شكّل الاعلام دائماً
ركيزة هامة من ركائز "استراتيجية الحروب
الاستباقية" التي اعتمدتها جماعة
المحافظين الجدد في واشنطن وحلفاؤهم في تل
ابيب انطلاقاً من قناعة هؤلاء أن الحرب
تحسم اعلامياً قبل أن تحسم ميدانياً، ولقد
بالغ مهندسو الحرب الأمريكية على العراق
في الاعتماد على هذا الامر الى درجة أن
البنتاغون قد قرر عشية الحرب على العراق
تشكيل دائرة خاصة اسماها "دائرة التضليل
الاعلامي" ليعود فيغير الاسم، بعد ضجة
كبيرة اثارها، ليصبح لها اسم آخر اقل
اثارة، وفي الحالتين رصدت ميزانية ضخمة
لعمل هذا الجهاز.
ولقد اعتمدت هذه
الاستراتيجية الاعلامية، وتوأمها نظرية
"الصدمة والرعب"، على مراحل ثلاث قبل شن
الحرب اولها قصف اعلامي يستهدف التركيز
على اسباب للحرب، غالباً ما تكون مختلقة
وكاذبة كما اتضح بعد الحرب على العراق،
كما على شيطنة "العدو" المنوي محاربته،
وثانيها العمل بمختلف الوسائل على زعزعة
الجبهة الداخلية سواء بتضخيم الثغرات لدى
الجهة المستهدفة أو بإثارة كل انواع
العصبيات المتناحرة الموجودة وبشتى
الاساليب، وصولاً الى اعطاء الحرب رسالة
اخلاقية وانسانية وديمقراطية تجعل من
الشاهد أو المستمع أو القارئ تواقاً
الى وقوع الحرب، لكي تنقله من "جحيم
الاستبداد" الى "نعيم الحرية"، ومن "جحيم"
العوز والحاجة الى "نعيم" الرخاء والرفاه،
ومن "جحيم" الكابوس العربي والاسلامي
الى "نعيم" الحلم الامريكي.
اما بعد اندلاع الحرب،
فتعتمد هذه الاستراتيجية على احلال
الصورة مكان الحقيقة، باعتبار أن ما يتركه
الاعلام في ذهن المواطن من انطباعات يبقى
اهم من الحقيقة الحقيقية التي قد تحتاج
الى وقت لاكتشافها، ولخدمة هذا الهدف لا
بد من صحفيين يمتطون الدبابات الأمريكية
مع طواقمها ويعيشون مع جنودها، ولا يعرفون
من الاخبار الا ما توصله القيادة العسكرية
لهم ولا ينشرون منها إلا ما تسمح به هذه
القيادة، فينتقل الخبر أو الصورة من
الدبابة أو غرفة العمليات الى العالم
بأسره عبر شاشة متعطشة لأي خبر، اما
الصحفيون الذين لا ينضوون تحت لواء
الحملة فيصبحون بالمقابل ضحايا للانتقام
والقتل مثلهم مثل ابناء الشعب المستهدف
بهذه الحرب.
وهكذا رأينا بغداد
"تسقط" بيد الاحتلال، فيما لم تصل دبابات
المحتل ومدرعاته إلاّ الى ساحة الفردوس،
ورأينا تمثال الرئيس صدام حسين يسقط في
تلك الساحة على يد جماعة تم استئجارها على
يد شركة علاقات عامة، كما اتضح لاحقاَ،
وسمعنا أيضاً أن هذا الرئيس نفسه قد امتطى
مع عائلته واركان حكمه طائرة روسية ضخمة
حطت بشكل "مفاجئ" في مطار بغداد، لنكتشف
بعد ايام انه كان ما زال في حي الاعظمية
في بغداد لحظة اسقاط تمثاله، وانه بدأ
يتنقل بين المدن والبوادي العراقية فيما
كان الجميع يتوقعون ظهوره في موسكو.
لقد كانت "الصدمة
والرعب" هو مفتاح العملية العسكرية، وكان
"التضليل والكذب" مفتاح العملية
الاعلامية.
ولست ادري من علّم الآخر
هذه الاستراتيجية، أهم الحاكمون في تل
ابيب، وقد اتقنوها منذ حرب 1948، أم
حلفاؤهم الذين تسللوا الى حكم الولايات
المتحدة وفي يدهم "استراتيجية القرن 21:
القرن الامريكي"، لكن المؤكد ان تل ابيب
كانت تستخدم الاعلام بشدة وذكاء في كل
حروبها، بل أن فرقها الاعلامية كانت تتقدم
احياناً فرقها العسكرية لكي تنقل انباء
سقوط منطقة قبل سقوطها الفعلي، واستسلام
قوة قبل أن تستسلم بالفعل فيما سمي
"بالحرب النفسية" التي كان الصهاينة
يتقنونها.
لكن الأمر في الحرب
الصهيونية على غزة كان مختلفاً تماماً،
فلم يسمح لاعلامي، اياً كانت جنسيته، أن
يتحرك في مناطق العمليات ابداً، ولم تخرج
الى العالم صور "توغل" المدرعات الصهيونية
الا بعد حين، ولم توزع صور المواقع
المقصوفة جواً، والتي تلتقطها عادة
الطائرات فورياً الا بعد دراستها بدقة، لا
بل أن الهواتف المحمولة قد سحبت من الضباط
والجنود على حد سواء كي لا يتسرب منهم خبر
الى اهلهم يسيء الى معنويات "الجبهة
الداخلية" كما يسمونها في المطبخ الحربي
في اسرائيل.
واذا كان البعض قد عزا
التعتيم الإسرائيلي هذا الى توصيات لجنة
فينوغراد (بعد الحرب الاسرائيلية الفاشلة
في لبنان عام 2006) التي اعتبرت أن
الاعلام قد لعب دوراً كبيراً في ارباك
الروح المعنوية للجنود، وان الاتصال
بالاهل قد أثار حفيظة هؤلاء فبدأوا
يتظاهرون لانهاء القتال، فان البعض الاخر
قد اعتبر أن مرد هذا التعتيم هو سيطرة
"الروح الانتخابية" على اهل الحرب في تل
ابيب، فهم كانوا يدركون محدودية التقدم
الذي ستحرزه قواتهم في غزة لكنهم يريدون
الايحاء للناخب الإسرائيلي أن حربهم تسير
وفق المخطط المرسوم لها.
وحين بدأت المرحلة
الثانية من الحرب، كما يقول اركان
الصهاينة، أي المرحلة البرية، وبات الجيش
الإسرائيلي على مرمى نيران المقاومين
المتحصنين من اهلهم في المدن والمخيمات،
وبدأ الاعلاميون في غزة ينقلون للعالم
المشهد الحقيقي: عجز صهيوني عن التقدم الى
داخل المناطق الآهلة، جنود صهاينة يسقطون
قتلى امام الكاميرا بفعل عمليات المقاومة،
كان لا يد من الانتقال الى المرحلة
الثانية من الحرب الاعلامية ايضاً، فكان
في استهداف مصور التلفزيون الجزائري باسل
فرج بالقتل أولاً، ثم استهداف منزل الصحفي
علاء مرتضى في حي الزيتون مما ادى الى
استشهاده ايضاً، ثم اعتقال مراسل تلفزيون
العالم خضر شاهين وزميله، ثم قصف "برج
الجوهرة" الذي يضم مكاتب 22 وسيلة
اعلامية منها المرئي والمسموع والمكتوب.
اذن لا بد من التعتيم
الاعلامي في الخندق الأخر من الحرب
ايضاً، خصوصاً أن صور المجازر الجماعية
البشعة، وصور الاطفال الشهداء والاطفال
الاحياء على صدور امهاتهم الشهيدات، قد
بدأ يهز الضمير الانساني ايضاً.
وهكذا في 15 يوما فقط،
فقد الجيش الإسرائيلي ركيزتين رئيسيتين من
ركائز "الاستراتيجية الحربية" التي علمها
لحلفائه في واشنطن، فلا "الصدمة والرعب"
ادت الى صدم اهل غزة عموماً والمقاومين
خصوصاً، ولا بالطبع الى رعبهم وهم الذين
يخرجون بالعشرات من تحت الارض لتفجير عبوة
أو اطلاق صاروخ أو قنص جندي صهيوني يظن
انه في مأمن، ولا "التضليل الاعلامي" نجح
في تغيير الوقائع على الارض، ناهيك عن
الفشل في تبرير الحرب ذاتها، وبدأت
العملية العسكرية برمتها تتهاوى في
اهدافها، في مسارها، وخصوصاً بعد أن اثارت
الخلافات داخل القيادة السياسية، وبينها
وبين القيادة العسكرية.
كان لا بد اذن من اللجوء
الى الانتقام والى حصد اكبر عدد ممكن من
الشهداء والجرحى، بين الاطفال والنساء،
فلعل هذا الشلال المتدفق من الدم يضغط على
قرار حماس وفصائل المقاومة فيحققون للعدو
وحلفائه بالسياسة ما عجز هذا العدو عن
تحقيقه بالحرب.
وكانت ذروة المأزق في
استصدار قرار دولي لا يحمل أي موعد أو
آلية لتنفيذ وقف النار فيه، بل تحوّل الى
مجرد "بيان رئاسي" بصيغة قرار دولي يحتاج
تفسير كل بند من بنوده الى معركة جديدة
حتى لا نقول"محرقة جديدة" من النوع الذي
وعدنا به قبل اشهر نائب وزير الدفاع
الإسرائيلي.
وبدا واضحاً أن لصدور
القرار 1860 على النحو الذي صدر به ثلاثة
اهداف رئيسية اولها اعطاء جيش الحرب
الصهيوني مزيداً من الوقت ليرتكب المزيد
من القتل وليشبع المزيد من شهوة الانتقام
من شعب قهره على مدى اربعين عاماً،
وثانيها لاشعال الانقسام الفلسطيني من
جديد حول الشرعية والتمثيل خصوصاً أن
القرار نفسه صدر يوم انتهاء ولاية الرئيس
الفلسطيني القانونية مما يفسح المجال
لمزيد من الجدل والخلاف والصراع بين القوى
الفلسطينية، وثالثها أن يخفف القرار
قليلاً من اللوم عن ادارة بوش الراحلة مع
امتناعها للمرة الاولى عن استخدام الفيتو
ضد قرار دولي يخص الكيان الصهيوني، وان
يخفف كثيراً عن ادارة اوباما القادمة
التي لا تخفي اوساطها أن عند الرئيس
الجديد الصامت حتى الآن، كابي الهول،
"كلاماً كثيراً" يقوله حول حرب غزة.
كان "الاعلام" صديقاً
وفياً في الماضي لاهل الحرب في تل ابيب
وواشنطن، وبات اليوم عدواً لدوداً محرجاً،
فماذا تغيّر... أهو الاعلام نفسه ام انه
الوهن الذي بدأ يتسلل الى البنيان
الصهيوني نفسه والذي يأبى اصحاب هذا
البنيان الاقرار به حتى الان.
بل هل انقلب السحر
على الساحر؟!
10/1/2009
|