الدكتور هيثم مناع

  الدستور والحالات الاستثنائية

العهد في الأزمنة الحديثة

أصلت الحضارات الشرقية واليونانية مفهوم العهد مبكرا في مؤسساتها وعقائدها، وقد أعطى الإسلام حيزا هاما لهذا المفهوم في القرآن الكريم والمجتمع العربي الإسلامي الأول. وقبل العقد الاجتماعي لجان جاك روسو كتب ابن منظور  "كل ما بين البشر من المواثيق فهو عهد" (لسان العرب)، وقد ورد الحديث في القرآن الكريم عن العهود بصيغة الأمر: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا".

نال العهد بعدا جديدا في القرن الثامن عشر والثورتين الأمريكية والفرنسية بولادة مفهوم الدستور بالمعنى الحديث. وبعد أن كان الهدف الأساسي من الدستور أن يكون وسيلة لتحديد وتنظيم السلطات وتعزيز بنية الدولة، تحول هذا المفهوم تباعا مع تطور فكرة الحقوق الطبيعية وتعزيز وتوسيع فكرة المواطنة، تحول هذا المفهوم إلى تنظيم المؤسسات والممارسات والمبادئ المحددة والمؤطرة لمنظومة الحكم بحيث تضمن الحريات والحقوق الأساسية للبشر. وهكذا، انتقل الدستور، ضمن سيرورة الصراع في المجتمعات الغربية وتطور مفهوم الدولة ونسبية مفهوم السيادة في القانون الدولي، إلى وسيلة لإطلاق الحريات الأساسية وضمان الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية وناظم أساسي للعلاقة بين الدولة والفضاء المجتمعي بكل تعبيراته.

يمكن اليوم اعتبار الدستور ظاهرة عالمية، ولو أن هناك دول آثرت صيغة أخرى (كما هو حال بريطانيا ونيوزيلاندا وإسرائيل والسعودية). وهو بالخطوط العامة لمختلف الثقافات ترجمة  سياسية دنيوية لإقامة العدل وتنظيم الحريات وتعريف الحقوق وتنظيم الحياة السياسية والمدنية للناس في مكان وزمان وفي أطر ومواضيع محددة. فالدستور بطبعه وشكله ومفهومه ad hoc، أي ناقص ومحدود ومقيد بالضرورات وبعنصري الزمان والمكان والتقدم المجتمعي.

كان عمانوئيل كانت سابقا لعصره عندما حذر أي مشرع من أن يؤسس بالإكراه دستورا ينحو نحو غايات خلقية أو إيديولوجية، ذلك أن توجها كهذا  لا يكتفي بتأسيس الخوف من الدستور فقط، بل هو يعطب دستوره نفسه ويعرضه لعدم الأمن. وقد أعطته الأيام كل الحق خاصة وقد صارت ديباجة بعض الدساتير، مصادرة مسبقة من الأقوى أو الأغلبية لما يمكن اعتباره الوثيقة المعبرة عن كل فرد وجماعة في كيان سياسي محدد. من هنا ضرورة مقاومة جنوح البعض لاعتبار الدستور وسيلة لإقامة العدل في ذاتها ومن أجل ذاتها، وكما بينا في أكثر من مكان، فلا بد من ثلاثة مبادئ أساسية تحمي الدستور من سقطات مسبقة أو قاتلة:

المبدأ الأول: مبدأ المشاركة في عملية البناء الدستورية والوعي السياسي لدولة دستورية.

المبدأ الثاني: مبدأ تقييد العسف بالمعنى الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.

المبدأ الثالث: مبدأ الدينامية في التعامل مع الدستور باعتباره نصا بشريا غير مقدس يحتاج إلى التهذيب والتحسين كلما تطلبت الحاجة المجتمعية ذلك.

هذه الأسئلة وعشرات من مثيلاتها يمكن أن نقرأ منها دور الدستور في صيانة الحقوق وضمان الحريات وحماية السيادة.

إن أي دستور جدير بالكلمة بعد أكثر من قرنين من التجارب البشرية يجب أن يضعنا وجها لوجه أمام الثغرات الدستورية المزمنة التي تبدأ بتحويل الدستور لنص اسمي أو وهمي يتذكره الحاكم في المواد التي وضعها لنفسه وينساه في حقوق الناس. من هنا ضرورة تثبيت قيم حقوق الإنسان الأساسية (الكرامة الإنسانية، الحرية، المساواة، التضامن، حق الحياة غير القابل للتصرف، السلم) وضمانات أساسية لا غموض فيها مثل: سلامة النفس والجسد، حرية الرأي والتعبير والعقيدة والمساواة التامة بين الرجل والمرأة، حرية التنقل في الداخل والخارج، حق اللجوء السياسي، حق  التجمعات السلمية، الحق في التعليم وفي الضمان الاجتماعي والصحة والسكن اللائق والبيئة السليمة والحياة الكريمة، الحقوق اللغوية والثقافية لمكونات الأمة، التوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والتفريق بينها، وضمان الرقابة القضائية والبرلمانية ووجود سلطة مضادة فعلية ومحققون ووسطاء إداريون يضمنون حياد الإدارة وشفافية التصرف. والانطلاق من أن هذه الحقوق والحريات، تشكل النواة الصلبة غير القابلة للتصرف في أي ظرف وأي مكان. ويمكننا، عبر التصريح الذي اعترفت به القوانين الدولية لحقوق الإنسان، أي الحالة الاستثنائية وحالة الطوارئ، رصد ما هو جائز، وما يعتبر انتهاكا للشرعة الدولية والقانون الإنساني الدولي والمواثيق الإقليمية الأهم اليوم، لتحديد ميادين جواز التصرف في الحقوق والحريات وفقا لوضع خاص أو انطلاقا من ظروف استثنائية، خاصة وأن هذه الظروف، لم تعد منذ عولمتها أحداث 11 سبتمبر مادة جنوبية أو عربية مسجلة :

الأوضاع الاستثنائية وحالة الطوارئ

تشكل حالة الطوارئ ظرفا استثنائيا يسمح، بنظر القانون، للسلطة التنفيذية في بلد ما، بالتحرر من التزامات دستورية محددة مع ضمان النواة الصلبة للحقوق الأساسية للإنسان غير القابلة للمساس. فقد نصت المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عليها بالصيغة التالية

        1-يجوز للدول الأطراف في العهد الحالي، في أوقات الطوارئ العامة التي تهدد حياة الأمة والتي يعلن عن وجودها بصفة رسمية، أن تتخذ من الإجراءات ما يحلها من التزاماتها طبقا للعهد الحالي إلى المدى الذي تقتضيه بدقة متطلبات الوضع، على ألا تتنافى هذه الإجراءات مع التزاماتها الأخرى بموجب القانون الدولي ودون أن تتضمن تميزا على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الأصل الاجتماعي فقط.

        2-ليس في هذا النص ما يجيز التحلل من الالتزامات المنصوص عليها في المواد 6 و 7 و8 (فقرة1و2) و11 و15 و16 و 18.

        3-على كل دولة طرف في العهد الحالي أن تستعمل حقها في التحلل من التزاماتها أن تبلغ الدول الأخرى الأطراف في العهد الحالي فورا عن طريق الأمين العام للأمم المتحدة، بالنصوص التي أحلت منها نفسها والأسباب التي دفعتها إلى ذلك. وعليها كذلك و بالطريقة ذاتها، أن تبلغ الدول بتاريخ إنهائها ذلك التحلل".

وقد عرفت اللجنة الأوربية لحقوق الإنسان حالة الطوارئ بالقول: "أزمة أو موقف استثنائي خطير حال أو وشيك الوقوع، يؤثر على مجموع شعب الدولة، ومن شأنه أن يشكل تهديدا لحياة المجتمع فيها". وقد طرحت اللجنة توافر أربعة عناصر لإمكان تطبيق المادة 15 من الميثاق الأوربي لحقوق الإنسان والحريات الأساسية المتعلقة بالحالات الاستثنائية هذه العناصر هي

-         وجود أزمة أو موقف استثنائي خطير، حال أو وشيك الوقوع.

-          أن تؤثر على مجموع الشعب.

-          أن تهدد استمرار الحياة العادية وإيقاعها المنتظم داخل المجتمع الذي تتكون منه الدولة.

-    ألا يكفي في مواجهتها تطبيق الإجراءات أو القيود العادية التي تجيزها الاتفاقية للمحافظة على السلامة العامة أو الصحة العامة أو النظام العام.

إذن يقبل المشرع الأوربي بمبدأ الحالة الاستثنائية كوضع إجباري لتدارك المصالح العامة المهددة  للمواطنين من وضع بشري أو بيئوي خاص وليس باعتبارها وسيلة ضرب لحقوق الناس.

وفي دراستها المعنونة "نتائج التطورات الحديثة المتعلقة بالأوضاع المسماة استثنائية أو طارئة على حقوق الإنسان"، تنطلق السيدة نيكول كويستيو المفوضة الخاصة في اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة من نقطة منهجية أساسية وهي اعتبار "الحالة الاستثنائية" مصطلح متعدد، كونه يغطي حالات على درجة كبيرة من الاختلاف والتفاوت، في القانون والواقع. وهي تستعمله عندما تتحدث عن حالة الحصار، حالة الإنذار، حالة الطوارئ، حالة وقاية، حالة حرب داخلية، تعليق الضمانات، القوانين العرفية، السلطات الخاصة". وهي تقترح التعريف التالي للحالة الاستثنائية:

"هي التعبير القانوني للسلطات في حالة أزمة مرتبطة بوضع قائم هو الظروف الاستثنائية، هذه الظروف يمكن أن تعني بدورها: حالة أزمة تمس كل السكان وتشكل خطرا على الوجود المنظم للجماعة التي يتكون منها أساس الدولة".

ويطرح القانون الدولي، بشكل عام، أربعة احتمالات لهذه "الأزمة" هي

-         النزاعات المسلحة الدولية.

-          حروب التحرير الوطنية.

-          النزاعات المسلحة غير الدولية

-          الاضطرابات والتوتر الداخلي.

إذا كانت الاحتمالات الثلاثة الأولى ترتبط بأوضاع الحرب، الأمر الذي يقودنا إلى حقل تطبيق القانون الإنساني الدولي، فإن الحالة الاستثنائية تصنف في نطاق الاحتمال الرابع.

يلاحظ أن الشرعة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب وإعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام لا يتناولا الإجراءات الخاصة بحقوق الإنسان في ظل حالة الطوارئ والأوضاع الاستثنائية. أما الميثاق العربي لحقوق الإنسان فيتعرض للموضوع في المادة الرابعة التي تنص على :

" ب يجوز للدول الأطراف في أوقات الطوارئ العامة التي تهدد حياة الأمة أن تتخذ من الإجراءات ما يحلها من التزاماتها طبقا لهذا الميثاق إلى المدى الضروري الذي تقتضيه بدقة متطلبات الوضع.

جـ ولا يجوز بأي حال أن تمس تلك القيود أو أن يشمل هذا التحلل الحقوق والضمانات الخاصة بحظر التعذيب والإهانة والعودة إلى الوطن واللجوء السياسي والمحاكمة وعدم جواز تكرار المحاكمة لذات الفعل وشرعية الجرائم والعقوبات. ".

وتنص المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية في المادة 15 على :

" 1- في حالة الحرب أو الأخطار العامة المهددة لحياة الأمة، بإمكان كل طرف موقع، اتخاذ تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذه المعاهدة، وذلك في أضيق الحدود شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي.

2- لا يجيز النص الوارد آنفا أية مخالفة لأحكام المواد 2، باستثناء حالة الوفاة الناجمة عن الأفعال المسموح بها في الحرب، والمواد 3 و 4 (فقرة1) و 7.

3- على أي طرف موقع استخدم حق عدم التقيد أن يعلم الأمين العام للمجلس الأوربي بكافة الإجراءات المتخذة  والأسباب الدافعة إلى ذلك. كذلك عليه إعلام الأمين العام للمجلس الأوربي بتاريخ انتهاء عدم التقيد والعودة إلى الالتزام الكامل بالمعاهدة".

وتتعرض المعاهدة الأمريكية الخاصة بحقوق الإنسان في المادة 27 المعنونة "تعليق الضمانات" لهذا الموضوع:

" 1- في حالة الحرب والأخطار العامة أو في كل وضع أزمة تهدد استقلال أو سلامة الدولة العضو، باستطاعة الأخيرة في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، اتخاذ الإجراءات التي تعلق التزامات واردة في هذه المعاهدة، على أن لا تتعارض هذه التدابير مع الالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي.

2- لا يجيز النص السابق أي مخالفة للحقوق الواردة في المواد التالية: 3 (حق الاعتراف بالشخصية القانونية)، 4 (حق الحياة)، 5 (حق سلامة الأشخاص)، 6 (منع العبودية والرق)، 9 (مبدأ المساواة والتأثير الرجعي)، 12 (حرية الضمير والدين)، 17 (الجنسية)، 23 (الحقوق السياسية). ولا يجيز أيضا إلغاء الضمانات الضرورية لحماية الحقوق المشار إليها سابقا.

وعلى أي دولة استخدمت حقها التعليق أن تعلم فورا الدول الأطراف الأخرى في المعاهدة عن طريق الأمين العام لمنظمة الدول الأمريكية بما تشمله الأحكام التي لا تتقيد بها وبالأسباب التي دفعتها لذلك والتاريخ الذي تنهي فيه عدم التقيد".

ومن الضروري الإشارة إلى المادة 3 المشتركة في اتفاقيات جنيف ، والتي تنطبق على حالات كهذه والتي تؤكد على أن الأشخاص الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية، بما فيه أفراد القوات المسلحة الذين سلموا أسلحتهم والأشخاص الذين وضعوا خارج حالة القتال لسبب المرض أو الجروح أو الاعتقال أو أي سبب آخر، يجب أن يعاملوا بشكل إنساني وبدون تمييز قائم على العرق أو اللون أو الدين أو الاعتقاد أو الجنس أو المولد أو الثروة أو ما شابه. ولهذا يمنع في كل زمان وباختلاف المكان تجاه الأشخاص المذكورين أعلاه:

-         الاعتداء على الحياة وسلامة الجسد وخاصة القتل بكافة أشكاله، البتر، المعاملة اللا إنسانية، التعذيب والتنكيل.

-          أخذ الرهائن.

-          الاعتداء على كرامة الأشخاص وخاصة المعاملة المهينة والمذلة.

-    الأحكام المعلنة والإعدامات  التي تنفذ دون حكم مسبق من قبل محكمة شكلت بشكل نظامي مع كافة الضمانات القضائية الضرورية المعترف عليها من قبل الشعوب المتمدنة.

وهناك تصنيفات عديدة لحالات الطوارئ والحالات الاستثنائية يمكن استخلاص تصنيف يعتمد الانحراف عن إطار المشروعية الدولية كقاعدة له وينطلق من ملاحظات الخبيرة كويستيو:

-   حالات الطوارئ التي لا يجري الإخطار عنها دوليا: إن عدم احترام هذا الإلزام الدولي الشكلي الواجب على الدول الموقعة لمعاهدات تلزم به، يترتب عليه بشكل أساسي منع ممارسة أية رقابة دولية من قبل الهيئات المعنية باحترام التزام الدول بتعهداتها.

-          الحالات الاستثنائية في الأمر الواقع، وهي وضع، بعكس السابق، لا يجري الإعلان عنه حتى على الصعيد الوطني.

-   حالات الطوارئ الطويلة الأمد : وهي الحالات الناجمة عن تمديد نسقي لحالة استثنائية واقعة أو استمرارها في غياب التحديد الزمني في القانون المحلي وهي تنحرف عن فكرة الظروف الاستثنائية القائمة على التأقيت حيث تصبح القاعدة في الاستثناء ويهمش القانون العادي مع تراكم القرارات الاستثنائية عبر السنين بل والعقود ويأخذ النظام الاستثنائي طابعا مؤسساتيا وتكتفي السلطة بصيغ مسطحة للشرعية كالاستفتاء  أو المحكمة العليا مثلا.

-   الحالات الاستثنائية المعقدة والتي تتميز بعدد كبير من الأنماط الاستثنائية المتوازية والمتراكمة والتي تكمل عادة بقوانين قمعية تقدم باعتبارها قوانين عادية.

وتلاحظ الخبيرة الدولية ظهور نمط خاص يتميز "أنموذجه المؤسساتي ليس فقط بتبعية السلطتين التشريعية والقضائية إلى السلطة التنفيذية، وإنما أيضا تبعية السلطة التنفيذية نفسها إلى السلطة العسكرية.".

لا يمكن لأي تشريع استثنائي أن يكون منسجما مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان إلا في حال خضوعه لشروط ثلاثة:

-         أن يكون موضوع قوننة صارمة ويسبق بقانونيته وقوع الأزمة.

-          أن يخضع قبليا وبعديا لمبدأ الرقابة.

-          أن يخضع لمبدأ التأقيت ( أي أن يكون محدود الزمان).

وقد أصبح هناك جملة مقيدات انبثقت عن المشرع الأوربي والأمريكي وخبراء لجنة حقوق الإنسان تشكل مرجعية عامة في موضوع ضمانات الحالة الاستثنائية هي:

-          مبدأ الإعلان بإجراء رسمي في القانون الداخلي.

-          مبدأ الإشهار الفوري عند الطرف المعني والمكلف في المعاهدة.

-          مبدأ وجود خطر استثنائي

-          مبدأ النسبية وعدم تجاوز الإجراءات أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع.

-          مبدأ عدم التمييز.

-          مبدأ عدم المس ببعض الحقوق الأساسية أو مبدأ التقيد.

 إن كل المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان تجمع على عدم المساس بالحقوق التالية : حق الحياة ، حق سلامة النفس والجسد، منع العبودية، منع الإجراءات الجزائية ذات المفعول الرجعي.

ويضيف العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والميثاق الأمريكي عدم المس بحق الاعتراف بالشخصية الحقوقية وحرية الوجدان والدين. ويتناول العهد منع السجن لتعهدات مدنية ويضيف الأمريكي حقوق الأسرة والطفل وحق الجنسية والمشاركة في الحياة العامة. كذلك تضيف المادة الثالثة المشتركة لمعاهدات جنيف ضمانات المحاكمة العادلة في الحقوق غير القابلة للتقييد.

هناك رأي صاعد في القانون الدولي يطالب باعتبار حق الاستئناف والمحاكمة العادلة واستقلال القضاء من الحقوق غير القابلة للمس. كذلك تزداد المطالبة بإنشاء أوليات مراقبة لوضع حقوق الإنسان في الأوضاع الاستثنائية الأمر الذي يسمح للمفوض الخاص في هكذا مهمة اللجوء إلى الوسيلة الوحيدة ذات الفعالية النسبية: العلنية.

يلاحظ القانوني المصري الدكتور سعيد فهيم خليل اقتران معظم حالات الطوارئ بانهيار دولة القانون  عبر إزالة الفواصل بين السلطات والعدوان على وضع السلطة القضائية وتقويض الدعائم الأساسية للشرعية والقانون. واقترانها بجسامة انتهاكات حقوق الإنسان :

" إن قوانين الطوارئ والتشريعات الاستثنائية التي تسبغ الحصانة على الأجهزة الأمنية، وتحول دون مساءلة التابعين لها جنائيا عما يصدر عنهم من تصرفات وإجراءات أثناء تنفيذ أحكام القانون، تعد أداة مقننة لما ترتكبه تلك الأجهزة من انتهاكات خطيرة ضد حقوق الإنسان ()  أضف إلى ذلك.. أن هذه  الأشكال المختلفة من الانتهاكات الجسيمة ضد حقوق الإنسان ، إنما تقود في الواقع كل منها إلى حدوث الأخرى، فانتهاك حقوق المعتقلين في الاتصال بذويهم أو بمحام للدفاع عنهم ، يخلق الفرصة لارتكاب التعذيب، أو جريمة الاختفاء القسري، أو القتل. وانتهاك حقوق وضمانات المتهمين أثناء المحكمة الجنائية قد يفضي إلى صدور أحكام بالإعدام غير قانونية، وهكذا.. فإن هذه الانتهاكات تشكل سلسلة من العوامل المتضافرة والمتصلة الحلقات. ومما يزيد من حدة تلك الانتهاكات وكثافتها أن حالات الطوارئ غالبا ما تغلف هذه الحوادث بستار كثيف من الكتمان والسرية، وتحيط مرتكبيها بسياج من الحصانة، التي تحول دون خضوعهم للمساءلة الجنائية.".

------------------------  

أعدت هذه المحاضرة لورشة العمل التي نظمتها مؤسسة فريدريك نومان في عمان من 21 إلى 23 يوليو (تموز)2005 بعنوان: حقوق الإنسان والدستور: حقوق دستورية مقارنة والدستور العراقي.

الدكتور هيثم مناع:

مفكر عربي من سورية، درس الطب والعلوم الاجتماعية والقانون، له قرابة 30 مؤلفا بالعربية والفرنسية والإنجليزية، محرر موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان و"مستقبل حقوق الإنسان"، متحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان.