اقتحام الهم الاقتصادي للحملات الانتخابية في السباق الى البيت الابيض ليس امرا جديدا، لا بل ان الكثير من المحللين يعتقدون انه في نهاية المطاف كان الميدان الاقتصادي هو الحلبة التي يسقط عليها المتنافسون من الحزبين الجمهوري والديموقراطي.
غير ان احدا لم يكن يتوقع ان يتحول الحديث عن المشكلات الاقتصادية، والتي عادة ما تواجه الناخب الاميركي في تحديد هوية الشخص او الحزب الذي سيمحضه صوته، الى كارثة بكل ما للكلمة من معنى، ليس على المستوى الاميركي فقط بل وعلى المستوى العالمي ايضاً.
فالتجول هذه الايام في شوارع المدن الاميركية البعيدة نسبيا عن التجمعات المدينية الكبرى، يشعرك ان كل الايام باتت اقرب الى ايام العطل الاسبوعية. وباستثناء ساعات الصباح الاولى عندما يتوجه الناس الى اعمالهم، او في ساعات الاياب بعد يوم مضنٍ، تكاد تشعر ان وطأة الازمة الاقتصادية باتت تفرض تقنينا الزاميا على تحركات الناس.
حركة السير خفيفة جدا ومراكز التسوق تشهد اقبالا ضعيفا، فيما المقاهي تحتضن الكثيرين ممن فقدوا اعمالهم، تجدهم يتناقشون في اسباب الازمة، ومن ذا الذي ينبغي ان يتحمل المسؤولية.
يحدثك البعض عن ان ولايات الوسط الاميركي الزراعي هي الاكثر تأثرا بحالة الركود والانكماش الاقتصادي الذي جرى الاعتراف به اخيرا من قبل المسؤولين الاميركيين.
حتى الامس القريب لم تتحدث وسائل الاعلام الاميركية، سواء المكتوبة او المسموعة او المرئية منها عن محاسبة حصلت لاي من اولئك المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى التي كانت وراء الانهيار الذي ضرب "وول ستريت" او حتى " الشارع العام"، نسبة الى الاقتصادات المحلية.
حين عقد مجلس النواب الاميركي جلسات استماع مع المدير التنفيذي لشركة AIG (اميركان انترناشيونال غروب) التي اقرضتها الحكومة الاميركية مبلغ 85 ملياردولار قبل اقل من شهر، لمساءلته عن دور المديرين التنفيذيين في شركته في هذه الازمة... كان الاكثر مدعاة للسخرية فيها، من وجهة نظر المواطنين الاميركيين، مساءلته عن فضيحة انفاق عشرة اشخاص من هؤلاء المديرين لنحو نصف مليون دولار مصاريف استجمام في احد الفنادق الفخمة ومراكز التدليك على احد شواطىء كاليفورنيا خلال اسبوع، بعد حصول الشركة على القرض الحكومي...
باراك اوباما المرشح الديموقراطي تناول هذه الفضيحة في مناظرته الثانية مع منافسه الجمهوري جون ماكين وفي جولاته الانتخابية. ما يعكس ان الكرة قد تتدحرج لاعادة النصاب الى اخلاقيات الوظائف العامة، ولو كانت داخل القطاع الخاص.
الرئيس الاميركي جورج بوش الذي دعا قبل نحو ثماني سنوات الى اعادة اطلاق "الحلم الاميركي" عبر الطلب من الشركات المالية والمصارف اعطاء القروض الميسرة لشراء البيوت وتيسير حصول المستهلك الاميركي على بطاقات الاعتماد، من دون التدقيق في وضعه المالي، يجري تحميله وادارته جزءا كبيرا من مسؤولية هذا الانهيار الذي ضرب مؤسسات الاقراض والمصارف وصولا الى الشركات الصناعية.
طبعا لا يمكن مقارنة النظام المالي الاميركي باي نظام اخر في العالم، مثلما لا يمكن اختصار المسؤولية بالادارة الاميركية الحالية، اذ ان بطاقات الاعتماد والقروض الميسرة هي من ميزات هذا النظام الاميركي. غير ان غياب الرقابة والتدقيق ضغط على المؤونات النقدية لتلك المؤسسات ما ادى في نهاية المطاف الى افلاسها.
قبل الصعود الجنوني في اسعار النفط العالمية، كان المواطن الاميركي يعتز بامتلاكه اكبر السيارات واحدثها في العالم، وخصوصا الرباعية الدفع..
ضخامة المساحة الجغرافية للولايات المتحدة وامتداد المسافات كان يفرض على الاميركيين امتلاك وسائل نقل مرفهة، لكنها في الوقت ذاته تستهلك وقودا بكميات كبيرة ايضا.
اليوم صار لابد للبيت الاميركي الواحد من ان يمتلك سيارة بمواصفات يابانية او كورية او اوروبية صغيرة ليتنقل بها طوال الاسبوع، في حين استعمال السيارة الكبيرة صار استثناء.
كانت عروض بطاقات الائتمان تنهال على المواطن الاميركي او على المقيم شرعا في الولايات المتحدة كل يوم تقريبا، سواء عبر البريد العادي او عبر الهاتف... يكفي فقط ان تعطي رقم ضمانك الاجتماعي وعنوانك الثابت مع رقم هاتفك الارضي، ومكان عملك وراتبك السنوي (حتى من دون اوراق تثبت صحة رقم مدخولك السنوي)، لتحصل على بطاقة اعتماد تبدأ ب 2000 دولار وقد تتجاوز 20 الف دولار من الشركة الواحدة.
كان المواطن الاميركي او المقيم شرعا في الولايات المتحدة، يمكنه الاعتقاد ان بحوزته عشرات الالاف من الدولارات، ويكفيه ان يسدد منها حدا ادنى لا يتجاوز بضع مئات شهريا، لكي يضمن استمرار امتلاكه بطاقة الائتمان.
شراء السيارة في اي ولاية اميركية كان لا يحتاج الى اكثر من بضع ساعات، ويخضع للشروط نفسها اعلاه، حتى تتم عملية الشراء...
حتى امتلاك المنزل لم يكن اكثر صعوبة رغم اننا نتحدث عن مئات الاف الدولارات. يكفي ان يكون لديك معدل متوسط في سجل الاعتماد (CREDIT SCORE) حتى يتسنى لك التوقيع على اوراق تملك المنزل الذي تحلم به... بل واكثر من ذلك كان بامكان المواطن الاميركي او المقيم شرعا في الولايات المتحدة، ان يحصل على خط ائتمان عن منزله (HOME EQUITY LOAN)، يصل الى تسعين في المئة من قيمة الفارق بين سعر منزله عند شرائه وقيمته بعد عام تقريبا، حين كانت اسعار العقارات تشهد انفجارا في قيمتها.
اين اصبح الحلم الاميركي اليوم بعد الانهيار الكبير الذي ضرب كل الامتيازات التي كان يحصل عليها المواطن الاميركي او المقيم شرعا في الولايات المتحدة؟
في تحقيق نشرته قبل ايام صحيفة "واشنطن بوست" عن سوق مبيعات السيارات في الولايات المتحدة، اعلنت شركة جنرال موتورز ان مبيعاتها تراجعت بنسبة 27 في المئة في شهر ايلول الماضي، مقارنة بالشهرنفسه من العام الماضي.
شركة نيسان بدورها اعلنت عن تراجع مبيعاتها بنسبة 36.3 في المئة وشركة فورد 34.5 في المئة وتويوتا 32.3 في المئة.
شركة "كرايزلر" الاميركية بعد الارتفاع الكبير في اسعار الوقود، اوقفت امكان استئجار او ال (LEASE) لبعض انواع سياراتها الفخمة العالية الاستهلاك، لعدم وجود طلب عليها فيما هبطت بشكل حاد اسعار غالبية السيارات الكبيرة وسيارات الدفع الرباعي عند تويوتا ونيسان وجنرال موتورز وكرايسلر وفورد...
روبير بسام مواطن اميركي من اصل عربي صاحب معرض لبيع السيارات واصلاحها في ضاحية " تايسون كورنر" بالقرب من العاصمة واشنطن، وهو من المقتدرين ماديا، لم يعد يقود سياراته الثلاث، "لامبورغيني" قيمتها 450 الف دولار او "البورش" او حتى الـBMW 750، وصار يفضل استعمال سيارة "هيونداي" احساسا منه بانه من غير المنطقي ان تتجول باحدى سياراتك الفخمة، فيما الازمة تضرب عميقا بمحيطك.
يقول بسام ان مبيعاته الشهرية كانت تتجاوز الالف سيارة من مختلف الانواع، وهي اليوم لا تتجاوز ال 500 سيارة. كان المواطن الاميركي من الطبقة الوسطى يسأل عن سيارة "تويوتا كامري" مجهزة تماما، من فرش الجلد الى ال GPS او نظام الملاحة عبر القمر الاصطناعي، والتي يفوق ثمنها الـ32000 الف دولار. اليوم يكتفي بـ"تويوتا كامري" عادية لا يتجاوز ثمنها الـ22000 الف دولار.
يضيف بسام، كيف لهذا المواطن الاميركي ان يتجرأ على شراء سيارة جديدة حين يطالع كل يوم الصحف ومحطات التلفزة الاميركية، وهي تحمل انباء الانهيارات الاقتصادية؟
شركات الـVISA CARD و الـMASTER CARD والـAMERICAN EXPRESS وغيرها من شركات التسليف المالي وبطاقات الاعتماد، عمدت الى خفض قيمة الاعتمادات التي كانت تقدمها الى الافراد.
خفضت تلك الشركات او غالبيتها، قيمة الاعتماد عبر قضم تدريجي لقيمة القرض عند كل تسديد شهري.
فالمواطن الذي كان لديه خط ائتمان ب 20 الف دولار، وانفق منه 12000 دولار، ابلغته الشركة انه بلغ الحد الاقصى عند هذا الرقم، وبدأت بخفض هذا الخط تدريجا في محاولة منها للتخفيف من حجم الكتلة النقدية المتداولة بين ايدي المواطنين، خشية عدم تحصيلها مستقبلا، اذا اعلن هذا المواطن عجزه عن تسديد قيمة دفعته الشهرية، وبالتالي اعلن افلاسه.
اصحاب المنازل الذين فقدوا القدرة على تسديد قيمة القرض الشهرية
(MORTGAGE MONTHLY PAYMENT) اتجهوا الى اعلان افلاسهم بعد تمنعهم عن الدفع، وصاروا يحطمون بنية تلك المنازل الاساسية الداخلية، كالجدران والمطابخ والادوات الصحية وحتى اغراقها بالمياه، عند اخلائها وتسليمها للبنك صاحب القرض، غير عابئين بانهيار سجلهم المالي (CREDIT SCORE HISTORY).
فاعادة بناء السجل المالي تحتاج تبعا للقوانين الاميركية الحالية الى ثلاث سنوات على ابعد تقدير، لذلك يضحي هؤلاء بسمعتهم المالية، خصوصا اذا كان هناك اكثر من معيل في العائلة الواحدة، كالزوج والزوجة او حتى الاولاد. فالسجل المالي ليس مشتركا بين هؤلاء ويمكن تاليا الحصول على قروض جديدة على اسم واحد منهم.
ارتياد المطاعم والحانات تقليد محبب لدى الاميركيين او المقيمين شرعا في الولايات المتحدة. اليوم صار الامر امتيازا او تدللاً لا يحصل عليه الكثيرون فتسديد قيمة فاتورة الطعام كان عبر بطاقة الائتمان. ومؤجل على اية حال اليوم صار الزاميا عند الكثيرين ان يسدد من بطاقة الادخار (DEBIT CARD).
اليوم تغير اسلوب الحياة الاميركي... انها ازمة عميقة بكافة المقاييس، والخروج منها لن يحصل ب "مظلة ذهبية"، على ما قاله النائب عن ولاية كاليفورنيا الديموقراطي جورج ميللر رئيس لجنة التعليم والعمل في مجلس النواب الاميركي.
لكنها ازمة تشير الى ان "الحلم الاميركي" المنهار صار يحتاج الى اكثر من مظلة ذهبية او عصا سحرية... صار يحتاج الان الى اعادة نظر في النظام المالي والنقدي الاميركي، على ما قاله اخيرا كل من المرشحين الرئاسيين باراك اوباما وجون ماكين.