملاحقة الأولى: هي ملاحقة حكومة الكيان الإرهابي أمام المحاكم الدولية لإجبارها على تقديم التعويضات الكاملة للمتضررين وعائلات الشهداء من جراء عدوانها على غزّة اليوم، وعلى لبنان قبل عامين ونصف، كما لإجبارها على تحمل كامل المسؤولية في إعادة أعمار كل ما هدمته آلة الحرب والدمار التي كانت تديرها من تل أبيب.
وما يعزز إمكانية حصول مثل هذه الملاحقة أن الكيان الإرهابي الصهيوني ذاته قد تلقى منذ إنشائه قبل ستين عاماً ونيّف من الحكومة الألمانية نفسها مئات المليارات من الدولارات بحجة التعويض على الأذى الذي ألحقته المحرقة النازية بيهود لم يحملوا أصلاً "الجنسية الإسرائيلية" ولم تكن تربطهم بالكيان الإرهابي أي صلة لأن هذا الكيان لم يكن قائماً أصلاً أباّن حكم هتلر.
فلماذا ينجح الصهاينة في استثمار "عقدة ذنب" لدى حكومات ومجتمعات، هي في الأساس، لم تكن مسؤولة عن جرائم النازية، بل كانت أحياناً ضحايا لها، ولا ينجح الفلسطينيون واللبنانيون والعرب اليوم في الاستفادة من "عقد ذنب" متنامية ومتعاظمة لدى شعوب متحضرة تقدّم حكوماتها الدعم الكامل للكيان الصهيوني، وتساعده في ارتكاب الجرائم والمجازر.
وكي لا نذهب بعيداً، فالمثال العراقي ما زال ماثلاً أمامنا، حيث أجبر مجلس الأمن الدولي هذا البلد العربي المنكوب والمحاصر بعد عام 1991، أن يخصص، وعلى مدى أكثر من 16 عاماً، 30 % من موارده النفطية للتعويض على دول وأفراد ادعوا انهم تضرروا من جراء الحرب المدمرة التي واجهها العراق بعد غزو الكويت، والأنكى من ذلك كله أن حكومة الكيان الإرهابي الصهيوني قد طالبت بمليار دولار عن أضرار ألحقتها بها الصواريخ العراقية التي أطلقت باتجاه مدنها والتي لم يتجاوز عددها التسعة والثلاثين.
وعلى الرغم من أن اللجنة المختصة لم توافق على دفع المليار دولار للصهاينة، لكنها صرفت لتل أبيب 45 مليون دولار كتعويضات نال منها عشرة صهاينة فقط نصف مليون دولار، بذريعة أن الصواريخ العراقية ألحقت بهم أضراراً نفسية.
ويقال أن التعويض الحقيقي والكامل الذي حصل عليه الصهاينة كان عام 2003، من خلال حرب تدمير العراق، دولة ومجتمعاً وجيشاً وبنى تحتية ومرافق عامة ومتاحف ومكتبات وقدرات علمية، وهي حرب أرادت أن تخرج بالقوة بلداً بوزن العراق من الصراع العربي – الصهيوني، كما أخرجت بالسياسة والمعاهدات بلدان عربية ذات وزن كبير من ذاك الصراع.
أما الملاحقة الثانية: المتصلة بالجانب القانوني والقضائي والتي تشكل الوجه الآخر لمطلب إحياء المقاطعة الرسمية العربية ولمحاولة تفعيل المقاطعة الشعبية العربية للعدو الصهيوني ولكل الجهات الداعمة له، فهي ما يثيره دائماً الباحث الاقتصادي المعروف، عضو المؤتمر القومي العربي، الدكتور زياد الحافظ.
يقول الدكتور الحافظ أن أي مواطن فلسطيني أو لبناني أو عربي متضرر من العدوان الصهيوني (ما أكثرهم) يستطيع أن يلاحق قضائياً في بلاده أو في البلد المعني، أي شركة، أو جهة، تثبت مشاركتها في تمويل الكيان الإرهابي الصهيوني وحروبه العدوانية، باعتباره شريكاً ومتواطئاً في جريمة العدوان.
فالتلويح بهذه الملاحقات، وحتى قبل حصولها، سيؤدي إلى ارتباك شديد في أوضاع هذه الشركات والمؤسسات التي يجاهر بعضها بتخصيص جزءٍ من موارده لصالح الكيان الإرهابي، كما جرى مع بعض المطاعم العالمية والمقاهي التي اعلنت عن تخصيص ارباحها على مدى اسبوعين لصالح الحرب الصهيونية على غزة منطلقة في استخفافها برد فعل العرب والمسلمين مما تعتبره لا جدّية الدعوات العربية إلى المقاطعة، وأن الحماسة الشعبية العربية، كالمشروبات الغازية، تفور لوقت قليل ثم تهدأ.
وقد تتوسع الدعاوى القضائية لتشمل أيضاً الحكومات التي تموّل " جيش الحرب الصهيوني" بالأسلحة الفتاكة والمحظر استعمالها دولياً باعتبارها شريكة في جريمة الحرب والإبادة الجماعية، خصوصاً أن بعضها كالحكومة الأمريكية وحكومات دول غربية، لها ملفات مثقلة بقضايا جرائم الحرب والتعذيب والاختطاف ألقسري والإيذاء بكل أنواعها وغيرها من الارتكابات المنتهكة للقانون الدولي الإنساني ولكل المواثيق والاتفاقيات المتصلة به.
إن جبهة قانونية وقضائية كاملة ضد الكيان الصهيوني ينبغي أن يفتحها الفلسطينيون والعرب وكل أحرار العالم ومحبي الإنسانية في العالم، وهي جبهة ذات فعل تراكمي تظهر نتائجه وأثارها يوماً بعد يوم، بل أنها جبهة تتكامل مع كل الجبهات الأخرى الميدانية منها، والسياسية، والاقتصادية، والدبلوماسية، والإعلامية، والثقافية، والتربوية، والبيئية، فهي تتغذى من كل تقدم تحققه في الجبهات الأخرى، كما أنها تغذي بتقدمها كل جهد نبذله على تلك الجبهات.