في الوقت الذي نعد فيه هذا البيان وصل عدد
القتلى في غزة نتيجة المجازر التي تقترفها
بحق شعبها قوات الاحتلال في الكيان
الصهيوني لما يزيد عن 350 قتيلاً وخمس
أضعاف هذا العدد من الجرحى. والأرقام ما
فتئت في تصاعد مطرد، مع ما يرافقها من
تخريب مخطط وتدمير ممنهج بضرب البنى
التحتية بما طال المساجد
والجامعة والمنازل وكل ما يستهدف المدنيين
بمن فيهم من أطفال وتلاميذ مدارس وعجائز
ونساء وطواقم طبية تحاول اسعاف الجرحى
ونقل المصابين، أي كل حي يتحرك أو لا على
الأرض وحتى في باطنها داخل الأنفاق
والمخابئ. يأتي هذا التصعيد بعد حصار جوي
وبحري وبري دام عدة شهور ومنع دخول
المساعدات الغذائية والدوائية ووصول
المراقبين والمتضامنين. الأمر الذي يذكرنا
ولو بشكل أكثر فجاجة في حضوره بما حدث من
مجازر سابقة في فلسطين، وبما حل بالعراق
بعد حصار طويل ومرير، وبحوادث ومحطات
عديدة باتت منطقة الصراع العربي
الاسرائيلي مثخنة بثقلها.
إن ما يحدث أمام مرأى ومسمع العالم هو بكل
معنى الكلمة انتهاك صارخ للقانون الدولي
الإنساني حسب اتفاقيات جنيف، بما يتضمنه
من إنزال عقوبات جماعية ضد المناطق
السكنية والمدنيين العزل، بمن فيهم رجال
الشرطة وحماية الأمن المشمولين بالقانون
الدولي كموظفين مدنيين. وهو جرائم حرب
وجرائم ضد الانسانية عن سابق إصرار
وتصميم، وإن كانت لا تنطلي على أحد حجة
الرد على الصواريخ التي تنطلق من غزة كما
يصورها اعلام غربي وحتى عربي متواطئ،
متناسياً أن المجرم مدان برده غير
المتناسب مع الهجمات التي تتسبب بها هذه
الصواريخ والتي ليست هي الخطر المحدق بأمن
الإسرائيليين وإنما من يرتكب هذه الجرائم
بحجة الرد عليها. فالدولة العبرية فعلت كل
شئ لتوسيع اعتداءاتها وقضم الأراضي وزرع
المستوطنات وتجاهل مبادرات السلام القائمة
على القبول بالحد الأدنى من قبل
الفلسطينيين، بالاعتماد أحياناً على تآمر
حكومات تزود اسرائيل بالمعدات الحربية
وأخرى تشارك بحصار غزة وتجويع شعبها
وإهلاك مرضاها وجرحاها.
العدوان على غزة غير المسبوق بوحشيته، وإن
أتى عشية انتخابات اسرائيلية يتسابق على
كسبها الطامعون بالمناصب واتخذ من الشرخ
الفلسطيني بين الأخوة وقوداً له، يبقى
حلقة من سلسلة تستهدف الإنسان والأرض في
فلسطين ومن ثمة شعوب المنطقة كافة. فتهويد
القدس جار على قدم وساق "لتنظيفها من
العرب" وتحويلها عاصمة للكيان الإسرائيلي،
وعرب الأراضي الفلسطينية المحتلة في 48
يتعرضون بدورهم لمخططات ممنهجة لكسر
مقاومتهم ولتصفيتهم تدريجياً بحيث لا
يكونوا مصدر قلق للمستوطنين في الكيان
الصهيوني (سيتبع هذا النداء تقريران
يلقيان الضوء على حقيقة الأوضاع بعد جولة
استطلاعية عدت منها للتو). أما فلسطينيو
الضفة الغربية فهم عرضة لكل أشكال انتهاك
حقوقهم واغتصاب أرضهم بما لا يترك المجال
أمام حل الدولتين ولا حتى لدولة تضم
فلسطينيين. ذلك في الوقت الذي يمنع
الاحتلال فتح ملف عودة اللاجئين من بلدان
اللجوء أو حتى المهجّرين داخل وطنهم،
بينما يقونن أوضاع كل من ينتقل للدولة
الصهيونية على أساس أنه يهودي الدين.
إن من يحاول انقاذ ماء وجهه أو رتق عذريته
من دماء الشهداء دون خجل، له أن يدرك أن
الشعوب تعلم الحقائق وتعرف أن التاريخ
يمهل ولا يهمل. فزمن محاسبة المجرمين على
جرائمهم قادم، بمن فيهم الذين يغطونها
بمبررات واهية أو يسايرون مرتكبي الجريمة
خوفاً من بطشهم، كما وأن خيار العصيان
المدني بات مبرراً لاستعادة الكرامة
المهدورة والحقوق المنتهكة. أما من علت
أصواتهم في الساعات الأخيرة للمطالبة بوقف
العدوان والوقوف يداً واحدة بمواجهة
المحرقة فقد كان عليهم، وهم الذين يفترض
أنهم يعلمون بالمخططات الموضوعة قبل أشهر
لدك مدينة غزة وبالنوايا المبيتة والدائمة
لقضم الأراضي الفلسطينية وتهجير سكانها
الأصليين، أن يعملوا على ترتيب البيت
الداخلي قبل حين وعلى عقد مؤتمرات حوار
وطني والانطلاق من وثيقة الوفاق الوطني،
وليس المساهمة في دق الأسفين بين أبناء
البلد الواحد المستهدفين زرافات ووحداناً
مهما فعلوا وحاوروا وناوروا إن استطاعوا
فعلاً المناورة.
إن شيطنة "من ليس معنا فهو ضدنا" باتت
معهودة للجميع وتذكر بمحطات كثيرة سابقة،
بما يحاول جعل ارهاب الدولة مبرراً على
قاعدة " قتل فرد جريمة لا تغتفر وقتل شعب
بكامله مسألة فيها نظر". وهذا بعينه هو
التعبير الحقيقي لخلفية ذهنية ونفسية
مريضة ولباتولوجيا معممة على صعيد شرائح
مجتمعية واسعة في كيان غاصب، وبخاصة من
يتولون منهم مقاليد الحكم ويقتاتون من
دماء الأبرياء وعذابات الضحايا. والأنكى
من ذلك، ليس فقط أنهم يحمّلون المسئولية
كاملة فيما تقترف يداهم من جرائم لضحاياهم
وفي غياب كامل لشعورهم بالمسئولية الشخصية
في ما يجري، وإنما عندما يعتمدون كذلك على
أطراف من هؤلاء الضحايا أنفسهم لتبرير
وتمرير مخططاتهم العدوانية الجهنمية
واستعمالهم وقوداً مشروعة لارتكاب
فظائعهم.
يفترض بعد كل ما نرى ونسمع عن المجازر
المتلاحقة بحق الشعب الفلسطيني أن يكف
الصامتون والمهادنون والخائفون والمدجنون
عن القيام بالدور المرسوم لهم ضد مصالحهم،
وعدم تجرع الكذبة الكبرى التي ستودي
بفلسطين على مراحل ومن خلال جرعات
متتالية، بالاستيلاء على مقدرات وثروات
وأرض شعب حوصر وشرّد وهجّر القسم الأكبر
منه، وعبر دق الأسافين بين أبنائه
استناداً لذرائع إيديولوجية ونعرات
تقسيمية بحيث ينهار البنيان من داخله
وتتعثر مقاومته وتصفو الأرض للغزاة. لكن
هؤلاء الصامدين المقاومين الذين يكتبون
التاريخ بدمائهم ودموعهم ما زالوا يتصدون
لمحاولات قلعهم من جذورهم وكي لا يشردوا
مرة أخرى من أرض آبائهم وأجدادهم رغم
تعرضهم لحملة إبادة جماعية.
ازاء هذا الوضع اللانساني واللاقانوني بكل
معنى الكلمة من المطلوب تحريك الضمير
النائم، قبل أن يصل النخر لداخل الجسم
فيجعله عليلاً ثم يرديه قتيلاً بعد أن
يقتات السرطان المنتشر من خلايا الجسم
نفسه. والوسائل لرفض المساومة على الحقوق
ومقاومة الاحتلال متعددة، حيث بمعزل عن
المقاومة المسلحة التي لها مسانديها
ومستندها، هناك أشكال مركزية وضرورية
للمقاومة المدنية من توظيف للعقل والعمل
والعلم والكلمة والمال والاعلام وتجمعات
الضغط والتأثير في شارع غربي مخدر
بالأكاذيب. حذار من التواطؤ بالصمت عما
يجري بحق الشعب الفلسطيني ومن محاكمة
الضمير البشري بجريمة عدم إسعاف الضحية،
فالمسئولية هي مسئولية جماعية إزاء ما
يرتكب من جرائم في فلسطين على يد الكيان
الصهيوني وفي غزة بالتحديد حالياً.
التحركات الجماهيرية مطلوبة، ليس للتنفيس
عن الأحزان ومشاعر الظلم وإنعدام العدالة،
وإنما لرفع معنويات الضحايا من أجل
استمرار مقاومتهم لتغيير المعادلات على
الأرض، ولكي يتم الضغط على الحكومات
المتواطئة لتعديل مسارها.
لكن المساندة لا تتوقف عند حدود ذلك
وأشكالها كثيرة، من جمع التبرعات المالية
ولو من مخصصات الأعياد والحاجات غير
الأساسية، كما والعيانية من أدوية وأغذية
وسائر مقومات الحياة، إلى إرسال مستوصفات
متنقلة وأطباء متطوعين والعمل لمد جسور
جوية وبحرية وبرية لإغاثة الضحايا
والمنكوبين. كذلك التحرك على صعيد الإعلام
المكتوب والمرئي والمسموع لفضح الجرائم
ولمقاومة السموم التي تهتدي إلى عقولنا
عبر وسائل إعلامية وقنوات فضائية تحول
الضحية لجلاد وترسم صورة مغايرة للواقع
وتخفف من هول المأساة في تصرف مدان بكل
المعاني. فالمشاركة بالعدوان هي ليست فقط
في تقديم السلاح وإنما أيضاً بمحاولة
تبريره والتمويه على ضجيج الآلة الحربية،
بما يذكرنا بما حصل في لبنان والعراق
ومناطق صراع أخرى ليست بالبعيدة عنا.
من الضروري أيضاً محاولة توثيق الجرائم
بما أتيح من إمكانيات عند الضحايا كي
يحاسب المجرمون يوماً عن جرائمهم، والآت
قريب وإن بدى متعثراً حالياً. كذلك طلب
انعقاد اجتماع للدول الأطراف في اتفاقية
جنيف للوقوف عند مسئولياتها، ولجنة أممية
للتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد
الإنسانية ومباشرة المدعي العام للمحكمة
الجنائية الدولية بالتحقيق في ما يجري من
تلقاء نفسه إن كان بالفعل يملك الحد
الأدنى من الضمير المهني. ولا شك بأن
متابعة مجلس حقوق الإنسان للموضوع من خلال
جلسة استثنائية خاصة سريعة يشكل واحداً من
وسائل الفضح والتعريف بما يقوم به جيش
الاحتلال الإسرائيلي، خاصة وأن العمليات
العسكرية مستمرة بما سيوقع مزيدا من
الجرائم. كما أن وضع حماية دولية
للفلسطينيين باتت أكثر من مطلب مستعجل كون
المخطط متواصل ولو توصلت الضغوط لوقف
التنفيذ مرحلياً. كذلك إدراكاً لمسألة أن
الفعل يستتبع رد فعل والعنف يتطلب عنف
موازٍ للرد عليه، خاصة وأن الحق بالمقاومة
هو من الحقوق الأساسية في شرعة حقوق
الإنسان، وعلماً أن إسرائيل لا تفهم سوى
منطق القوة مثلما رأينا في تجاربها في
لبنان ولأكثر من مرة.
المتابعة مطلوبة كما التعبئة من أجل
مواجهة جريمة العدوان لتغيير المعادلة
وقلب قواعد اللعبة التي ما زال يفرضها
المعتدي على ضحاياه وعلى العالم قاطبة.
وحيث أن شعوب المنطقة كلها مستهدفة وليس
فقط الفلسطينيون أو أهل غزة المليون ونصف
منكوب، فإن فرض عقوبات سياسية واقتصادية
على هذا الكيان المتخم بالمساعدات الغربية
يشكل الحد الأدنى لردع المعتدي عن استمرار
عدوانه، بما في ذلك قطع العلاقات
الدبلوماسية معه من طرف أنظمة عربية لم
تستطع فرض الأمر الواقع على شعوبها رغم
أنها تستعمل ضدها كل أشكال القمع والمنع.
إن اللجنة العربية لحقوق الإنسان التي
تبصر بألم صمت الدوائر الغربية عن جرائم
جسيمة بحق الشعب الفلسطيني، وتواطؤ العديد
من الحكومات العربية مع عملية تحطيم قطاع
غزة بشرياً وسياسياً وبنى تحتية، تطالب كل
منظمات المجتمع المدني ذات المصداقية خوض
هذه المعركة ومساندة الإنسان الفلسطيني في
معركة الإبادة التي يتعرض لها على يد قوات
الاحتلال الإسرائيلي، وتعلن انضمامها لكل
المبادرات الحقوقية والعامة من أجل
التعريف والضغط والتوثيق والمحاسبة في
العالمين العربي والغربي كما من خلال
مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة مهما كان
دورها.
باريس 29/12/2008
|