لم يتصور أحد في الذكرى الخمسين للإعلان العالمي أننا سنحتفل بالذكرى الستين في ظل إدارة جورج بوش الإبن وديك شيني التي دخلت التاريخ من الباب الأوسع بزعزعتها كل ما أنجز الناس على صعيد الحقوق والحريات في ستين عاما.
فقد شكلت أحداث 11 سبتمبر 2001 وما استدعته من حروب وحملات باسم مناهضة الإرهاب، وبكل المعاني، الضربة الأكبر لحقوق الإنسان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. من جهة، أبرزت قدرة هذه الإدارة الأمريكية على وضع منجزات البشرية على كف عفريت. ومن جهة أخرى، لمسنا سهولة العدوى في انتشار الحالة الاستثنائية وقوانينها التعسفية، أي مدى هشاشة وحداثة حقوق الإنسان في الوجود البشري. بحيث عاد التعذيب لمناطق كان قد اختفى منها، وبنيت سجون سرية في دول أوربية، ومناطق حرة للتعسف من باغرام إلى غوانتانامو. كذلك صدر حوالي 30 قانونا لمكافحة الإرهاب، ما كان منها سوى شلّ ما يتعلق بالحقوق والحريات في أكثر الدساتير عراقة. وبصفاقة عالية جرى تطبيق قاعدة ابن الست وابن الجارية في الملاحقة والمحاسبة. كما وتم ربط الهجرة السرية بالإرهاب، وحشر الإسلام مع العنف، واختزال انتهاكات حقوق الإنسان في العدو السياسي.
لم نكن يوما من السذاجة لنقرأ الإعلان العالمي قراءة إنجيلية تقديسية. ففي الجلسات العلنية والخاصة التي تجاوزت الثمانين، فشل ممثلو الدول غير الاستعمارية في تثبيت حق الشعوب في تقرير مصيرها. صحيح أن حركة التحرر الوطني ومبدأ تقرير المصير (من لينين إلى سعد زغلول ومبادئ ويلسون) بدأت قبل الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تنته بنهايتها. لذلك رفضت الدول الاستعمارية تثبيت هذا الحق في الإعلان. وكذلك كان حال ما يعرف بالفقرة الاستعمارية في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والحقوق الأساسية (1950). لذا كان علينا انتظار العهدين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في 1966، أي حقبة نزع الاستعمار، لتثبيت هذه النقطة.
لذا، هناك ضرورة لقراءة تاريخية ومتعددة الميادين لتنامي مفهوم الحقوق الإنسانية، كي لا نقع في عملية أدلجة مبسطة تجعل منا مجرد مدافعين بالترويج، وأحيانا قراءا سذج للشرعة الدولية لحقوق الإنسان. فمنذ نقاشات الهيغليين الشباب في منتصف القرن التاسع عشر، يعتبر كارل ماركس، في رده على نظرية الحق والدولة عند هيجل، الحق نتاج موازين قوى. لقد ربطت الاشتراكية الديمقراطية الحقوق بالنضال النقابي والسياسي. أما الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان فتقول في نقدها للاستعمار في مطلع القرن العشرين: "الخلاص من الاستعمار لا يعتمد فقط على حسن النوايا وإنما على نضال الشعوب ودعمنا لهذا النضال كجزء من مهمات الرابطة". الباحث السوري بوعلي ياسين يعتبر الحق الصياغة القانونية التي يضعها الأقوى باعتباره حاكم الحاضر وكاتب التاريخ. أما الجامعي الجزائري محمد أركون فيقول بأن "الحق هو التعبير عن مجموعة استلمت السـلطة : ثم بعد ذلك يجري نعته بالحـق الديني، الحق المقدس الخ". أحد أركان الإدارة الأشد عداءا لحقوق الإنسان في التاريخ الأمريكي، كونداليزا رايس، تعتبر التصديق على الاتفاقيات الدولية للحقوق الإنسانية في تعارض تام مع الدور القيادي للولايات المتحدة الأمريكية: "ليس من القيادة، كما أنه ليس بالموقف الانعزالي القول بأن للولايات المتحدة الأمريكية دور خاص في العالم، ولذا ليس من واجبها أن تنتسب لأية اتفاقية أو معاهدة دولية تقترح".
بمعنى أو بآخر، وضعت عولمة حالة الطوارئ الدول والمجتمعات تحت الشمس دون غطاء أو طلاء. وقدم المحافظون الجدد في سبع سنوات الدليل على هشاشة وغضاضة عود الحقوق الإنسانية في وجود يقوم بالأساس على التفاوت الهائل بين الإنسان والإنسان داخل وخارج حدود الدول والقارات. وصار من الضروري طرح ثلاثة أسئلة أساسية على الأقل:
1- هل كانت البشرية بحاجة في ستين عاما إلى زهاء 130 وثيقة دولية معنية بحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي لو لم يكن هناك انتهاكات جسيمة لا حسيب عليها ولا رقيب؟ وهل يمكن أن يكون لهذه الوثائق من قيمة عملية إذا خضعت للمنطق الذي حذّر منه الحديث النبوي: "إنما هلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإن سرق فيهم الضعيف قطعوه"؟
2- هل يمكن للمفاهيم السائدة للسياسة والاقتصاد، بل العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان بشكلها الحالي، أن تخرجنا من تفاوت يزداد بين الشعوب، وأفضلية لحرية البضاعة على حرية الإنسان، وسيادة لرأس المال المالي على رأس المال الإنساني، ومنافسة جهنمية حسرت قوة العمل الإنسانية في ثلث حركة الرأسمال الفعلية وتركت لرأسمال الافتراضي القدرة على استعباد رقاب العباد؟
3- عندما تدخل دول ما زالت نسبة وفيات الأطفال فيها مخيفة سباق التسلح النووي وتنزل مركبة على سطح القمر، تتحول الأوليات من ما يجب فعله من أجل الإنسان إلى ما يمكن فعله من وجهة النظر التقنية في سباقات عبث الهيمنة. فهل يمكن لسياسات تقديس أقصى قدر من "الكفاءة والأداء" بالمنطق الرأسمالي أن تحقق التنمية المستدامة ومجتمع التكافؤ حيث لكل شخص الحق في المعاش والملبس والمسكن واستنشاق هواء الحرية؟
إن الخروج من البربرية العسكرية والمالية يحتاج اليوم لمقاربة متعددة الميادين والانسحاب من المنطق الاقتصادي التقليدي، من النظرة الاختزالية القانونية، من قرارات الترقيع وجرعات التهدئة في سياحة المؤتمرات عند الكبار والصغار. من أجل ذلك نجد أنفسنا بأمس الحاجة لاستلهام كل الأبحاث النقدية لوضع العالم، وإدماج أسئلة وممارسات ومقارنات جديدة في ثقافتنا المدنية وبرامج السياسيين وأسلوب عمل الصحفيين وأبحاث المثقفين النقديين. وكون المنطق السائد يعيد انتاج نفسه بزيادة غنى الثري وبؤس الفقير، من الضروري تلقف المبادرات التي تسمح بكسر الحلقة المغلقة التي تبدأ وتنتهي بمنطق السوق.
لأنها ابنة الحاجة، كانت حقوق الإنسان وليدة أفعال تاريخية: كالثورة الفرنسية، واستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا، والتصدي لعودة شبح الحرب الكونية إلخ. لم تكن هذه الحقوق حالة ترف إلا في بعض المكاتب الممولة من السفارات والوكالات. من هنا قناعتنا بأن المقاومة المدنية ستتمكن من النجاح في عملية غسل الدم الذاتية الضرورية، وفي التواصل مع قوى التنوير والتغيير بكل مراحلها وبسائر تعبيراتها. صحيح أن حركة حقوق الإنسان هذه اتخذت في السنوات الأخيرة مواقع دفاعية للمحافظة على المكاسب، في ظل ضربات الأدوات الأحدث للهيمنة والسيطرة. لكنها أيضا كانت أحد العناصر الأساسية في كشف عورات المحافظين الجدد وهزيمتهم الأخيرة.
ما زال العالم يحمل عقابيل سنوات حرب على الإرهاب لم يعلن أوباما نهايتها، وميراث ثقيل مشبع بالدم والحقد. لكن انسداد الطرق التي سارت عليها الإدارة الأمريكية الراحلة هو الذي يجعل من مهمة كل عاقل أن يبحث عن طرق أخرى ومناهج مختلفة لإدارة الوضع الدولي. أما بالنسبة لشعوب الجنوب، فستنال من الحقوق والحريات بقدر ما تقدم من نضالات وتضحيات، لأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.