تعوّدنا ان نرى المسؤولين الاميركيين وهم يلجأون الى الاعتراف باخطائهم الكارثية غالباً، بعد تركهم مناصبهم ورحيلهم عنها. لكن الرئيس المنتهية ولايته جورج بوش صاحب السجل الاكثر سواداً، والذي حكم اقوى دولة في العالم على مدى ثماني سنوات، فاجأ أنصاره وخصومه على حد سواء، من خلال اللقاء الذي اجرته معه محطة الـ (ABC) الأميركية الأسبوع الماضي والتي أرادت استباق رحيل بوش لكشف جانب من جوانب هذه الشخصية الكارثية!، فقد إعترف بوش وعرّى نفسه واسقط ورقة التوت عن عوراته الكارثية في العراق وغيره، وقال: إن "أكبر ما يأسف عليه" في فترة رئاسته هي المعلومات الاستخباراتية الخاطئة عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل!! وان أشد ما أندم عليه خلال فترتي الرئاسية هو فشل الاستخبارات فيما يتعلق بمدى التهديد الذي مثله الرئيس العراقي الراحل صدام حسين للولايات المتحدة». وقال "إن كثيرين جازفوا بسمعتهم وقالوا إن تدمير أسلحة الدمار الشامل سبب لإزالة صدام حسين"، لكنه لم يشأ الإجابة عندما سُئل إن كان سيخوض الحرب لو جاء في المعلومات الاستخباراتية أن العراق لا يمتلك هذه الأسلحة, واكتفى بالقول "هذا سؤال شيق ومثير! ولكن هذا أمر قد انتهى وليس لي حيلة فيه الآن!". وذكّر بوش بأن اعتماد المعلومات الاستخباراتية الخاطئة بشأن العراق لم يقتصر عليه, فقد اعتمدها أيضا كثيرون من أعضاء الكونغرس، قبل انتخابه أثناء النقاش حول هذا البلد، وكثيرون من قادة دول العالم. لقد انهارت كل دعائم السياسة الأميركية التي اتبعتها إدارة بوش خلال أعوام ثمانية خلت، لتظهر الحقيقة ـ أو بعضاً من هذه الحقيقة ـ وليكتشف الأميركيون وشعوب الأرض معاً، أن القرارات الحاسمة في الاقتصاد والسياسة والحروب بُنيت واتخذت استناداً إلى تقارير غير دقيقة، بل غير صحيحة على الأطلاق!!. وهكذا فقد اختار جورج بوش الطريق الاسهل لكي يبرر جرائمه الكبرى وسياساته المتهورة، إختار طريق الاعتراف بالغباء والجهل بالحقائق وغياب المعلومات الدقيقة، بدلا من أن يعترف بارتكابه "جرائم" بكامل قواه العقلية وبمنتهى "سبق الاصرار والترصد"، ظنا منه أنّ هذا "الأعتراف" سيعفيه عن مسؤولياته عن جرائم الحرب وشن العدوان، وإرهاب العالم تحت شعار "مكافحة الإرهاب" وكأنما هو يحارب الإرهاب بالإرهاب!...
إن فعل الندامة بالنسبة لبوش وإدارته لا يقف عند حدود العراق، فقد ارتكبت هذه الإدارة بحق الشعب الأمريكي وشعوب العالم ما لم تسبقها إليه أية إدارة أخرى. لقد انفضحت سياسات اكبر قوة عالمية في كونها مبنية على الغش والكذب والخداع والاباطيل. الم يعترف "كولن باول" انه كذب على المجتمع الدولي بعرض صور زائفة وادلة باطلة على امتلاك صدام اسلحة الدمار الشامل؟ وثمة مسؤولون آخرون منهم رامزفيلد وتينيث وكبار القادة العسكريين والسياسيين ورؤساء المخابرات اقروا من قبل بوقوع خطايا واكاذيب وتلفيقات في تصوير الخطر العراقي وتضخيمه لتبرير ابشع عدوان عرفته البشرية.
والملفت للغرابة ان بوش يوجه اعتذاره واسفه الى الشعب الاميركي ولا يوجه كلمة اعتذار واحدة للشعب العراقي!، الذي دفع ثمنا باهضا لهذه المغامرة الرعناء، دفع بمليون ونصف المليون شهيد، وضعفهم من الجرحى والمعاقين، وخمسة ملايين مشرد ومهجر خارج العراق وداخله، ومليون ونصف المليون ارملة وخمسة ملايين يتيم، إضافة إلى تدمير اقتصاد دولة كانت مزدهرة وغنية فعادت إلى العصور الوسطى، لم يصدر أي اعتذار للعراقيين، إذ إن كل ما عبر بوش عن أسفه بشأنه هو أن «الكثير من الناس خاطروا بسمعتهم وقالوا إن أسلحة الدمار الشامل كافية للإطاحة
بنظام صدام حسين»!.
قد يحتاج العالم الى سنوات لتجاوز ماقدمه بوش من صنائع وكوارث، لضبط مفاعيل ماحصل، وتخفيض أضراره, وترميم الفجوة التي أصابت الاسواق العالمية, ويعترف غير المأسوف على رحيله بهول ماحصل خاصة في العراق, ويبرئ نفسه محملاً كل أخطائه والكوارث المترتبة على تلك الأخطاء لمخابراته!!.
فهل يصدق أحد في العالم أن رئيس دولة عظمى يشن الحروب ويفتك بالبشر وينشر الفوضى والخراب استناداً إلى تقارير كاذبة أو غير دقيقة وموثقة؟ هل إنّ أرواح البشر ومصائر الدول والحكومات والشعوب بهذا الرخص وإلى الدرجة التي تشن الحروب ضدها لمجرد الاشتباه بأنها (قد...!) تهدد أمن الولايات المتحدة؟! وهل يعقل أن أمن دولة عظمى يمكن أن يكون مهدداً من قبل دولة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها عدد سكان مدينة أميركية واحد وعلى بعد آلاف الأميال؟.. وبغض النظر عمّا إذا كانت اعترافات بوش الأولية ناتجة عن جهل وغباء أو عن هروب من تحمل مسؤولية عن جرائم اقترفت عن سابق إصرار وترصد، فإن ما أقدمت عليه هذه الإدارة على مدى السنوات الثماني الماضية هي "جرائم بحق الإنسانية" بكل المعايير، ولا يمكن أن تغتفر.
لو كان هناك قانون دولي عادل، ولو كانت هناك حقاً هيئة أمم متحدة فاعلة وحازمة، ولو كان هناك حقاً مجلس أمن فعال، ولو كان هناك حقاً قضاء جنائي دولي عادل وجريء كما يدعي مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، لكان جورج بوش اليوم يُساق لمحكمة العصر، ولكن يبدو ان لاشئ سيترتب على اعترافات بوش الصريحة، التي ادلى بها بكامل وعيه وارادته دون ضغط ولا اكراه، باقتراف ابشع جريمة عدوان وابادة شاملة، فلا أمم متحدة ستلجأ إلى مقاضاة وتحميل إدارته كل ما سبّبه من تخريب ودمار للعراق، ولا حكومة عراقية وطنية قادرة أن تمسك بتلابيب بوش وإدارته لتحصل على تعويضات مادية بحجم ما سببه من دمار، ولا دول عربية فاعلة تمتلك موقفها وقرارها بحيث يمكنها رفع دعوى قضائية على بوش وإدارته لأنه غزا بلدا عربيا شقيقاً وفعل به ما فعل. والأدهى من ذلك أن البعض من العرب وغير العرب المتبرعين ينبري ليصور تصريحات بوش بأنها «اعتراف جرئ بالخطأ»، وأن الاعتراف بالخطأ كما هو معلوم "فضيلة"، وهي فضيلة أخرى ستضاف إلى سجل بوش المليء بالفضائل!!، ليس أقلها غزو العراق تحت حجج واهية.
ماذا سيقدم اعتراف بوش لملايين الامهات الثكالى ولملايين الزوجات اللواتي حرمتهن حرب بوش العدوانية من ازواجهن، ماذا سيقدم اعتراف بوش للمراة الماجدة العراقية التي فقدت زوجها واصبحت بعده المعيل الوحيد لاسرتها ولم تستطع ان توفر لهم لقمة عيش!! وماذا ستقدم هذه الاعترافات الغوغائية لملايين الاطفال اليتامى الذين حرمتهم حرب بوش الارهابية من آبائهم؟ اين وعود بوش منذ ست سنوات بانه سيحول العراق الى جنة للديمقراطية.. وهاهو يغادر كرسي الرئاسة وقد ترك العراق نهبا للصوص والفاسدين وميليشيات الغدر وفرق الموت؟ اية ديمقراطية بناها بوش في العراق غير ديمقراطية الخنوع والركوع من قبل الاذلاء الذين نصبّتهم دبابات المحتل حكاما للعراق؟ إن بوش باعترافه الأخير يستحق وإدارته محاكمة دولية عادلة، محاكمة تضعه في قفص الاتهام في المحكمة الجنائية الدولية، ولكن هذا لن يحدث أبدا، فقتل شعب بأكمله مسألة فيها نظر.
ونسأل من سيدفع فاتورة هذه الاخطاء الكارثية، بعد إستشهاد مليون ونصف المليون عراقي، ومن سيدفع فاتورة تدمير بلد عربي مسلم آمن وتحويله الى خرائب؟ والسؤال الاكبر الذي يدور في مخيلة العراقيين متى سيعتذر اشقاؤنا العرب الذين اعانوا بوش في جريمة عدوانه ووضعوا جيوشهم واراضيهم ومطاراتهم وامكاناتهم المادية في خدمة الجهد العدواني لتدمير شقيق لهم هو العراق؟
المصدر: جريدة الراية القطرية السبت 6 ديسمبر 2008