"رب ضارة نافعة"، مثل عربي شائع يتبادر الى الاذهان هذه الايام، ونحن نتابع انباء الاعتراضات والمسيرات الشعبية العراقية احتجاجاً على ما يسمى "اتفاقية امنية اميريكية – عراقية" وعلى نحو يشير الى بروز اجماع وطني عراقي مدرك لخطورة هذه الاتفاقية ومصمم على رفضها خصوصاً انها باتت السهم الاخير في جعبة ادارة بوش التي تغادر البيت الابيض فيما الفشل يحاصرها، والارتباك يزعزع صورتها منذ ان اتخذت قرار الحرب على العراق فاحتلاله قبل خمس سنوات ونيّف ليتصاعد بالمقابل الاعتراض الشعبي والسياسي الامريكي بوجهها مع تصاعد الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية والاخلاقية الفادحة لتلك الحرب.
وعلى الرغم من المحاولات البائسة التي يبذلها الجانب العراقي المشارك في توقيع "اعلان المبادئ" في 26/11/2007 للتخفيف من مخاطر الاتفاقية على الصعيدين العراقي والاقليمي، فان هذا الجانب لا يستطيع ان ينكر حجم المخادعة والمراوغة الهائل الذي تبذله الحكومة الامريكية للحيلولة دون عرض هذه "الاتفاقية" على الكونغرس الامريكي الذي لا يصادق الا على المعاهدات، وهذا ما يفسر التلاعب بالاسم (اتفاقية لا معاهدة) رغم ان المضمون هو مضمون معاهدات بالدرجة الاولى.
كما لا يستطيع احد ان ينكر الحرص الامريكي على اخفاء دور المتعاونين مع المحتلين والمحاصرين في "المنطقة الخضراء" والذين يكتشف العراقيون كل يوم مدى ضلوعهم، لا في مشروع الحرب على بلادهم واحتلالها وتدمير وحدتها فحسب، بل ايضاً في مخطط ادامة هذا الاحتلال لبلادهم، ونهب خيراتها وتحويلها الى قاعدة عسكرية وسياسية ونفطية هائلة للمشروع الامبراطوري الامريكي المترنح تحت ضربات المقاومة العراقية الباسلة.
واذا كانت خدعة "نقل السيادة" الى العراقيين والتي اشرفت على تمريرها الامم المتحدة في 30/6/2004 لم تنطل على العراقيين، ولم تنجح في تغطية الاحتلال وقواته بالمسميات الجديدة " قوات متعددة الجنسبة" ، ولم تغيّر من واقع الاحتلال ومن ممارساته الوحشية ضد شعب العراق بكل فئاته ومناطقه ومدنه، فان مصير "الاتفاقية" التي يجري التفاوض عليها لاعلانها في 31/7/2008 لن يكون افضل من مصير الخدعة السابقة خصوصاً مع شعب مجاهد ومجّرب وعريق في اسقاط كل المعاهدات الاجنبية والاحلاف الاستعمارية، كمعاهدة "بورتسموث" الشهيرة المعقودة مع سلطات الاستعمار الانكليزي عام 1948، وكحلف بغداد السيء الصيت الذي اسقطته ثورة 14 تموز قبل نصف قرن تماماً، وكشركة نفط العراق التي جرى تأميمها في 1/6/1972 ليستعيد العراق سيطرته على موارده النفطية والتي تحاول "الاتفاقية" الجديدة، و "قانون النفط" الموازي لها، وضع اليد الامريكية عليها.
قد يكون من المفيد تبيان مخاطر ما تتضمنه الاتفاقية المزمع اعلانها في نهاية تموز (يوليو) القادم، سواء لجهة تقديمها "ضمانات امنية اميريكية للعراق"، و "تسليح وتدريب قوات الامن العراقية"، و "مجابهة تنظيمات المقاومة"، بذريعة مقاومة ما يسمى الارهاب "والذي منحت الاتفاقية الجانب الامريكي " حق احتكار تفسير الارهاب" ليطال كل مناهض للاحتلال"، وصولاً الى احتفاظ الجانب الامريكي "بحق السيطرة على الاجواء العراقية حتى ارتفاع 29 الف قدم"، كما احتفاظه "بحق اعتقال وسجن اي عراقي يعتقد الجيش الامريكي انه يشكل تهديداً لامنه" و "بحق شن اعمال حربية لملاحقة الارهاب من دون الرجوع الى الحكومة العراقية"، و "بحصانة قانونية للجنود الامريكيين تحول دون ملاحقتهم بغض النظر عن الجرائم التي يرتكبونها"، و"بحصانة قضائية مشابهة للعاملين في الشركات الامنية الامريكية"، بالاضافة الى ما تردد من ان الجانب الامريكي يسعى في بعض الملاحق السرية الى حيازة "حق انشاء سلسلة من القواعد العسكرية الامريكية الدائمة ( وقد بدأ انشاء بعضها بالفعل) وهي قواعد لا تحتاج – حسب النص المقترح – الى تجديد الموافقة على وجودها لانها مرتبطة بالاتفاقية التي يمتد عمرها الى 99 عاماً.
ومن المفيد كذلك ان يقوم خبراء القانون الدولي بابراز مدى انتهاك هذه الاتفاقية المعقودة بين محتل (بكسر التاء) ومحتل (بفتح التاء) للاتفاقيات الدولية ذات الصلة والتي لا تسمح لمن كان يحتل بلداً اخراً ان يفرض على هذا البلد اتفاقات جائرة تمس سيادته الوطنية وابسط مقومات استقلاله.
ومن المفيد ايضاً التذكير بان وظيفة هذه الاتفاقيات لا تنحصر بادامة الاحتلال الامريكي للعراق، بل وتحويله الى استعمار دائم، فحسب، ولا تسعى فقط الى اخراج العراق من انتمائه القومي ودوره الحضاري كما حاولت اتفاقيات (كمب ديفيد) ان تخرج مصر من دورها القومي في صراع الامة مع اعدائها، بل ان وظيفة هذا الاتفاق ايضاً هي في تحقيق الهدفين اللذين وقفا وراء حرب بوش على العراق وهما: اولا تأمين السيطرة على موارد النفط العراقي (وقد بلغت اسعاره ارقاماً قياسية، فيما المخاوف تتصاعد من احتمالات نضوبه مما يعطي للاحتياطي النفطي العراقي اهمية خاصة)، وثانياً ضمان امن الكيان الصهيوني وقد بدا اكثر اهتزازاً وتصدعا ًمع تصاعد المقاومة الفلسطينية، ومع انتصارات المقاومة اللبنانية، ومع احتدام الصراعات الحزبية والسياسية داخله.
لكن الفائدة الاكبر المرجوة من مواجهة هذه الاتفاقية تكمن في قدرة العراقيين (وقد توحدوا على مختلف مشاربهم وتياراتهم ومكوناتهم الاجتماعية على رفضها)، على ترجمة هذا الرفض الى تحالف وطني عراقي عريض عابر لكل آلوان الطيف العراقي وقادر على الخروج من حساسيات الماضي وجراحه، وحسابات الحاضر ومصالحه الضيقة، الى رحاب مشروع الاستقلال الوطني الناجز، والنظام الديمقراطي التعددي الذي لا اقصاء فيه ولا استئثار، لا احتكار فيه ولا استبعاد، لا انكار فيه لحق الاخر ولا اغفال.
فالعراقيون الذين نجحوا خلال خمس سنوات ونيف ان يثبتوا للعالم باسره، وللامريكيين بشكل خاص، انهم باتوا بمقاومتهم وجهادهم وصمودهم، الرقم الاصعب في المعادلة الامريكية الداخلية والخارجية، والبند الاول في جدول اعمال استحقاقاتهم الانتخابية، التشريعية والرئاسية، مدعوون اليوم الى استكمال الانجازات التي حققوها عبر المقاومة بإنجازات ملموسة على طريق تحرير بلدهم والتعجيل باجلاء المحتل عن ارضهم، وهي انجازات يدرك كل عراقي، بالبداهة، ان تحقيقها مرهون بتلاقي القوى الوطنية العراقية، قومية واسلامية ويسارية وليبرالية، عربية وكردية وتركمانية، حول برنامج المقاومة المرتكز على وحدة وطنية داخلية والمتطلع الى عراق عربي ديمقراطي موحد.
ان هذه الدعوة الواضحة التي حملها المخلصون للعراق قبل العدوان، وبعده، وطيلة سنوات الاحتلال، لا تنكر بالطبع حجم الجراح المتبادلة بين فئات عراقية متعددة، ولا تقفز فوق اخطاء وخطايا وقعت قبل الاحتلال وبعده، ولا تغفل وجود حواجز، بل سدود، دموية ونفسية وسياسية، قامت بين العراقيين على مدى خمسين عاماً، لكن هذه الدعوة تدرك في الوقت ذاته ان دروس الماضي هي عبر نستفيد منها لا سجون نبقى اسرى جدرانها، وانه اذا كانت حكايات التاريخ البعيد والقريب، واساطيره احياناً، تفرق بين العراقيين، فان ضرورات المستقبل توحد بينهم، واي ضرورة اهم من رؤية العراق محرراً موحداً، عربياً ديمقراطياً، قادراً على صون موارده وتطوير طاقاته وامكاناته.
اما تجارة الايقاع بين العراقيين فهي بلا شك تجارة رائجة يجيدها منتفعون كثر بمحنة العراق من داخل ارض الرافدين وخارجها، وهي قادرة بوسائل متعددة، ان تحاصر اي تحرك يريد توحيد الطاقات والجهود، وتضع بين دواليبه العصي، وعلى طرقاته الالغام المتفجرة، ويجهل اصحاب هذه التجارة قوله تعالى في كتابه العزيز "أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين".
فأبناء العراق مدعوون الى التوحّد في مواجهة الاحتلال وافرازاته وفي مقدمها "اتفاقية التعاون والصداقة بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الامركية" كما جاء في "اعلان المبادئ" الذي صدر في الخريف الفائت متناسياً ان التعاون والصداقة تقوم بين دولة مستقلة وحرة وذات سيادة لا بين خاضعين لاملاءات المحتل وبين اسيادهم المحتلين..
اما ابناء الامة واحرار العالم فمدعوون اليوم اكثر من اي وقت مضى الى الالتفاف حول مقاومة العراقيين ونضالهم والامتناع عن اعطاء اشارات مؤذية وخاطئة يستخدمها المحتل وادواته للايحاء "بسلامة وضعهم"، و"قوة موقفهم"، و"شرعية منظومتهم"، وبأن اعترافاً عربياً واسلامياً يتصاعد "بحكومة" لا تجرؤ ان تقيم خارج تحصينات المنطقة الخضراء، بل ان سفارات عربية تفتح من جديد في بغداد المحتلة اذعاناً لاوامر بوش في زياراته الاخيرة، فيما كان ينتظر العراقيون ومعهم احرار الامة ان تفتح عواصم اشقائهم العرب ذراعيها لرجال المقاومة العراقية وممثليها.
والمفارقة في هذا كله انه يجري فيما الدول المتحالفة مع واشنطن تسحب جنودها من العراق، الواحدة تلو الاخرى (واخرهم بولندا)، وفيما الناخب الامريكي يتجه لانتخاب مرشح رصيده الاكبر في بلاده انه كان وحيداً في الكونغرس ضد الحرب على العراق قبل اعلانها، ووحيداً بالدعوة منذ سنوات الى سحب قوات بلاده من بلاد الرافدين.