يصطلي الشعب الفلسطيني في غزة بنيران
الأرمادة الإسرائيلية منذ السبت الماضي ،
ورائحة شواء الجثث المحروقة للأطفال
والنساء والشيوخ تملأ سماء الوطن العربي ،
بل وسماء العالم أجمع ، وتحت دخان الحراق
وهدير الطائرات ورجم الصواريخ وصراخ
الأطفال وعويل الثكالى تأتي التصريحات
العربية الرسمية لتزيد الجرح النازف عمقا
، تصريحات أقل ما توصف أنها لا مسئولة ،
تصريحات تخلو من الحس الإنساني منها " من
لم يسمع التحذيرات فليتحمل مسئوليته " ،
وآخر يقول " على الطرفين ضبط النفس " تعجز
الكلمات عن التعبير أمام هذا الحيف من
ذوي القربى " وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
".
ما يحدث في غزة حرب إبادة وليس حربا
بالمفهوم العسكري ، المقاومة الفلسطينية
بصواريخها المتواضعة هل يمكن مقارنتها
بطائرة إف 18 ؟ فضلا عن باقي السلاح
الإسرائيلي المتطور ؟ حرب الإبادة ضد
الفلسطينيين هي جريمة حرب تعاقب عليها
القوانين الدولية . أعجب حد الدهشة من
يساوي بين الضحية والجلاد ، أشلاء أطفال
فلسطين ضاقت بها أرض غزة للدفن ، فلم تعد
تحتمل جثثا أكثر ، غزة كما هو معروف
الأعلى كثافة سكانية في العالم، تجعل عدد
الضحايا أضعاف مما لو كانت أقل كثافة ،
فبيوت غزة متلاصقة ، مكتظة بساكنيها ،
فسقوط صارخ في بيت يعني إصابة كل من في
البيت وفي البيوت المجاورة ، لذا طبيعي أن
تلقى خمس شقيقات حتفهن مرة واحدة في بيت
فلسطيني ضربه صاروخ إسرائيلي .
تصريح ضبط النفس ؟ هو الأغرب ، أي توازن
عسكري بين شعب أعزل وأرمادة السلاح
الإسرائيلي المتطورة ؟
منذ بداية العدوان الإسرائيلي سمعنا "
الدعوة إلى انعقاد قمة طارئة للجامعة
العربية " سورية هي رئيسة القمة ، والذي
دعا إليها أمير قطر لتكون بالدوحة . ولم
تجتمع هذه القمة في الوقت الذي اجتمع فيه
مجلس الأمن ، ووزراء خارجية الإتحاد
الأوربي ، وآخرون في العالم لأجل غزة
ومهما كانت بياناتهم ، لكنهم اجتمعوا
وعبروا عن موقف واضح من حرب الإبادة في
غزة ، والقادة العرب ما زلوا بين أخذ ورد
، و" تشاور " أي تشاور تحت شلال الدم
الفلسطيني ؟ ترى هل ينتظر القادة العرب
الضوء الأخضر الأمريكي لعقد القمة ؟ لا
نستبعد ذلك ، فسبق لهذه القمة أن أعطت
غطاء عربيا لغزو العراق ، ومواقف مشابهة
لغزو لبنان وما بينهما جنين ،فهل يعقل أن
يختلفوا في هذه المشاورات على وقف إبادة
الفلسطينيين ؟ الساكت عن هذه المجزرة
كالمشارك فيها تماما أيها القادة العرب .
هذا التأخير باسم التشاور والسكوت يعني
تماما إعطاء فرصة أكبر لإسرائيل كي " تقضي
على حماس " وهي بالواقع تبيد
الفلسطينيين. ومن يقرأ الصحافة
الإسرائيلية يتأكد من الغطاء العربي
لإبادة غزة كما قال
قالت كرميلا منشيه المراسلة العسكرية
للاذاعة الاسرائيلية باللغة العبرية أن
الإتصالات الشخصية التي أجراها كل من رئيس
الوزراء ايهود اولمرت ووزيرة خارجيته
تسيفي ليفني مع المسئولين
العرب آتت أكلها في توفير الظروف المناسبة
للشروع في هذه العملية التي لم ينفذ مثلها
منذ العام 1967. واكدت
كرميلا أن
إسرائيل
استغلت حقيقة موقف الأنظمة العربية الحانق
جداً ضد حركة حماس من أجل توفير شرعية
عربية لعمليتها الواسعة، معتبرة أن "
الصمت العربي هو دعوة عربية رسمية صريحة
لمواصلة العمل ضد حماس في القطاع ".
ومجزرة غزة تستصرخ الضمير العالمي بحق
أبناء غزة بالحياة ، أين ضمير العالم
الغربي " المتحضر " الذي يرى أشلاء
الأطفال تتناثر بالصواريخ الإسرائيلية ،
وكم كان تصريح المستشارة الألمانية ميركل
" حماس تتحمل مسؤولية ما يحصل في غزة "
أترفع عن بذاءة الكلمة للرد على ممثلة
دولة متحضرة ، عانى شعبها من النازية بما
سببته من كوارث في أوربا ، تأتي السيدة
ميركل لتكّفر اليوم عما يتهمهم اليهود "
المحارق النازية " بأن تجيز اليوم محارق
إسرائيل النازية ضد الفلسطينيين . تماما
كما أجازت قبلها الآنسة كونديليزا رايس
وزيرة الخارجية الأمريكية قبل رحيلها من
البيت الأبيض ، وهي الملونة وتعرف أكثر من
غيرها معاناة الاضطهاد . هذه المواقف تعبر
عن رأي مهيمن على القرار الدولي ، الذي
يقود حربا كونية ضد ما يصفه بالإرهاب ،
وبهذا المنظور أصبح الكفاح لأجل الاستقلال
إرهابا ، وأصبح معها كل مقاومة لمحتل هي
إرهاب ، فالمقاومة العراقية إرهابا ،
والمقاومة الفلسطينية إرهابا ، والمقاومة
اللبنانية إرهابا ، والمقاومة الأفغانية
إرهابا ، وهكذا دواليك .
القادة العرب يدركون جيدا حجم تأثيرهم في
الواقع الدولي ، ويدركون جيدا أن
استمرارهم على عروشهم ، يكتمون أنفاس
شعوبهم لم يكن بمقدورهم البقاء لولا
مباركة أمريكية وغربية ، ويدركون أنهم لو
أتوا بأي موقف فيه " نيف وعزة نفس "
تجعلهم في محور الشر ، ولا يخرجون من هذا
المحور الملعون إلا بتوبة نصوحة .
أمام هذا الواقع ما الذي يؤمل من القمة
العربية ؟ أنا شخصيا لا أرى أنها قادرة
على اتخاذ موقف سياسي ، بل ستتخذ قرار
يؤكد أن الجامعة العربية أصبحت جمعية
خيرية ، سترسل المساعدات الغذائية والطبية
وتتوسل لإسرائيل كي توافق على مرورها إلى
غزة . طبعا مع بيان فيه الكليشيهات
المعروفة " التضامن ، ووحدة الموقف ،
والوقف الفوري للقتال وقد تتطور اللغة
الحماسية بالدعوة للوحدة العربية .. "
ويعتقد القادة العرب بهذا أنهم قاموا
بواجبهم إزاء غزة ، لكن أحدا من القادة
العرب لن يجرؤ على طلب تحقيق دولي بمجازر
غزة ، أو طلب من الأمم المتحدة محاكمة
مجرمي الحرب الإسرائيليين . طبعا هذا إذا
افترضنا أن القادة بموقف واحد من مبدأ
المقاومة . وهذا للأسف غير موجود البتة .
لنقلها صراحة ودون مواراة ، لم يعد عربيا
هناك خيار للمقاومة ، وبدأ شطب هذا الخيار
تأريخا منذ حرب تشرين 1973 التي فتحت
المجال للتسوية ، وخرجت مصر باتفاقية كامب
ديفيد ، ومؤتمر مدريد الشهير ، وما تمخض
عنه اتفاقية وادي عربة بين الأردن
وإسرائيل ، والفلسطينيين باتفاقيات أسلو
وما تبعها واي ريفر وصولا إلى " التهدئة "
برعاية مصرية، خرقت إسرائيل تلك التهدئة
153 مرة ، وحاصر العرب قبل إسرائيل سكان
غزة .
أتساءل هل بمقدور القمة العربية إن عقدت ،
أن تتخذ موقفا واضحا إزاء المقاومة ؟
وتجعل المقاومة خيارا إلى جانب الحلول
السياسية ، ولا نبالغ بتفاؤلنا لنقول "
خيار المقاومة الخيار الوحيد للاستقلال
كما فعل الجزائريون وأرغموا فرنسا للتفاوض
معهم " ، لسنا بالغباء الذي نعتقد فيه أن
الظرف الدولي الذي احتضن الثورة الجزائرية
هو نفسه الذي تعيشه المقاومة العربية في
العراق وفلسطين ولبنان ، الأمر مختلف
تماما ولا مجال للمقارنة ، لذا نضع
المطلوب من القمة في الحدود الدنيا " دعم
المقاومة مع الحل السياسي " ، وهذا يسحب
البساط من تحت قوة إقليمية كإيران تريد
أن توظف دعمها للمقاومة في حربها مع
الولايات المتحدة الأمريكية . وللأسف
العرب وقبل القمة بدلا من الاتفاق فيما
بينهم على هذا الحد الأدنى راحوا إلى
تركيا لتلعب دورا إقليميا " قاضي بين
العرب وإسرائيل " يغيظوا فيه إيران ،
موقف ينطوي على تداعيات سيئة للغاية على
للمنطقة ، تركيا السنية مقابل إيران
الشيعية ، والاصطفاف حولها ، وهذا يخدم
المخطط الأمريكي للمنطقة بتشجيع الهويات
الدينية والطائفية والإثنية ، وهي دون
هوية الوطن الجامع لهذه الفسيفساء التي
تزيده قوة ومنعة وثراء حضاريا لو كان لدى
العرب مشروع للمنطقة التي أصبحت نهبا
لمشاريع خارجية .
والحالة هذه أي آمال تعول على القمة
العربية ؟
وأخشى ما أخشاه ، إذا ما استمرت حرب
الإبادة ضد الفلسطينيين في ظل التواطؤ
والهوان العربي لا نستبعد رحيل من يبقى من
مقاتلي حماس خارج غزة ، كما رحل مقاتلو
المقاومة الفلسطينية ذات شتاء من ميناء
بيروت إلى أصقاع العالم .
- الجزائر 31 ديسمبر 2008
|