باعتباري ناقد عنيد لليبرالية القديمة والجديدة، وممن يعتبرون الليبرالية في القرن الواحد والعشرين خارج التاريخ وليس نهايته (كما عنونت دراستي "الليبرالية في التاريخ وخارجه" نوفمبر 2007)، لا أجد حرجا في التذكير بالأبعاد الثلاثة للهيمنة الليبرالية. ذلك في وقت انضم لنا فيه رهط واسع من المفكرين والسياسيين. وبعد أن ذكّر ارتجاف بورصات العالم، نتيجة "جنوح جشع" بعض المصارف، كل الذين جعلوا من السوق ربهم الأعلى، بأن الليبرالية فقدت دورها التقدمي منذ عقود. وأن إعادة اجترارها بتعابير "جديدة" كان لتأصيل السمات الأساسية للبربرية المعاصرة أي: ربانية السوق، الإثراء غير المتكافئ، وفرملة التقدم الحقوق إنساني العالمي.
لم يحتج الأمر لأكثر من ضربة سياسية-عسكرية من دبابات قديمة لوثت البيئة في اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بمحركاتها الصدئة أكثر مما أبهرت الأنظار بمواصفاتها التقنو-حداثية، وانهيار أحد دور "النصب" العالمية المسمى ليمان بروذر، ليضع الجميع (وفي المقدمة الرئيس الفرنسي الليبرالي جدا ساركوزي) إشارات استفهام على كل العفش الإيديولوجي الذي حكم العالم منذ سقوط جدار برلين. صحيفة "لاكروا" الفرنسية تعنون: عودة الدولة، تتبعها بذلك كل الصحف الفرنسية الكبرى بعد يومين. الحائزون على جوائز نوبل في الاقتصاد، الذين سوقوا لإعتاق السوق من كل رقيب وحسيب منذ فريدمان (1976)، يتوارون عن الأنظار. كل الماكينة الجهنمية للإعلام الليبرالي في حالة أزمة. الوقائع أصدق أنباء من الشاشات والكتب. بإمكان بيرلوسكوني شراء صحفي أو خبير اقتصادي أو أصوات الناخبين. بالإمكان تصنيع Chicago Boys في صفوف منظمات للمجتمع المدني تروج لفضائل السوق وتتمول من فتاته. إلا أن أغنياء العالم، رغم فظاعة ثرواتهم، غير قادرين على سد عورات النظام الاقتصادي العالمي الراهن.
لن أخوض في أزمة اقتصادية ما زالت في بداياتها، ولن أتعب القارئ بأرقام هبوط البورصات، فهناك من علماء الاقتصاد السياسي من هم أكثر قدرة على القيام بهذا العمل. ويحتاج موضوع الهيمنة الأمريكية والإثراء غير المتكافئ لأكثر من تناول مستقل. إلا أنه من الضروري، والجوع سيزداد حضورا والبطالة ستتصاعد بشكل مجنون، أن نذّكر بما فعله النظام الليبرالي على صعيد الحريات والحقوق الإنسانية، على الأقل منذ مطلع هذا القرن.
خلال سبع سنوات مما يعرف بالحرب على الإرهاب، دفعت البشرية ثمنا باهظا، وضع كل مكتسباتها في النصف الثاني من القرن العشرين في الميزان. فبعد أن كانت الدولة العبرية وحيدة في العالم، كدولة أصدرت محكمتها العليا في 1996 قرارا يسمح باستخدام ما سمي "الضغط الجسدي المعزز"، صارت توصيات رامسفلد بترخيص أكثر من 14 طريقة للتعذيب تطبق في عدة بلدان. بلدان صديقة للإدارة الأمريكية، بما فيها المغرب والسعودية، وليس فقط في غوانتانامو وأبو غريب. لم تعد سلامة النفس والجسد حقا غير قابل للمس. ولأول مرة بعد التجربة النازية في ألمانيا، تلغي دولة غربية كبيرة (الولايات المتحدة) قانون الإحضار أمام قاض habeas corpus. من يشجب عزل السجناء "الأعداء" عن العالم من وقد أرضخ عتاة الليبرالية الجديدة مفهوم الحرية لمفهوم الأمن، بل كيف بإمكان المنتج الأول للسجون السرية في العالم اليوم الدفاع عن فكرة حظر هذه السجون؟
في مهد حق الملكية والرأسمالية، لم تعد حصانة المال والملكية الفردية مضمونة في القضايا السياسية. الاعتقال التعسفي والخطف والتسليم عاد للدول الغربية بعد غياب نسبي. ولم يعد بالإمكان الحديث في حماية الوضع القانوني لطالب اللجوء، أو حتى بعض من نال حق اللجوء. فبعد أن صدّرت أوربة للعالم الشكل الأرقى للحريات الشخصية، عادت أجهزة الأمن فيها تتعرض لهذه الحقوق بشكل عادي (سرية المكالمات الهاتفية والمراسلات البريدية وتحويل المال والتنظم في جمعية أو هيئة وعملها داخل وخارج الحدود الخ) !
كيف يمكن في وقت تصدق فيه بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا واللوكسمبورغ وهولندا والنمسا على اتفاقية بروم، التي تربط بين الإرهاب والهجرة غير الشرعية والجريمة العابرة للحدود، الحديث عن اتفاقية حقوق العمال المهاجرين؟ وكيف بالإمكان، ضمن سيادة منطق ضرب الحقوق، محاسبة روسيا الفدرالية على انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في مقدمها: حق التجمع والتنظم وهامش حركة المنظمات غير الحكومية؟ ثم أليس المهم تأقلم الصين مع السوق قبل تأقلمها مع الحريات؟ أليس الأنموذج السعودي مرضيا لكونه مطواعا بالمعنى الاقتصادي لا لكونه واحة للديمقراطية؟
إن أهم ما دافع عنه "عمانوئيل كانت" في القرن الثامن عشر أصبح، كما تقول منظمة هيومان رايتس وتش الأمريكية، "جزءا من الوقاية من الإرهاب": الممارسة المدنية ليست ضرورية إلا إذا كانت ذات جدوى عملية. لذا يجري إحياء الروابط العضوية، طائفية كانت أو قبائلية، في المنظومة السياسية للاحتلال في أفغانستان والعراق. الجمعية غير الحكومية هي المكتب المتابع من فوق، وليس العمل الميداني من تحت. التفكير ليس ممارسة للحرية إلا في ظل الأمن القومي. وبهذا المعنى، من ليس معنا هو بالضرورة ضدنا. أي أن النقد كعلم ومعيار ومساءلة بشرية ضرورية، حكمه عند الليبراليين الجدد كحكم الاجتهاد عند بعض المسلمين: معطل.
لقد أدخلتنا الليبرالية الجديدة في حقبة تسطيح وتسفيه للخطاب الديمقراطي وحقوق الإنسان. هذه الحقوق التي أعطاها الفكر الليبرالي الأوربي زخما فكريا كبيرا كحقوق مدنية وسياسية طبيعية، باستعارة التعبير السائد في القرن الثامن عشر. كما وأعطاها الصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي داخل وخارج أوربة، بما في ذلك الاستعمار المباشر وحركات التحرر الوطني، بعدا جديدا تمثل في حق تقرير المصير والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكان للحرب الباردة الفضل في تدوين هذا البعد التاريخي، الذي كان محصورا حتى 1938 في أرشيف المنظمات غير الحكومية وحركة حقوق الإنسان، في عهد صادر عن الأمم المتحدة. كما كان للنضال من أجل وقف التدمير المتسارع للميراث البيئي لملايين السنين أن بلور مفهوم الحقوق البيئية. وللنضال ضد الفساد على الصعيد القومي والعالمي أن تمخض عن إعلان عالمي ضد الفساد. إضافة إلى تعزيز القانون الدولي بقيام محكمة جنائية دولية. كل هذه الإنجازات لم تكن ابنة المدرسة الليبرالية في الفكر والسياسة. بل يمكن القول أن معظمها كان بمواجهة مباشرة مع الليبراليين الجدد. وهي وليدة نضالات نقابية وشعبية ومنظمات مدنية ديمقراطية التكوين والممارسة عريقة الاستقلالية في الأداء، تمكنت من تأصيل مفهوم جديد اسمه "كل الحقوق للجميع". ناهضت به هذه التيارات الخلاقة وبآن معا، كل من التوتاليتارية السوفيتية وعقلية الهيمنة الأمريكية.
الدفاع عن حقوق الإنسان، وفق الشرعة الدولية لهذه الحقوق، يفترق إذن بشكل كبير عن التوجه الليبرالي. فهو يتعرف على نفسه في التنمية المستدامة أكثر منه في اقتصاد السوق(ثلاث دول اعترضت على مفهوم حق التنمية في الأمم المتحدة: الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان). طموحه دولة الرفاه وليس الدولة الأمنية المالية الجديدة. هدفه تغيير المنظومة العولمية للهيمنة، وليس احترام طاعة الصغير للكبير وانتصار قانون القوة على قوة القانون.
----------------
مفكر وحقوقي عربي يعيش في فرنسا