يتداخل في المشهد التونسي في الآونة الأخيرة تدخل أجهزة الأمن بكل تفاصيل الحياة اليومية للناس. فبعد أن حاولت السلطة السياسية تقسيم الطبقة السياسية التونسية بين مؤيد مستفيد ومعارض مضطهد، وتمزيق أوصال الأشكال المستقلة للمقاومة المدنية، ها هي اليوم تتعامل مع المجتمع التونسي كمجموعة بشرية غير مطمئنة. وبالتالي تمارس انتهاكات قمعية مختلفة ومتفاوتة بحق كل من يحاول أن يبادر أو يبتكر وسيلة مستقلة للتعبير عن النفس. فالسلطات التونسية كانت من أكثر المستفيدين مما يسمى بالحرب على الإرهاب في المنطقة، عبر تقديم ورقة حسن سلوك في سن قوانين واتخاذ إجراءات حطمت مقومات دولة القانون، كان أهمها قانون 10/12/2003 لمكافحة الإرهاب. لقد عملت على تأكيد ذلك عبر تتالي المحاكمات الصورية والسريعة، في حضرة إدارة أمريكية وضعت الأمن والسوق ناظمان للتحالفات والعداوات السياسية الخارجية. كذلك سعت لخلق نزيف دائم في صفوف المعارضة، عبر ضغوط يومية مختلفة واستشراس ضد العمل ولقمة العيش، إقامة جبرية ومنع من السفر، أحكام جائرة للترهيب في قضايا التطوع للعراق، تطويع القوانين الانتخابية، رفض الترخيص لمنظمات حقوق الإنسان المستمر منذ عقدين من الزمن، تقييد ومتابعة النشاطات المناهضة للعولمة، اجراءات تقييد كوادر حركة النهضة المفرج عنهم، ممارسة عملية تقطيع أوصال النشاط الحقوقي الداخلي أو المتواصل مع منظمات إقليمية ودولية، حصار إعلامي، محاكمات لأتفه الأسباب، وأحيانا توظيف حادث عادي في تصفية حسابات سياسية.
وحيث تعتمد السلطات في تونس أسلوب "التنكيل بعيش المواطن المستقل أو المعارض"، نقدم للإستئناس لا للحصر بعض ما شهده هذا البلد فقط في العشرين يوما الماضية:
- تم بأمر من المحكمة عزل السيد رمزي الرمضاني، المعتقل حاليا بسجن الناظور في ولاية بنزرت، إثر الاعتداء عليه يوم الثلاثاء 7/10/2008 من طرف البوليس في قاعة المحكمة. وقد وقع التجريح في المحكمة وطلب الدفاع تأخير القضية لتمكينه من إتمام إجراءات التجريح، طبقا لمقتضيات الفصل 296 من مجلة الإجراءات الجزائية. فتعرض رئيس فرع تونس في الهيئة الوطنية للمحامين إلى "معاملة غير لائقة أثناء مباشرته لمهامه". إلى أن صدر خلال الجلسة حكمان قاسيان ضد الشاب رمزي الرمضاني في القضيتين عدد 11482 و عدد 11597، وذلك بسجنه خمس سنوات في كل قضية. وقع كل ذلك في غياب الدفاع الذي اضطر لمغادرة قاعة الجلسة أمام هول ما رأى من أعمال اعتداء.
- نظرت الدوائر الجنائية لمحكمة تونس في ما لا يقل عن 10 قضايا، من 8 إلى 10 اكتوبر، حوكم فيها عشرات الشبان، بموجب قانون 10/12/2003 (مكافحة الإرهاب)، وبارتباط مباشر أو غير مباشر بالصٌدامات المسلٌحة التي حصلت في مدينة "سليمان" (الشمال الشرقي) بين مجموعة من الجهاد السلفي، وقوات الأمن (جيش وشرطة)، أواخر 2006 وأوائل 2007.
- مساء الجمعة 10/10/2008 تعرضت السيدة سهام بن سدرين، الناطقة باسم المجلس الوطني للحريات والسيد زهير مخلوف، العضو المؤسس لمنظمة حرية وانصاف، لاعتداء بالعنف من قبل البوليس السياسي، لمنعهما من دخول مقر التكتل من أجل العمل والحريات، وحضور اللقاء التضامني مع سجينة الرأي الأستاذة زكية الضيفاوي.
- رفضت الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بتونس في 17/10/2008 الإفراج مؤقتا عن الأستاذ محمد المختار الجلالي، المحامي والعضو السابق بمجلس النواب وعضو المكتب السياسي للاتحاد الديمقراطي الوحدوي سابقا (زوج المناضلة الحقوقية والصحفية أم زياد)، الذي مثل أمامها بحالة إيقاف منذ الأربعاء 15 أكتوبر 2008، لمقاضاته بتهمة القتل على وجه الخطأ اثر حادث مرور. وقد حضر للدفاع عنه عدد هام من المحامين في مقدمتهم العميد ورئيس الفرع الجهوي، حيث طلبت هيئة الدفاع الإفراج المؤقت عن الأستاذ الجلالي دون أن تتم الاستجابة لطلبها.
- أصدرت الدائرة الجنائية الخامسة بالمحكمة الابتدائية بتونس، برئاسة القاضي الحافي في 17/10/2008 أحكاما بالسجن في القضية عدد 16205، تراوحت بين ثمانية سنوات وعدم سماع الدعوى. وذلك بعد استنطاق المتهمين الذين أنكروا ما نسب إليهم من تهم تقع تحت طائلة قانون 10/12/2003. وقد قضت المحكمة بثماني سنوات ضد الشاب قيس الهداجي، وبعدم سماع الدعوى في حق الشاب أكرم الزلفاني. أما بقية المتهمين فقد صدر ضدهم حكم بالسجن مدة ثمانية أشهر.
- اعتقل أعوان البوليس السياسي في الساعة العاشرة من صباح اليوم الجمعة 17/10/2008 سجين الرأي السابق الشاب علي الحرزي من منزله، واقتادوه في سيارة خاصة إلى مقر إدارة أمن الدولة بوزارة الداخلية، علما بأن الشاب المذكور قد قضى بالسجن ما يقارب السنتين، صحبة شقيقه ابراهيم الحرزي، بتهم تتعلق بقانون مكافحة الإرهاب.
- لم تستجب السلطات التونسية لطلب المنظمات الحقوقية والمحامين بمعالجة السجين بدر الدين القصوري، المعتقل حاليا بسجن المرناقية، من تورم شديد بفمه، وكان الطبيب المعالج قد نصحه بضرورة الخضوع لعملية جراحية. والشاب بدرالدين القصوري يقضي حكما بالسجن مدة ثلاثين عاما لانتمائه لمجموعة سليمان.
- قام أعوان الأمن السياسي بمدينة سوسة بعد ظهر يوم الثلاثاء 21 أكتوبر2008 بإيقاف السجين السياسي السابق والقيادي في حركة النهضة، السيد محمد التومي المنصوري، واقتياده لجهة مجهولة. ونقل بعد ظهر 23 أكتوبر 2008 إلى مدينة الكاف حيث سيحال على محكمة ناحية الكاف يوم الثلاثاء 28 أكتوبر، بتهمة مخالفة تراتيب العقوبة التكميلية القاضية بالمراقبة الإدارية.
- تعرض الأستاذ عبد الوهاب معطر لمعاملة مهينة في مطار صفاقس إثر رجوعه يوم 21 أكتوبر من لقاء نظمته اللجنة العربية لحقوق الإنسان حول مفهوم الإرهاب وتداعياته على الحريات في تونس والوطن العربي. إضافة لهذا فهو يتعرض منذ أشهر لملاحقة سريالية من مصلحة الضرائب تطالبه بمبالغ خيالية ولم تتورع عن حجز كافة ممتلكاته. قبله كان الأستاذ عبد الرؤوف العيادي قد تعرّض لنفس الأساليب لقطع رزقه بكل الوسائل. نذكر بأن هذه المضايقات بحق محامي القضايا السياسية لم تتوقف من اعتداء على المكاتب لترهيب الزبائن أو افتراء قضايا حق عام، وحالة المحامية راضية النصراوي مثل ساطع في هذا الصدد.
- عمد أشخاص بالزي المدني، يعتقد أنهم من أعوان البوليس السياسي، يوم الأربعاء 22 أكتوبر2008 إلى إيقاف الطلبة : عبد الحميد حمادي(سنة أولى علوم إعلامية معمقة بكلية العلوم- بنزرت)، ونضال العرفاوي (سنة ثانية إلكترونيك صناعي بكلية العلوم- بنزرت)، وحاتم الغانمي ( سنة ثانية إعلامية صناعية بالمعهد العالي للدراسات التكنولوجية- بنزرت)، واقتادوهم إلى مركز أمن بوقطفة ببنزرت، حيث تم استنطاقهم حول انتماءاتهم الفكرية والسياسية وميولهم الدينية. وبعد تفتيش محل إقامتهم وحجز كتب، طلب منهم مراجعة مركز الأمن. تقع هذه المضايقات ضمن سلسلة سبقتها في هذه المدينة.
- منع يوم 22 أكتوبر المحامي محمد عبو من مغادرة تونس للمشاركة في حلقة "مباشر مع" على شبكة الجزيرة الفضائية.
- دعيت يوم 23 أكتوبر الصحافية نزيهة رجيبة، المعروفة باسم أم زياد، للمثول أمام قلم التحقيق بخصوص مقال نشرته في مجلة "مواطنون" أوقفت على إثره هذه الجريدة.
إن ما يثير الانتباه في هذه الموجة الجديدة من المضايقات الاستعمال المكثف للأمن، بما فيه المتابعة اللصيقة لقدماء المعتقلين والناشطين في الحقلين السياسي والمدني. إضافة إلى توريط مؤسسات الدولة كالقضاء والجمارك ومصلحة الضرائب لتضييق الخناق على المعارضين وإلهائهم بقضايا معيشية ومنعهم بهذه الأساليب الملتوية من كل انخراط في الشأن العام. خاصة في سنة حساسة يستعدّ فيها النظام التونسي لتمرير انتخابات تمديد الولاية للرئيس الحالي. هذا ويحتاج التعرض لانتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تناولا منفردا، خاصة وأن منطقة الحوض المنجمي ما زالت تدفع يوميا ثمنا باهظا لنضالاتها المطلبية، (تعرض عدد من النشطاء التونسيين لهذا الملف في مؤتمر صحفي نظمته اللجنة العربية لحقوق الإنسان في جنيف الأسبوع الفائت).
تشاطر اللجنة العربية لحقوق الإنسان وجهة النظر التي تتحدث عن حرب استباقية تشنها السلطة الأمنية ضد المجتمعين السياسي والمدني لحصرهما في موقع الدفاع وتمكين السلطة السياسية من خوض المعركة الرئاسية في حالة إخضاع مجتمعي وحصار للمعارضة.
إننا إذ نرى في هذه الممارسات تحطيما لما تبقى من معان للقانون ومن هيبة للدولة التي أممتها السلطة التنفيذية- الأمنية، نعتبر الصمت العربي والدولي على هذه الممارسات مشاركة في تأصيل الطبيعة التسلطية للسلطة. وهو يسهم في إنهاك الحركة المدنية في البلاد، مع كل ما يترتب على ذلك من فتح باب الرد المتطرف على هذه السياسة المتغولة. فتغييب مقومات دولة القانون عند الحاكم يخلق بالضرورة حركة رد فعلية لا تحترم القانون الاستثنائي وترفض الشرعية السياسية للدكتاتورية، عبر أشكال لا يمكن السيطرة عليها دوما أو تأطيرها ضمن نطاق التغيير الديمقراطي. وإن كان المجتمع التونسي قد رفض السقوط حتى اليوم في هذا الخيار لمواجهة تطرف السلطة، فإن في تراكم المظالم وكمونات العنف ما يفتح الباب لكل أشكال الدفاع الذاتي عند المقموعين.
إننا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان نعبر عن تضامننا الكامل مع المقاومة المدنية السلمية في تونس. كما وندعو المنظمات الحقوقية في الوطن العربي، وعلى رأسها اتحاد المحامين العرب، لتبني قضايا الأساتذة عبو ومعطر والعيادي الذين يتعرضون لكل أصناف الاضطهاد بسبب عملهم كمحامين وحقوقيين. كذلك نطالب اتحاد الصحافيين العرب ومنظمات حماية الصحافيين بمن فيها الاتحاد الدولي للصحفيين بالتدخل من أجل حماية الحقوق الأساسية للزميلتين نزيهة رجيبة وسهام بن سدرين المعرضتين لكل التجاوزات، نظرا لالتزامهما بالدفاع عن الكلمة الحرة وحقوق الناس. ونطالب السلطات بالتوقف عن الممارسات اللا إنسانية بحق المفرج عنهم من معتقلي النهضة وباقي المعتقلين، بما في ذلك منع عائلات بعضهم من الالتحاق بأزواجهن في أوربة واتخاذ عائلات البعض الآخر رهائن، ضمن منطق لا ينتمي للعصر ولا يقدر النتائج الكارثية لأفعاله على الشعب التونسي.
نعتبر أن هذا التصعيد الخطير من المنظمات الحقوقية والمدنية يستوجب التداعي لوضع استراتيجية مواجهة مشتركة للأشهر القادمة، ضمن مخاوفنا المبررة من تصعيد منهجي لضرب الحريات. لذا تدعو اللجنة العربية لحقوق الإنسان الأطراف التي تشاطرها هذا التصور للاجتماع في الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان (في 19 ديسمبر بعد عيد الأضحى) لتشريح الأوضاع وتحديد منهج عمل مشترك.
26/10/2008