بعض جوانب أزمة الرأسمالية الأميركية وانعكاساتها المحتملة على لبنان - ماري ناصيف ـ الدبس
يعيش التوجه النيوليبرالي المتوحش، الذي أطلقه الرئيس الأميركي رونالد ريغان في ثمانينات القرن العشرين، مراحله النهائية، بعد الإنهيار الحاد الذي أصاب البورصات العالمية وكبريات المصارف، إن في الولايات المتحدة أم في أوروبا والعالم أجمع، والذي اضطر معه الحكومات الى اللجوء الى سياسة التدخل المباشر للتخفيف من حدته وتأثيراته السلبية على الرأسمال المعولم... إلا أنه، وبالرغم من كل الرساميل، التي ضمنتها إدارة جورج بوش الأبن لوقف الإنهيار، وكذلك من التدابير التي اعتمدت تأميم خسارة الأغنياء وتحميل أوزانها للفئات الشعبية وصغار المودعين والتي قيل فيها أنها تدابير "إشتراكية"؟!)، سيكون لهذا الوضع الجديد الناشيء في أسواق المال العالمية أثاره المباشرة في دخول الدول الرأسمالية مرحلة جديدة من الركود، من أول مفاعيلها التزايد المطرد للبطالة وتوسع الهوة بين فقراء العالم وأغنيائه.
أزمات دورية وتحذيرات
في هذه الأيام، تذهب بنا الذاكرة الى كتابين مهمين صدرا ما بين أواخر خمسينيات وأواخر ثمانينات القرن الماضي.
الكتاب الأول، وهو بعنوان "أزمة العام 1929 الإقتصادية"، من تاليف الإقتصادي الأميركي غالبريت (Galbraith) ، صدر في العام 1954، في وقت كانت فيه البورصة الأميركية تعطي إشارات اهتزاز جديد، يقارب اهتزاز العام 1929، لم يلبث أن ظهر الى العيان في 8 أذار 1955، يوم خسرت أسهم الصناعة ثلاثة مليارات دولار دفعة واحدة في بورصة نيويورك.
أما الكتاب الثاني، للإقتصاد البريطاني بول كيندي Kennedy) ) ، فصدر في العام 1988، باسم "ولادة وأفول الدول العظمى"، وأرّخ لخمسة قرون من الزمن محللاً، خلالها، الأسباب الجيوسياسية لتكوّن الامبراطوريات وإنهيارها ومنها الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية.
ما يجمع بين هذين الكتابين هو لفت النظر الى الدور السلبي للمضاربات في البورصة وتأثيرات هذا الدور على الإقتصاد العالمي، كونه يحد من إمكانيات القطاعات المنتجة التي تسهم في تنظيم الدورة الاقتصادية وتمنع عنها الجمود والركود. كما نرى في كلا الكتابين تركيز على ضرورة إشراف الدول، عبر مصارفها المركزية، على رفع الملاءة المالية بالنسبة للمضاربات، فيطالب غالبريت، مثلاً، بالا تقل عن 75% من قيمة الأسهم التي يجري تداولها، بما يحدّ، في حال السقوط او التعثر، من تأثير تلك المضاربات على الاوضاع الإقتصادية عموماً وبما لا يؤدي، كما هي الحال اليوم، الى لجوء السلطات الى مصادرة اموال المودعين الصغار (الفقراء) لتغطية أخطاء المضاربين (الأغنياء).
المتابعة .... والخلاصات
إن إشارتنا هذه تعود الى كون متابعة أوضاع الولايات المتحدة، بالتحديد، وكبريات الدول الرأسمالية الأخرى في العالم تضعنا أمام الأمور التالية:
أولاً: منذ بدايات الألفية الجديدة، يشكل القطاع المالي ضمن الناتج المحلي العنصر الأكثر أهمية، متفوقاً بشكل واضح وحاد على النشاط الصناعي. ومردّ ذلك الى المضاربات التي تبرز في التقنيات الجديدة المتبعة والتي تؤدي، جميعها، الى التلاعب والصفقات...
ثانياً: إزدياد الإرتهان الى المصارف داخل الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة (وحتى في أوروبا)، نتيجة تراكم الدبون العائدة الى طموح افرادها الى تملك المساكن التي يعيشون فيها. بالمقابل، انخفضت نسبة الإدخار لدى هذه العائلات الى ما يقارب الصفر...
ثالثاً: ارتفاع العجز في الميزان التجاري الى نسبة قياسية (60% من الناتج الخام في الولايات المتحدة، على سبيل المثال)، مترافقاً مع تسارع معدل الهزات في مجالات البورصة والمضاربات المختلفة، وبالتحديد ارتفاع اسعار النفط الخام في الآونة الاخيرة.
رابعاً: ازدياد الفضائح المالية والإختلاسات من قبل المسؤولين (صغاراً او خاصة كباراً) عن المؤسسات المالية. وما ينشر اليوم حول هذا الموضوع يذكرنا بأحداث مماثلة وبفضائح نشرتها الصحف الأميركية في الأعوام الممتدة من 2001 وحتى 2005، حيث تقاضى موظفون كبار في شركات، ومنها من كان قد أعلن إفلاسه، مئات ملايين الدولارات على شكل علاوات، الى جانب أجور خيالية لرؤساء مجالس إدارة بعض الشركات، كتقاضي رئيس مجلس إدارة "أميركان اكسبرس"، راتباً قيمته 14.5 مليون دولار في العام 2001، في وقت كانت فيه الشركة تعلن عدم تمكنها من تحقيق اهدافها المالية... الخ
لبنان والاقتصاد المُدَولر
إن الهدف من التذكير بهذه الأمور هو لفت النظر الى إحتمال تأثّر الإقتصاد اللبناني "المُدَولر" بهذه الأوضاع سريعاً، خاصة وأن التطمينات التي اطلقها رئيس الوزراء، فؤاد السنيورة، ووزير المالية، محمد شطح، غير واقعية وتثير، بالتالي، الكثير من التساؤلات حول وضعنا الفعلي.
ذلك أننا، إذا ما درسنا ملياً التدابير المتخذة في الولايات المتحدة، بما في ذلك ضخ مبلغ 700 مليار دولار الى الاسواق، وكذلك في الاجتماع الرباعي الأوربي، والدعوات الصادرة لعقد قمة دولية لمراجعة قواعد الرأسمالية، فإننا نجد أنفسنا أمام تدابير وتوجهات لن يظهر مردودها قبل مدة طويلة ولن توقف عملية الإنكماش والركود في الإقتصاد الأميركي والرأسمالي العالمي بالتالي.
وكون لبنان، ذي الاقتصاد "المُدَولر"، لا زال يعاني من إستمرار السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية الخاطئة، المتمثلة في القرارات الصادرة عن مؤتمرات باريس المتعاقبة، وبالتحديد باريس -3، عدا عن تأثيرات العدوان الصهيوني الأخير، صيف العام 2006، فهو، إذاً، عرضة لانتكاسة جديدة تذكرنا بالأيام السوداء التي عشناها بعد ايار 1992 والتي اسست للديون المتزايدة ابداً، راهنة مصير شعبنا، لأجيال قادمة عديدة، الى توجهات الرأسمالية المتوحشة..
بينما الإنتاج الصناعي والزراعي يتراجع، ويتقلص دوره، وتقل قيمته، مؤدياً الى زيادة معدلات البطالة والى إفلاس المؤسسات الصغرى...الخ.
هذه الأوضاع تستدعي إعادة نظر كاملة وشاملة بمقررات مؤتمر باريس -3 الى جانب تدابير في مجال المضاربات التي تشهدها عادة أسواق بيروت، ودراسة واقعية لأوضاع المصارف واحتياطها، وتعديل نسبة هذا الإحتياط... وذلك حتى لا نشق رؤوسنا بعد فوات الآوان.
المصدر: النداء (11 تشرين الاول 2008 )
الكاتبة عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني ومدرسة جامعية