لعل من أهم المشكلات السياسية والمدنية الداخلية التي تميز حقبتنا، بعد الاستبداد السياسي والفساد، قضية الحركات الإسلامية السياسية. ورغم أن عمر بعض هذه الحركات قد جاوز اليوم الثمانين عاما، وأن بعضها أكثر براغماتية وعقلانية من أحزاب غير دينية، ما زالت هذه الأحزاب تشكل أحجية صعبة في الحياة السياسية في العالمين العربي والإسلامي. لا شك أن هزيمة المحافظين الجدد في الانتخابات والممارسة في الولايات المتحدة ستخفف من الضغط على المسلمين والإسلاميين. الأمر الذي يسمح لنا أن نعود للحوار الصريح البناء والخطاب النقدي الضروري لأطروحات وممارسات هذه الحركات، دون وجود ضغط ظالم وتعسفي خارجي.

كأي تيار سياسي، لا يسهّل الأمر على الإسلاميين وجود نماذج إسلامية للحكم هنا أو هناك. كون الحال في البيت الإيديولوجي يذكرنا بحال الحركة الشيوعية في القرن الماضي: "تضامن دون تقليد أو افتراق دون تشهير" داخل العائلة الواحدة، وعداء ومقاطعة في حال الإنشقاق أو تعارض المصالح. لعل المثل الأكثر نصاعة على هذا الوضع هو حركة الإخوان المسلمين، ذات المواقع المحبوبة حينا والممجوجة أحيانا أخرى. فهي تشارك في حكومتين في ظل الاحتلال (أفغانستان والعراق)، وفي مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين (حماس)، وكانت في الطرف المقابل لجبهة الإنقاذ في الجزائر إثر الإنقلاب العسكري، ويضع تنظيمها السوري قدما مع أحد أقطاب حقبة  مجازر 1980-1982 في سورية والقدم الأخرى مع إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي. بيد أننا نجد التنظيم المصري في معمعان النضال النقابي والبرلماني والشعبي في مصر. طبعا التجربة السودانية بعد صراع الترابي-البشير، حولت الخلاف السياسي إلى مكائد شخصية لا تليق بأحد مفكري الحركة الإسلامية المعاصرة، وتصفية حسابات بطريقة أمنية عبر الاعتقال والملاحقة من قبل الحزب الحاكم. ولا شك بعد قرابة عقدين من الزمن، أن الأنموذج السوداني بمختلف مكوناته قد قدم للمسلمين والعرب ما يجب تجنبه.

من جهة ثانية، فشل التنظيمان الشيعيان الرئيسيان في العراق في عدم غمس اليد للثمالة في التعامل مع المحتل والقتل المذهبي والفساد المالي. ولم يستطع التيار الصدري بعد من السيطرة على متطرفيه في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان. ولعل المثل الأكثر شعبية "حزب الله" حيث يشكل الوجه الأكثر نصاعة في مقاومة الاحتلال والخدمات الاجتماعية وإعادة البناء، وإن كان مشروعه للإصلاح المدني في لبنان غامضا ومفهومه لولاية الفقيه أكثر غموضا.

بعكس ما يتصور المراقب البعيد، فإن الحركة السلفية، ونتيجة للاستشراس الذي عانته في السنوات الثماني الأخيرة، استطاعت أن تنجب مبادرات تجاوزت أطروحاتها التقليدية. في حين برز العجز الفكري والمدني عند حركات مشرقية جديدة حاولت تقليد تجربة العدالة والتنمية في تركيا. فأخذت القشرة وتركت الجوهر، وصارت تبحث عن أي نجاح بالتغريب المتسارع حينا أو اللعب على نيران المذهبية أحيانا أخرى. يمكن القول أن هناك أزمة عامة تعيشها الحركة الإسلامية السياسية في العالم العربي، تحتاج إلى تقييم معمق من الداخل والخارج. لكن ليس بالإمكان للأسف أن يأخذ هكذا تقييم مداه دون التحرر من تطرفين أساسيين: التطرف الأول، هو القداسة الذاتية التي تمنحها هذه الحركات لنفسها بوصفها التعبير البشري للحاكمية الإلهية. والتطرف الثاني، هو الحظر المزمن الذي تعاني منه في أكثر من ثلثي الأقطار الإسلامية. هذا المنع يحول دون انتقال طبيعي نحو الديمقراطية من جهة، وانتقال ضروري من إيديولوجية الطوارئ التي تسود الحركات المحظورة علمانية كانت أو دينية، إلى فكر العافية أي الوضع الطبيعي المنتج لنقاش وحوار داخلي طبيعي مع الذات والآخر من جهة ثانية.

منذ صدور القانون 49، القاضي بإعدام أي عضو في حركة الإخوان المسلمين في سورية في 1980، ونحن نطالب بإلغاء هذا القانون والترخيص للحركة. وقد كتبت قبل مجرزة حماه بشهرين: "لا يمكن وجود مشروع ديمقراطي في أي بلد إسلامي دون الترخيص للحركة الإسلامية السياسية التي تحتل حيزا هاما في الخارطة السياسية. ولا يمكن أيضا الحديث في دولة القانون، دون محاكمة من يكفّر العلويين وأبناء المذاهب والأديان الأخرى ويخيرهم بين الإسلام والنفي والقتل، وذلك أمام محاكم عادية تعبر عن سلطة قضائية مستقلة". وأظن أن هذا المبدأ، مبدأ احترام الدولة التعاقدية أو دولة القانون، مستنبط من صلب القرآن الكريم والشرعة الدولية لحقوق الإنسان. في حين يشكل التكفير والتخوين السياسي والحظر أدوات دنيئة للتخلص من الخصم أو العدو بما أسميناه يومذاك: الإبادة السياسية. لكن كل الأساليب المجرمة للحكام لا تسمح لنا بأن نغير الوقائع  فنقول الإسلام لا يدرس في المدارس وغير موجود في الإعلام، خاصة والمحطات الفضائية الإسلامية والمواقع الدينية على الشبكة العنكبوتية بلغة الضاد تحتل أعلى نسبة للتواجد الديني الإعلامي في كل لغات العالم.

العديد من المفكرين الإسلاميين يتبنى اليوم موضوعة الدولة المدنية، أي الدولة التعاقدية بين كل المواطنين، بغض النظر عن تلاوينهم السياسية والمذهبية والدينية. لتوفير الحد الأدنى من كرامة الإنسان والحد الضروري لإقامة العدل بالمعنى السياسي والمدني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. لعل هذا التقدم الكبير، وإن لم يزل محدودا أحيانا وسطحيا أحيانا أخرى، يشكل وثبة كبيرة لتجاوز الدولة العلمانية الاستئصالية، أي التسلطية بالضرورة، والدولة الإسلامية المؤممة للمفهوم الإسلامي للحكم، أي المحصورة في حزب يقدس نفسه بنفسه باسم الدين. فالبشر هم من يترجم القراءة القرآنية والقراءات الوضعية. هم من يحكم بالفعل باسم الله أو باسم طبقة أو إيديولوجية أو منهج. وبالتالي لا يمكن أن ندين آل البيت بجرائم قوات بدر، أو نعتبر ما قامت به الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في سورية تحقيقا لأمر الله ونصرة لأهل السنة. كلنا شركاء في أي مشروع سياسي ومدني، زيد بالرأي، وعمر عبر قوة سياسية، وجعفر عبر نقابة أو هيئة غير حكومية. وبكل الأحوال، بالقرآن أو بدونه، إدارة شؤون الدولة تتم من قبل بشر يتخذون قرارات يتحملون مسؤوليتها كبشر. لا قداسة لهم وليس لديهم حصانة قانونية أو دينية، سواء بسبب انتسابهم لحزب ديني أو استلامهم منصبا من مناصب الدولة.

كنت والعديد من الديمقراطيين العرب نظن أن هذا النقاش يعود للقرن الماضي. إلا أن "الإرتكاسة القرضاوية" الأخيرة، التي سميت عند البعض صحوة وصرخة تحذير، ذكرتنا بأننا ما زلنا في بداية الطريق.

-------------------------------

مفكر وحقوقي عربي يعيش في باريس