بعد ست سنوات على إطلاقها تحولت مبادرة السلام العربية إلى ورقة توت تخفي عورة العجز والإفلاس العربيين، وذريعة للالتفاف على التطبيع مع إسرائيل.

(1)
كمن العرب طويلا وسكتوا، ثم أطلقوا قبل أسبوعين غارة إعلانية احتلت مساحات كبيرة في العديد من الصحف العربية (جريدة "الخليج" الإماراتية رفضت نشرها)، كما استهدفت ثلاثاً من أهم الصحف العبرية (يديعوت أحرونوت ومعاريف وهاآرتس). وكان الهدف الأساسي لتلك الغارة هو الترويج للمبادرة السعودية، التي تبنتها قمة بيروت العربية عام 2002، وأثار الانتباه في هذه الغارة المحيرة، أولا أنها مارست لأول مرة نوعا مع التطبيع الإعلاني مع العدو الإسرائيلي، وثانيا أن الإعلان تضمن شعاري جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وثالثا أنه نشر في الصحف العربية لمخاطبة القراء الذين يعرفونها جيدا، كما نشر بالعبرية في الصحف الإسرائيلية لمخاطبة أناس يرفضونها، وقد حرصت الجهة التي نظمت العملية على إحاطة الإعلان المنشور بأعلام 57 دولة عربية وإسلامية في إشارة موحية لا تخفى دلالتها.
أغلب الظن أن الجامعة العربية هي التي تبنت هذه العملية مع السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يثير السؤال: لماذا الآن؟ - في الرد تلوح في الأفق أربعة احتمالات، أحدها أن يكون الهدف هو تغطية الفشل الذي منيت به مفاوضات السلطة الفلسطينية مع الإسرائيليين، كما قد يكون الهدف امتصاص أصداء مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في نيويورك مؤخرا، وشهد لأول مرة جلوس العاهل السعودي الملك عبد الله، الذي أطلق المبادرة حيث كان وليا للعهد، مع الرئيس الإسرائيلي "شمعون بيريز" على مائدة واحدة، وربما كان الهدف هو محاولة التأثير على الناخب الإسرائيلي، لكي يصوت للحزب المؤيد للمبادرة في الانتخابات المقرر إجراؤها هناك في فبراير القادم. ربما أيضا كان الهدف هو تقديم أوراق اعتماد العالم العربي إلى الإدارة الأمريكية الجديدة، قبل استلامها السلطة في أواخر يناير القادم.
سواء كان بعض هذه الأسباب أو كلها وراء شن الغارة الإعلانية، فالشاهد أن المبادرة استدعيت من مكمنها ووضعت على الطاولة أمام الجميع معلنة على الملأ أن العرب سجلوا فيها عرضا لحل الصراع الممتد مع إسرائيل.

(2)
لم تأت المبادرة من فراغ ولكنها حين أطلقت من قبل ولي العهد السعودي، الأمير عبد الله بن عبد العزيز كان لها هدف وسياق. وحين تبناها مؤتمر القمة العربية في عام 2002 أصبح لها سياق آخر وهدف آخر، انضاف إلى الأول، وإذا أردنا أن نكون أكثر وضوحا فربما جاز لنا أن نقول بأن المبادرة بدأت محاولة للخروج من مأزق واجهته المملكة العربية السعودية، وأصبحت في النهاية محاولة للخروج من مأزق يواجه النظام العربي، وهذا منطوق يحتاج إلى بعض الشرح.
إذ ليس خافيا على أحد أن المملكة العربية السعودية واجهت حرجا بالغ الشدة، بسبب أحداث سبتمبر 2001، الذي تحدثت الأنباء في ضلوع 19 من 21 من الشباب السعوديين في ارتكاب الجريمة التي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. ولأن وقع الصدمة كان صاعقا في الولايات المتحدة كما هو معلوم، فإنها أدت إلى تدهور سمعة المملكة بشكل فادح هناك. كما أنها كانت سببا في توجيه هجمة إعلامية شرسة ضدها في الإعلام الأمريكي بشكل خاص والإعلام الغربي بوجه عام، وكانت الموجة العدائية أعلى بكثير من أن تستوعب بواسطة شركات العلاقات العامة المتخصصة التي يستعان بها في مثل هذه الحالات.
ثمة كلام كثير عن الاتصالات التي أجرتها المملكة لتجاوز الأزمة وإعادة ترميم صورتها التي شوهت بالكامل، لكن الشق الذي يعنينا في هذه الاتصالات هو ما يتعلق بالدور الذي لعبه الصحفي الأمريكي البارز "توماس فريدمان" في استدعاء فكرة المبادرة، التي انطلقت من الانطباع الرائج في أوساط النخبة العربية، ويتلخص في أنك إذا أردت أن تستميل الإدارة الأمريكية وتكسب الإعلام هناك، فما عليك إلا أن تطرق باب إسرائيل أولا التي تملك وسائل ترقيق قلوب السياسيين الأمريكيين، وضبط إيقاع الخطاب الإعلامي في واشنطون.
لا نستطيع أن نحدد بالضبط حجم الدور الذي لعبه "فريدمان" – محرر صحيفة نيويورك تايمز – لكن القدر الثابت أن الرجل الذي يرتبط بصلة وثيقة مع إسرائيل بحكم يهوديته، كان موجودا في قلب المبادرة التي أريد بها تحسين صورة المملكة بما يقدمها على أنها داعية سلام من خلال تبنيها أطروحة لحل معضلة الصراع العري الإسرائيلي ( لاحظ أن مؤتمر حوار الأديان الأخير الذي عقد في نيويورك بحضور الملك عبد الله وشمعون بيريز يمثل خطوة أخرى على ذات الطريق(

(3)
المناخ العربي كان مهيأ لاستقبال المبادرة والاحتفاء بها، لسبب جوهري هو أن النظام العربي كان حينذاك قد دخل مرحلة "التهافت على السلام". إذا استخدمنا التعبير الذي أطلقه الأستاذ هيكل في وصفها. كانت اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعها الرئيس أنور السادات مع مناحيم بيجين في عام 1979م هي الحلقة الأبرز في بدايات تلك المرحلة، ذلك أنها أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، مقابل انسحاب قوات الاحتلال من شبه جزيرة سيناء، مع تجريدها من السلاح وحظر دخول القوات المسلحة المصرية إليها، وحين أعلن الرئيس السادات أن حرب أكتوبر لعام 1973م هي "آخر الحروب" مع إسرائيل، فإنه بذلك اعتبر المفاوضات خيارا وحيدا في التعامل مع إسرائيل، وهو ما سوغ لقادة الدولة العبرية أن يرددوا في تصريحاتهم أن مصر خرجت من الصراع ولن تعود إلى المواجهة مع إسرائيل، وكان " آفي دختر" وزير الأمن الداخلي أحدث مسؤول في الدولة العبرية أعاد التأكيد على هذه النقطة في محاضرة مهمة له ألقاها بمعهد أبحاث الأمن القومي في شهر سبتمبر الماضي.
لا يفوتنا هنا أن نذكر أن الرئيس السادات حين وقع اتفاقية كامب ديفيد وتعرض بسببها لانتقادات عربية واسعة النطاق، فإن السعودية واجهت ضغوطا أمريكية للانخراط في مسيرة "السلام المفترض"، الأمر الذي دفعها إلى تقديم مبادرة الملك فهد في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في فاس بالمغرب عام 1981م وتضمن آنذاك بعض الأفكار التي وردت لاحقا، في مبادرة الأمير عبد الله، لكن اعتراض سوريا و دول أخرى عليها أدى إلى إيقافها وعدم إقرارها من قبل القادة العرب.
اتفاقيات كامب ديفيد فتحت الطريق رسميا وعلنا لمسيرة التطبيع مع إسرائيل قفزا فوق استحقاقات القضية الفلسطينية، وأقول رسميا وعلنا لأن الاتصالات السرية وغير الرسمية كانت قائمة بين إسرائيل وبعض الدول في المغرب والمشرق العربيين.
في تلك الأثناء كانت منظمة التحرير الفلسطينية مازالت تتمتع ببعض العافية، وكانت أجواء مقاومة الاحتلال الإسرائيلي مازالت مواتية. (لا تنس أن الاتحاد السوفيتي كان مساندا للحق الفلسطيني) رغم أن الرئيس ياسر عرفات والدائرة الضيقة المحيطة به كانوا قد أصبحوا يميلون إلى فكرة الحل السياسي، وهو ما تحدث به السيد "هاني الحسن" عضو المجلس الوطني أمام الجمعية الراديكالية في لندن عام 1989م، مشيرا إلى أن التفكير في "الحل السياسي" أصبح يراود أبا عمار في أعقاب هزيمة يونيو لعام 1967م .

غير أن استمرار المقاومة وظهور حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الساحة مع بداية الثمانينات أعطى دفعة لتيار المقاومة، بلغت إحدى ذراها في انتفاضة عام 1987م، التي فاجأت الجميع، وأثبتت حضورا متزايدا لدور المقاومة الإسلامية بجناحيها، وهو ما أثار انتباه الإسرائيليين بوجه أخص، الذين وجدوا أنفسهم أمام قوة فلسطينية جديدة صاعدة، وبالتالي كان عليها أن تختار ما بين فتح وحماس. ففضلت أن تمد جسورها مع فتح، وهذا التواصل هو الذي أفرز اتفاقات أوسلو التي عقدت عام 1993، وبعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في سنة 1992 وترتب على اتفاقات أوسلو عودة أبو عمار إلى غزة، وانتخابه رئيسا للسلطة الفلسطينية، ومن ثم انخراطه في مسيرة التفاوض والحل السلمي مع إسرائيل. وهو ما سجله عرفات في رسالة بعث بها إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي في 9/9/1993 وقال فيها إن منظمة التحرير الفلسطينية "تلزم نفسها بعملية السلام في الشرق الأوسط، وحلا سليما للنزاع بين الجانبين، وتعلن أن كل القضايا العالقة المتعلقة بالوضع النهائي ستحل عن طريق المفاوضات".

بعد أوسلو وقع الأردن اتفاقية "وادي عربة" مع الإسرائيليين في سنة 1994. وحين وجدت إسرائيل أن أبو عمار لم يمتثل لشروطها في المفاوضات فإنها حاصرته في المقاطعة وقتلته بالسم في عام 2004، وفي هذه الأثناء واصلت إسرائيل اختراق العالم العربي، فتم تطبيع العلاقات بينها وبين موريتانيا، وتوالى فتح مكاتب تمثيلية لها – قيل إنها تجارية – في المغرب وتونس وقطر وسلطنة عمان، الأمر الذي جاء دالا على أن التهافت على السلام يتقدم بخطى حثيثة، وأن إسرائيل توسع اختراقاتها للعالم العربي حينا بعد حين.

(4)
منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في عام 1979، وخروج مصر عمليا من الصراع سرى الوهن في الجسم العربي كله، إذ تم الاعتراف بدولة إسرائيل التي لم تعترف بأي شيء للفلسطينيين، واعتبر السلام خيارا استراتيجيا في حين لم تعلن ذلك إسرائيل، واتفق على حل كل شيء بالتفاوض الذي رحبت به إسرائيل المستعدة للتفاوض إلى الأبد (أبا إيبان أبو الدبلوماسية الإسرائيلية عرف الدبلوماسية بأنها أن تقول كلاما معقولا يقبله الجميع، دون أن يترتب عليه أي عمل، وشامير رئيس الوزراء الأسبق قال في مؤتمر مدريد إنهم مستعدون للتفاوض لعشرة أو عشرين سنة(
في طور الوهن أيضا أصبحت المقاومة عنفا منبوذا والجهاد إرهابا منكورا، والصراع صار نزاعا والاحتلال انتشارا، وتراجعت الشرعية التاريخية في فلسطين لصالح ما سمى بالشرعية الدولية، ثم تراجعت الشرعية الدولية، بحيث لم تعد تتمثل في قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية، ولكنها صارت ما تمليه واشنطون وتوافق عليه الرباعية، في الوقت ذاته لم تعد فلسطين قضية العرب المركزية، ورفع بدلا منها في أغلب العواصم شعار "نحن أولا، وليذهب العرب إلى الجحيم!".

هذا التقهقر المستمر على مختلف الجبهات كان بمثابة هدايا مجانية قدمها العرب إلى إسرائيل التي ظلت متمنعة طوال الوقت. المدهش أنه إزاء تمنعها المدعوم من الولايات المتحدة ظلت الدول العربية تقدم في كل تراجع تنازلا جديدا.
من رحم هذا الوهن المخيم خرجت المبادرة العربية بعرض يلوح بإغلاق الملف بالكامل والتسليم لإسرائيل بأهم ما تريده، فيما بدا أنه هروب من المشكلة إلى الأمام من خلال طرح حل نهائي لها . وبإعلانها اعتبرت الدول العربية أنها أبرأت ذمتها، وقدمت للقضية آخر ما عندها، بحيث لم يعد ما يشغلها هو تحرير فلسطين، وإنما انحصر نضالها في محاولة تسويق المبادرة في مختلف المحافل، واستجلاب الرضي الإسرائيلي ومحاولة "شرحها" للإسرائيليين (!) تارة من خلال مبعوثين للجامعة العربية (سفر وزير خارجية مصر والأردن إلى تل أبيب)، وتارة أخرى لتبرير الاتصالات الثنائية (اجتماع وزير خارجية البحرين السابق مع تسيبي ليفني). ثم من خلال حملة الإعلانات الأخيرة في الصحف العربية والعبرية.